“”حميـدتي” و”بريغوجيـن رموز لتحولات سياسـية قادمـة
جمال محمد ابراهيم
1 July, 2023
1 July, 2023
(1)
لعلّ النظر الثاقـب لمجريات الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى المستوى الكوني، وفي سنوات العقد الثالث من الألفية الثالثة، يحيلنا إلى ضرورة التمعّن الجاد لتحولات آخذة بعناق المجتمعات البشرية إلى تحوّلات كبرى ، تجليات مقدماتها بائنة . على المستوى الاجتماعي- وفي أقرب مثال- عرفت البشرية الطواعين ومثيلاتها من الأوبئة الفتاكة ، لكنها لم تشهد جائحة مستشرية على مستوى العالم ، مثل جائحة الكورونا التي شكلت اختبارا لم تتحقق لاحتوائه نجاحات تذكر ، كما بقيت معضلة معــرفة مسبباته ماثلة دون حل قاطــع. إذ شهدنا كيف ظلت أطراف في المجتمع السـياسي الدولــي تتبادل الاتهـــامات عـمّن تســبَّب فيــها ، فصارت بذلك مدعــاة لتوتراتٍ، أمسكتْ بأعناق البشرية، فيما تبدّى عجز المنظومة العالمـــية التي تقع عليها مسئوليات الحماية من الأوبئـة عن حســم الأمر . تتعثر اجتهــادات منــظــمة الصــحــة العالمية وهي عرضة لتجــاذب بين كبار العالم ، يختلفـون حول من تسبّب في تلك الجائـحة : أهي يـد الطبيعة أم هي يد البشـر. . ؟ الشاهد أن المؤسسات الرسمية للدول، أو تلك التي أنشأتها الهيئاات الدولية ، أثبتت شيئاً من العجز في مجابهة إحدى التحدّيات التي جابهت البشرية والتي تمثلت مؤخراً في جائحة الكورونا. .
(2)
على المستوى الاقتصادي الدولي، ثمّة تحديات استجدت على أنظمة "بريتون وودز" التي أنشأها المجتمع الاقتصادي الدولي بعد نهاية الحــرب العالمية الثانـيــة، لتـلافي أي انهيــارات مستقبلية في مجالات التعــاون المالي والاقتصادي العالمي . تتعثر جهود تلك الأنظمـة التقليدية، في معالجة مشاكل الديون بين فقـراء العــالم وأغنيائه. في ذات الوقت يشكّل التحـوّل الرّقـمي تحــدياً ماثلا يتطلــب مـواءمــة بيــن أوضاع الاقتصاديات التقليدية التي قامت على نظم بريتون وودز التقليدية، مع الواقع الرقمي المُحدث، وتحولاته نحو تعاملات افتراضية آخذة في الاتساع وتمثل العملات الافتراضية إحدى تجلياتها الماثلة. على أن تلك التحولات لم تستقر على حال، إذ لا زالت تشهد ارتباكاً لافتاً، ولم تتوحّـد الرؤى حول ضرورة تحديث لازم لأنظمة مالية صاغتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وباتت مراجعتها ضرورة ماثلة.
(3)
أما على المستوى السياسي ، فقد لا نحتاج لتفصيل مسهب للتحــديات التي شــهدهـا المجتمع الدولي منذ سنوات القرن العشرين الوسيطة، وحتى سنوات الألفية الثالثة الميلادية. لقد أرهقت الصراعات التي اجتاحت بقاع العالم وما تبعها من حروب أهلية وإبادات جماعية وموجات ارهاب الدولي اجتاحت العالم ، ما عجزت معه الترتيبات التي توافق عليها البشــر ، قصد احتواء تبعاتها والقضاء على مسبباتها. لا زال المجتمع الدولي ممسكا بميثاق للأمم المتحدة الذي صاغه المجتمع البشري السياسي منذ عام 1945م. ولعل ما استجد من تطورات في الساحة الدولية ، كان يستوجب نظراً متجددا لميثاق الأمم المتحدة وبقية المواثيق والاتفاقيات التي رتبتها مباديء تعاون دولي يحفظ استقرار العالم وأمنه . غير أن الملاحظ أن أكثر الجهود المبذولة لتحديث تلك المواثيق والاتفاقيات لم تستجب في مجملها بفعالية للتحديات التي استجدت . وما ظفر المجتمع الدولي إلا بترميمات قانونية لسد ثغرات آخذة في الاتساع ، لا تجدي معها اتفاقيات تكميلية تلفيقية ، إلا أن يعمل المجتمع الدولي بكامل كياناته السياسية الرسمية، وكامل هـيـئات وممثلـيات مجتمعاته المدنـيـة، لابتداع صياغات مبتكرة تعالج تلك التحديات المستجدات تخاطب الجذور لا القشور ، وتعالج المتون لا الحواشي. .
لم يشهد النظام الكوني توافقاً يلغي مسبّبات تلك الصراعات التي تكاثرت وتيرتها، وتكاد أن تأحذ العالم إلى حروب تتجاوز خطورتها واتساعاتها كل الحروب التي شهدتها البشــرية في تاريخها. لم تفلح الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، في اتباع حلول تلفيقية ، سرعان ما يثبت خطلها لتتجدد الخلافات وتستشري في متواليات هندسية، يتعـذّر معها الوصول إلى حلول ناجزة .
لابد للمجتمع البشري من استبصار أعمق لمسببات تلكم الصراعات والتناقضات على المستوى الكوني، والتي تتمحور حول تزايـد أطماع أطـراف في المجتمع الـدولي ، تتنافـس لامتلاك موارد طبيعية آخـذة في النضوب والنقصان . ذلك ما فتـح الأبــواب لجـنــوح غير محمود لبسط نفوذ سياسي، لا يتجاوز مباديء المجتمع الدولي ومقرّراته وتوافقاته فحســب ، بل يتغافل عن المباديء والقـيم الأخــلاقــية التي ينبغي أن تتوفـر لحفـظ الكـيان البشــري، وتضمن سلامة مجتمعاته وأمنه واستقراره. لعلّ أوضـح مثـل هو ما ذلك الصراع الدامي بين روسيا وأوكرانيا والذي دفعت وتدفع أثمانه مجموعات بشـرية هنا وهناك ، ويتصاعد رويدا بما يمهد في أقرب الآجال ، لوقـوع حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر .
(4)
لقد شهد العالم في عقوده الوسيطة من القرن العشرين، نمـوّاً في تنظيمات مدنية خرجت من رحم المجتمعات المدنية في شكل هيئات وممثليات بعيدة عن الحكومات ، ســعتْ لاكمال نواقص التوجّهات الرسـمية للدول، في مجالات حيوية للتعاون الدولي وقضاياه الملحـة والتي تركت آثاراً سلبية على حياة البشر. لقد شهدت اواخر سنوات القرن العشرين واوائل سنوات الألفية الثالثة تنامي الوعي بمخاطر بعض الملفات والقضايا العالمية التي تعاظمت أهميتها لمساسـها المباشــر بمصائر ديمومة الحياة وتوازن استمرارها. من تلك القضايا ما لحــق مـن متغيّرات بقضايا البـيـئة والمنـاخ والطــاقة والاحتباس الحراري . وإن حقق ذلك الجهد المدني وغير الرسمي، نجاحات متواضعـة الأثر بسبب عظم تلك التحــديات ، إلا أنّ ما تحقـق مـن إيجابيات تظل في حاجة إلى تعزيز ودعم وإسناد تتكامل حوله الجهود الرسمية للدول مع حهود تلك المجتعات المدنية.
(5)
لقد جدّ واقع جديد ، تمثل في ضمور وتناقص الموارد الطبيعية، كان الظن أن يكون دافعا لتعزيز تعاون دولي لازم، لكنه أفضى بالعــديد من اللاعبين في الساحة الدولية إلى تنافس تم المدني تغافلت معه تلك الأطراف عن التوافقات الدولية وعن المواثيق الملزمة، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الانسان العالمية . وللأسف لم تفلح محاولات هنا أو هناك لصياغات جديدة تستصحب ما استجد من تحديات أو تعيد النظر في تلك المواثيق الدولية كافة، كما أوضحنا أعلاه.
غير أننا رأينا بعض أطراف في المجتمع الدولي الرسمي تتجه لاستغلال واقع المجتمعات المدنية فيها لممارسات سالبة عوض أن تنشيء تعاونا إيجابيا مثمرا. رأينا أنظمة رسمية وخكومات راشدة تتجه لإنشاء كيانات عسكرية لا تتبع لها في العلن وإن كانت هي من أنشأتها في الخفاء، تأتمر بقرارات الدولة رسميا ولا تتحمل مسئولياتها في العلن.
أصدق مثلين لمثل هذه الممارسات السلبية والشريرة، هي حالة قوات الدعـــم السريع في السودان والتي قد يكون إنشاؤها تـمّ بإيعاز من أطراف أجنبية بين عامي 2013 و2014 . لقد شهد متابعون لأحوال السودان استعانة الطاغية البشير قبل أعوام قليلة من سقوطه ، بمجموعات من شركة "فاجنــر" الروسية ، والتي عرف عنها تمددها في القارة الأفريقية بعد أن نشطت في سوريا وفي بعض أقطار امريكا اللاتينية. الخفاء تأتمر بقراراتها . لعل أصدق مثال للعيان هو ما تمثـله منظمة "فاجنر" التي نشأت في روسيا ، وتمددتْ فصارت لها أصابع وأنشطة أجنبية لا تعرف لها حدود .
(6)
لو كان الاستعمار الكولونيالي القديم قد نشأ على أيدي امبراطوريات وحكومات دولٍ غابت عنها الشمس ، فإنّ المواثيق الدولية التي ابتدعها المجتمع الدولي، قد أنهـتْ ظاهــرة الاستعمار الكولونيالي التقليدي ، إذ نالت معظم المستعمرات القديمة خاصة في أفريقيا وآســيا والأوقيانوس وأمريكا اللاتينية ، استقلالها وطوى العالم صفحــة ذلك النوع من الاســـتعمار التقليدي وانطوتْ صفحاته تماما..
غير أن ظاهرة الارتزاق من الحروب ظل ممارسا لسنوات بعد انطواء سنوات الحرب العالمية الثانية . ولإن تمت إدانتها من قبل المنظمة الأممية ، لكنها عادت في السنوات الأخيرة بأنماطٍ وتشكيلات غير معهودة . ما تقوم به منظمات عسكرية تدعي خروجها من مجتمعات مدنية ، وليس من قبل حكومات رسمية، مثل مجموعة "فاجنــر" التي يقــودها "برغوجين" في روســيا ، أو "قوات الدعم السريع" التي يقودها "حميدتي" في السودان . من الغريب أن يدّعي هذان التكوينان شبه العسكرييـن ، استقلالها عن حكـــــوماتها رسميا، لكنها تخدم في الخفـاء مطامع حكومات رســمية، أو أجـنـدات خاصة بكلٍّ من الكيانين ذلك ما يمثل نوعا محــدثاً من عودة الممارسـات الكولونيالية الارتزاقـية بلبوسٍ غير الذي ســاد في أوائل ســنوات القــرن العشرين وما قبله من سنوات عجاف، سام فيها المستعمرون الأقوياء البلدان والمجتمعات الضعيفة في أنحاء العالم، أنماطا من الإذلال والسيطرة طيـلة ســنوات طوال.
(7)
لعلّ ما تم رصده من أنشــطة تقوم بها منظمة "فاجنـر" الـروسية فيما وراء البحــار ، يصنف من بين هذه التكوينات العسكرية أوشبه العسكرية مجازاً ، والطريف بل والمريب حقاً، هو عزوف الإعلام العالمي عن الاشارة إلى مثل هذه التكوينات بمسماها القديم كمجموعة مرتزقة . لقد خرجت مجموعة "فاجنر" من خاصرة الجيش الروسي وبرعاينه. لعبت قوات "فاجنر" الروسية أدواراً في غرب أفريقيا غير خافية ، يعرف طبيعتها النظام الروسي كامل المعرفة ، ولكن لن يجرؤ أي طرف أن يشير بإصبع إتهام للدولة الروسية. .! وعلى ذات النحو فقد خرجت قوات الدعم السريع في السودان من رحم الجيش السوداني. في إطار التنافس الدولي بين القوى العظمى في أطراف العالم الثالث بمدلولاته القديمة ومدلولاته المستحدثة كعالم زاخر بثروات موارد يسيل لها لعاب الكبار، وتتحكّم بالسيطرة عليه أنظمة هشة وفاشلة، فإن التنافس على تلك الموارد يصبح سمة من سمات التافس الدولي المتجدد، ووفق معطيات يتم فيها استغلال موارد الشعوب المستضعفة بأيدي بنيها . غير أن مثل هذه التكوينات العسكرية وشبه العسكرية قد تخرج عن طوع التحكم الرسمي. شهدنا قوات الدعم السريع تخرج عن الطوع الرسمي فنشن حربا على الجيش الرسمي للدولة. في روسيا تهدد مجموعة "فاجنر"
الكرملين تهديدا صريحا ، وإن تم احتواؤه على عجل لكنه يظل تهديدا ماثلا.
ومثل بعض قوات الدعم السريع السودانية التي تقاتل في اليمن، وتشكل كلاهما جماعات عسكرية مقاتلة، تخرج للعمل بأذونات من حكومات رسمية.
(8)
ما أوردنا من إشارات في الساحة الدولية - فيما العالم ماضٍ في سنوات ألفـيته الثالثة-
تشكّل تنبيهات بالغة القوة للحاجة لأن يبتدع المجتمع الدولي ما يعيـنـه على تجــاوز كلّ هــذه السلبيات الماثلة، فيجنح لابتكار الجديد الذي يحمي الوجود البشري، عبر الارتكـاز على مباديء وثوابت سياسية وأخلاقية ، فلا يتهدّد ذلك الوجـود ، فـنـاءٌ محـدقٌ يتحقـق على أيـدي أبنائه. إنّ إشارات الخطر تـنـبّـه إلى ضرورة الالتفـات لمراجعـة المواثـيـق الدولـيـة في كافة المجـالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بما يُعيـن على احتواء نزعات التنافس الظالم بين أقوياء العالم وضعافه، والقضاء المبرم على محاولات "الكولونياليــة الذكيــة" التي برزتْ بلبوس مستحدث للسيطرة على موارد وثروات، هي ملك للبشرية جمعـاء وليست وقفاً على بعض كبار المجتمع الدولي. لإن كانت مهددات بقاء المجتمع البشري متماسكاً، هي من صنع أيدينا في الأغلب، فإنّ علينا أن نبتدع من الأساليب والمواثيق والمباديء ما يمكننا من صيانة موجبات بقـائه آمنـاً في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة كافة. . .
القاهرة – 23/6/2023
لعلّ النظر الثاقـب لمجريات الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى المستوى الكوني، وفي سنوات العقد الثالث من الألفية الثالثة، يحيلنا إلى ضرورة التمعّن الجاد لتحولات آخذة بعناق المجتمعات البشرية إلى تحوّلات كبرى ، تجليات مقدماتها بائنة . على المستوى الاجتماعي- وفي أقرب مثال- عرفت البشرية الطواعين ومثيلاتها من الأوبئة الفتاكة ، لكنها لم تشهد جائحة مستشرية على مستوى العالم ، مثل جائحة الكورونا التي شكلت اختبارا لم تتحقق لاحتوائه نجاحات تذكر ، كما بقيت معضلة معــرفة مسبباته ماثلة دون حل قاطــع. إذ شهدنا كيف ظلت أطراف في المجتمع السـياسي الدولــي تتبادل الاتهـــامات عـمّن تســبَّب فيــها ، فصارت بذلك مدعــاة لتوتراتٍ، أمسكتْ بأعناق البشرية، فيما تبدّى عجز المنظومة العالمـــية التي تقع عليها مسئوليات الحماية من الأوبئـة عن حســم الأمر . تتعثر اجتهــادات منــظــمة الصــحــة العالمية وهي عرضة لتجــاذب بين كبار العالم ، يختلفـون حول من تسبّب في تلك الجائـحة : أهي يـد الطبيعة أم هي يد البشـر. . ؟ الشاهد أن المؤسسات الرسمية للدول، أو تلك التي أنشأتها الهيئاات الدولية ، أثبتت شيئاً من العجز في مجابهة إحدى التحدّيات التي جابهت البشرية والتي تمثلت مؤخراً في جائحة الكورونا. .
(2)
على المستوى الاقتصادي الدولي، ثمّة تحديات استجدت على أنظمة "بريتون وودز" التي أنشأها المجتمع الاقتصادي الدولي بعد نهاية الحــرب العالمية الثانـيــة، لتـلافي أي انهيــارات مستقبلية في مجالات التعــاون المالي والاقتصادي العالمي . تتعثر جهود تلك الأنظمـة التقليدية، في معالجة مشاكل الديون بين فقـراء العــالم وأغنيائه. في ذات الوقت يشكّل التحـوّل الرّقـمي تحــدياً ماثلا يتطلــب مـواءمــة بيــن أوضاع الاقتصاديات التقليدية التي قامت على نظم بريتون وودز التقليدية، مع الواقع الرقمي المُحدث، وتحولاته نحو تعاملات افتراضية آخذة في الاتساع وتمثل العملات الافتراضية إحدى تجلياتها الماثلة. على أن تلك التحولات لم تستقر على حال، إذ لا زالت تشهد ارتباكاً لافتاً، ولم تتوحّـد الرؤى حول ضرورة تحديث لازم لأنظمة مالية صاغتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وباتت مراجعتها ضرورة ماثلة.
(3)
أما على المستوى السياسي ، فقد لا نحتاج لتفصيل مسهب للتحــديات التي شــهدهـا المجتمع الدولي منذ سنوات القرن العشرين الوسيطة، وحتى سنوات الألفية الثالثة الميلادية. لقد أرهقت الصراعات التي اجتاحت بقاع العالم وما تبعها من حروب أهلية وإبادات جماعية وموجات ارهاب الدولي اجتاحت العالم ، ما عجزت معه الترتيبات التي توافق عليها البشــر ، قصد احتواء تبعاتها والقضاء على مسبباتها. لا زال المجتمع الدولي ممسكا بميثاق للأمم المتحدة الذي صاغه المجتمع البشري السياسي منذ عام 1945م. ولعل ما استجد من تطورات في الساحة الدولية ، كان يستوجب نظراً متجددا لميثاق الأمم المتحدة وبقية المواثيق والاتفاقيات التي رتبتها مباديء تعاون دولي يحفظ استقرار العالم وأمنه . غير أن الملاحظ أن أكثر الجهود المبذولة لتحديث تلك المواثيق والاتفاقيات لم تستجب في مجملها بفعالية للتحديات التي استجدت . وما ظفر المجتمع الدولي إلا بترميمات قانونية لسد ثغرات آخذة في الاتساع ، لا تجدي معها اتفاقيات تكميلية تلفيقية ، إلا أن يعمل المجتمع الدولي بكامل كياناته السياسية الرسمية، وكامل هـيـئات وممثلـيات مجتمعاته المدنـيـة، لابتداع صياغات مبتكرة تعالج تلك التحديات المستجدات تخاطب الجذور لا القشور ، وتعالج المتون لا الحواشي. .
لم يشهد النظام الكوني توافقاً يلغي مسبّبات تلك الصراعات التي تكاثرت وتيرتها، وتكاد أن تأحذ العالم إلى حروب تتجاوز خطورتها واتساعاتها كل الحروب التي شهدتها البشــرية في تاريخها. لم تفلح الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، في اتباع حلول تلفيقية ، سرعان ما يثبت خطلها لتتجدد الخلافات وتستشري في متواليات هندسية، يتعـذّر معها الوصول إلى حلول ناجزة .
لابد للمجتمع البشري من استبصار أعمق لمسببات تلكم الصراعات والتناقضات على المستوى الكوني، والتي تتمحور حول تزايـد أطماع أطـراف في المجتمع الـدولي ، تتنافـس لامتلاك موارد طبيعية آخـذة في النضوب والنقصان . ذلك ما فتـح الأبــواب لجـنــوح غير محمود لبسط نفوذ سياسي، لا يتجاوز مباديء المجتمع الدولي ومقرّراته وتوافقاته فحســب ، بل يتغافل عن المباديء والقـيم الأخــلاقــية التي ينبغي أن تتوفـر لحفـظ الكـيان البشــري، وتضمن سلامة مجتمعاته وأمنه واستقراره. لعلّ أوضـح مثـل هو ما ذلك الصراع الدامي بين روسيا وأوكرانيا والذي دفعت وتدفع أثمانه مجموعات بشـرية هنا وهناك ، ويتصاعد رويدا بما يمهد في أقرب الآجال ، لوقـوع حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر .
(4)
لقد شهد العالم في عقوده الوسيطة من القرن العشرين، نمـوّاً في تنظيمات مدنية خرجت من رحم المجتمعات المدنية في شكل هيئات وممثليات بعيدة عن الحكومات ، ســعتْ لاكمال نواقص التوجّهات الرسـمية للدول، في مجالات حيوية للتعاون الدولي وقضاياه الملحـة والتي تركت آثاراً سلبية على حياة البشر. لقد شهدت اواخر سنوات القرن العشرين واوائل سنوات الألفية الثالثة تنامي الوعي بمخاطر بعض الملفات والقضايا العالمية التي تعاظمت أهميتها لمساسـها المباشــر بمصائر ديمومة الحياة وتوازن استمرارها. من تلك القضايا ما لحــق مـن متغيّرات بقضايا البـيـئة والمنـاخ والطــاقة والاحتباس الحراري . وإن حقق ذلك الجهد المدني وغير الرسمي، نجاحات متواضعـة الأثر بسبب عظم تلك التحــديات ، إلا أنّ ما تحقـق مـن إيجابيات تظل في حاجة إلى تعزيز ودعم وإسناد تتكامل حوله الجهود الرسمية للدول مع حهود تلك المجتعات المدنية.
(5)
لقد جدّ واقع جديد ، تمثل في ضمور وتناقص الموارد الطبيعية، كان الظن أن يكون دافعا لتعزيز تعاون دولي لازم، لكنه أفضى بالعــديد من اللاعبين في الساحة الدولية إلى تنافس تم المدني تغافلت معه تلك الأطراف عن التوافقات الدولية وعن المواثيق الملزمة، بما فيها ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الانسان العالمية . وللأسف لم تفلح محاولات هنا أو هناك لصياغات جديدة تستصحب ما استجد من تحديات أو تعيد النظر في تلك المواثيق الدولية كافة، كما أوضحنا أعلاه.
غير أننا رأينا بعض أطراف في المجتمع الدولي الرسمي تتجه لاستغلال واقع المجتمعات المدنية فيها لممارسات سالبة عوض أن تنشيء تعاونا إيجابيا مثمرا. رأينا أنظمة رسمية وخكومات راشدة تتجه لإنشاء كيانات عسكرية لا تتبع لها في العلن وإن كانت هي من أنشأتها في الخفاء، تأتمر بقرارات الدولة رسميا ولا تتحمل مسئولياتها في العلن.
أصدق مثلين لمثل هذه الممارسات السلبية والشريرة، هي حالة قوات الدعـــم السريع في السودان والتي قد يكون إنشاؤها تـمّ بإيعاز من أطراف أجنبية بين عامي 2013 و2014 . لقد شهد متابعون لأحوال السودان استعانة الطاغية البشير قبل أعوام قليلة من سقوطه ، بمجموعات من شركة "فاجنــر" الروسية ، والتي عرف عنها تمددها في القارة الأفريقية بعد أن نشطت في سوريا وفي بعض أقطار امريكا اللاتينية. الخفاء تأتمر بقراراتها . لعل أصدق مثال للعيان هو ما تمثـله منظمة "فاجنر" التي نشأت في روسيا ، وتمددتْ فصارت لها أصابع وأنشطة أجنبية لا تعرف لها حدود .
(6)
لو كان الاستعمار الكولونيالي القديم قد نشأ على أيدي امبراطوريات وحكومات دولٍ غابت عنها الشمس ، فإنّ المواثيق الدولية التي ابتدعها المجتمع الدولي، قد أنهـتْ ظاهــرة الاستعمار الكولونيالي التقليدي ، إذ نالت معظم المستعمرات القديمة خاصة في أفريقيا وآســيا والأوقيانوس وأمريكا اللاتينية ، استقلالها وطوى العالم صفحــة ذلك النوع من الاســـتعمار التقليدي وانطوتْ صفحاته تماما..
غير أن ظاهرة الارتزاق من الحروب ظل ممارسا لسنوات بعد انطواء سنوات الحرب العالمية الثانية . ولإن تمت إدانتها من قبل المنظمة الأممية ، لكنها عادت في السنوات الأخيرة بأنماطٍ وتشكيلات غير معهودة . ما تقوم به منظمات عسكرية تدعي خروجها من مجتمعات مدنية ، وليس من قبل حكومات رسمية، مثل مجموعة "فاجنــر" التي يقــودها "برغوجين" في روســيا ، أو "قوات الدعم السريع" التي يقودها "حميدتي" في السودان . من الغريب أن يدّعي هذان التكوينان شبه العسكرييـن ، استقلالها عن حكـــــوماتها رسميا، لكنها تخدم في الخفـاء مطامع حكومات رســمية، أو أجـنـدات خاصة بكلٍّ من الكيانين ذلك ما يمثل نوعا محــدثاً من عودة الممارسـات الكولونيالية الارتزاقـية بلبوسٍ غير الذي ســاد في أوائل ســنوات القــرن العشرين وما قبله من سنوات عجاف، سام فيها المستعمرون الأقوياء البلدان والمجتمعات الضعيفة في أنحاء العالم، أنماطا من الإذلال والسيطرة طيـلة ســنوات طوال.
(7)
لعلّ ما تم رصده من أنشــطة تقوم بها منظمة "فاجنـر" الـروسية فيما وراء البحــار ، يصنف من بين هذه التكوينات العسكرية أوشبه العسكرية مجازاً ، والطريف بل والمريب حقاً، هو عزوف الإعلام العالمي عن الاشارة إلى مثل هذه التكوينات بمسماها القديم كمجموعة مرتزقة . لقد خرجت مجموعة "فاجنر" من خاصرة الجيش الروسي وبرعاينه. لعبت قوات "فاجنر" الروسية أدواراً في غرب أفريقيا غير خافية ، يعرف طبيعتها النظام الروسي كامل المعرفة ، ولكن لن يجرؤ أي طرف أن يشير بإصبع إتهام للدولة الروسية. .! وعلى ذات النحو فقد خرجت قوات الدعم السريع في السودان من رحم الجيش السوداني. في إطار التنافس الدولي بين القوى العظمى في أطراف العالم الثالث بمدلولاته القديمة ومدلولاته المستحدثة كعالم زاخر بثروات موارد يسيل لها لعاب الكبار، وتتحكّم بالسيطرة عليه أنظمة هشة وفاشلة، فإن التنافس على تلك الموارد يصبح سمة من سمات التافس الدولي المتجدد، ووفق معطيات يتم فيها استغلال موارد الشعوب المستضعفة بأيدي بنيها . غير أن مثل هذه التكوينات العسكرية وشبه العسكرية قد تخرج عن طوع التحكم الرسمي. شهدنا قوات الدعم السريع تخرج عن الطوع الرسمي فنشن حربا على الجيش الرسمي للدولة. في روسيا تهدد مجموعة "فاجنر"
الكرملين تهديدا صريحا ، وإن تم احتواؤه على عجل لكنه يظل تهديدا ماثلا.
ومثل بعض قوات الدعم السريع السودانية التي تقاتل في اليمن، وتشكل كلاهما جماعات عسكرية مقاتلة، تخرج للعمل بأذونات من حكومات رسمية.
(8)
ما أوردنا من إشارات في الساحة الدولية - فيما العالم ماضٍ في سنوات ألفـيته الثالثة-
تشكّل تنبيهات بالغة القوة للحاجة لأن يبتدع المجتمع الدولي ما يعيـنـه على تجــاوز كلّ هــذه السلبيات الماثلة، فيجنح لابتكار الجديد الذي يحمي الوجود البشري، عبر الارتكـاز على مباديء وثوابت سياسية وأخلاقية ، فلا يتهدّد ذلك الوجـود ، فـنـاءٌ محـدقٌ يتحقـق على أيـدي أبنائه. إنّ إشارات الخطر تـنـبّـه إلى ضرورة الالتفـات لمراجعـة المواثـيـق الدولـيـة في كافة المجـالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بما يُعيـن على احتواء نزعات التنافس الظالم بين أقوياء العالم وضعافه، والقضاء المبرم على محاولات "الكولونياليــة الذكيــة" التي برزتْ بلبوس مستحدث للسيطرة على موارد وثروات، هي ملك للبشرية جمعـاء وليست وقفاً على بعض كبار المجتمع الدولي. لإن كانت مهددات بقاء المجتمع البشري متماسكاً، هي من صنع أيدينا في الأغلب، فإنّ علينا أن نبتدع من الأساليب والمواثيق والمباديء ما يمكننا من صيانة موجبات بقـائه آمنـاً في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة كافة. . .
القاهرة – 23/6/2023