الغزلان يجفلن حزنا على رحيل حافظ

 


 

 

آليت على نفسي ألا أكتب أو أنشر شيئا ذا بال، وخصوصاً من خلال هذه الوسائط العامة والاجتماعية، خارج نطاق ومقتضيات مهنتي الرسمية، منذ ان اندلعت الحرب في السودان قبل ما يربو عن الثلاثة أشهر، هذه الطامة الماحقة و غير المسبوقة بكل الابعاد والمقاييس، التي حلت بالسودان وشعبه الطيب الصابر الأبي. أجاره الله في مصيبته وعوضه خيرا، وجعل عاقبة امره امنا وسلاما واستقرارا وازدهارا، انه على كل شي قدير.
لكن أحزنني وشجاني غاية الشجو والاسى رحيل الفنان العبقري الملهم، الاستاذ حافظ عبد الرحمن مختار، اختصاصي العزف على آلة الفلوت المشهور داخل السودان، وصاحب البصمة الواضحة في مسيرة الحركة الموسيقية في البلاد، بمقطوعاته العذبة وذات النكهة المميزة، التي ظل يشنف بها آذان محبي الموسيقى ومتذوقيها وسائر المستمعين حيثما كانوا، منذ اوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث ارتبطت بعض مقطوعاته تلك خاصة، بطائفة من أشهر البرامج الاذاعية والتلفزيونية، والى تسعينيات ذات القرن ومطلع الالفية الجديدة حيث ارتبطت مقطوعاته برحلات الخطوط الجوية السودانية المنطلقة الى مختلف بقاع الارض. ولعل من أبكر تلك الاعمال الاذاعية، مقدمة برنامج " ضيف الأسبوع " الذي كان يقدمه الاعلامي القامة الاستاذ محمد سليمان " جراب الحاوي "، خلال النصف الاول من السبعينيات، على نحو ما فصله باقتدار ، الاستاذ معاوية حسن ياسين في مقالة تأبينية موجزة له، ولكنها محكمة وموحية، كالعهد بكتابات الاستاذ معاوية في هذا المجال، نشرها فور الاعلام الفاجع عن وفاة فقيدنا الراحل.
ينتمي الراحل حافظ عبد الرحمن الى اسرة علم وفقه وتعليم وتصوف من مدينة بارا بشمال كردفان، وأخمن حدساً أنه قد اسمي حافظاً " مثل اخي الحافظ "، تيمناً بالسيد محمد الحافظ عبد اللطيف سالم التيجاني المصري ١٨٩٨ - ١٩٧٨م، احد كبار أقطاب الطريقة التيجانية، الذين لهم حضور وتأثير ملموس بين مريدي هذه الطريقة داخل السودان، والذي ظل يتردد على زيارة البلاد بين الفينة والاخرى منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى قبيل انتقاله الى الرفيق الاعلى في عام ١٩٧٨م.
تدرج حافظ في مراحل التعليم المختلفة ، لكي يلتحق بعد تخرجه بالعمل في مصلحة البريد والبرق والهاتف. بدا حياته العملية بمدينة الابيض التي شهدت تفتح مواهبه المتعددة منذ مطلع شبابه، التي كان ابرزها ، ولعه بالموسيقى، وموهبته الفذة في العزف على الصفارة. كما نبغ كذلك في مجال رياضة كرة القدم ، حتى صار من اشهر حراس المرمى الذين ضمتهم صفوف نادي هلال الابيض. والى جانب ذلك انضم حافظ الى فرقة قريبه وابن مدينته بلوم الغرب، المطرب عبد الرحمن عبد الله، عازفاً بها ، بل شاعراً مبدعا، كتب له أشعار بعض أغنياته.
ومن الابيض انتقل حافظ كما تقول سيرته الباذخة، الى مدينة نيالا الساحرة، التي اوحت له بالعديد من اللونيات والانماط الموسيقية التي وسمت اسلوبه بصفة عامة، وخصوصا ايقاع " الفرنقبية " الشهير في تلك المنطقة ، والتي قيل ان معناها " الغزلان جفلن ! ".
والفرنقبية هي عبارة عن رقصة في شكلٍ موكب استعراضي او " سيرة " ، تؤدى بواسطة جوقة من الفتيات والنساء والصبية والاطفال خبباً على الاقدام، بمصاحبة ايقاع سريع ومتحفز ، مع التلويح بالرؤوس والشعور، وبأهداب الثياب يمنة ويسرة ، وهن يرددن أهازيج من قبيل:
تُسّة اقعد ساكت .. حرام ليك
دلّكوه بى دلكة .. حرام ليك
غطوه بى فركة .. حرام ليك .. الخ
شاهدتُ الفرنقبية واستمتعت بادائها في نيالا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، خلال ذات عطلة مدرسية قضيتها مع خال لي كان يعمل تاجراً هناك.
والرجل التُسّة في عربية دارفور، هو الدلاهة او العوير في مناطق اخرى من السودان.
عرفت حافظا عن كثب، من غير المعرفة العامة بحسبانه شخصية عامة، ونجم فني مرموق، مرتين: الاولى عندما جاءنا في باريس في عام ١٩٩٧م، وانا آنئذ دبلوماسي في وظيفة سكرتير اول بسفارة السودان هناك، لكي يشارك في الفعاليات الفنية التي صاحبت تنظيم المعرض الدولي للاثار السودانية الذي احتضنه معهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية بعنوان: " السودان: ممالك على النيل "، وقد قدمه لي اقارب له من آل الشيخ محمد الزاكي تصادف انهم ابناء منطقتي واصدقائي وزملاء دراستي منذ المرحلة الابتدائية.
ثم استضفته انا في منزلي وانا سفير بالعاصمة السنغالية داكار في شهر يناير ٢٠١٠م، حيث أحيا لنا ليلة احتفالنا بالعيد الوطني وذكرى استقلال السودان، فتوثقت انطلاقاً من كلا المناسبتين، عرى الصداقة والمودة فيما بيننا، وآنست فيه انسانا لطيفاً، طيب القلب، رقيق الحاشية، وفكها حاضر البديهة والطرفة.
ألا رحم الله الفنان المبدع الشامل، الاستاذ حافظ عبد الرحمن مختار ، وجزاه خير الجزاء عن صبره الجميل على معاناة المرض والابتلاء، وجعل جنة الفردوس مثواه مع الابرار، والهم افراد اسرته الكريمة وجميع اله وذويه واصدقائه وزملائه ومعجبي فنه الصبر وحسن العزاء .. انا لله وانا اليه راجعون.
//////////////////

 

آراء