في رحيل طلال سلمان
جمال محمد ابراهيم
28 August, 2023
28 August, 2023
أقرب إلى القلب :
هكذا يرحل صديقي الأستاذ طلال سلمان ، فماذا أقول في رحيله وقد كتبت رسالتي إليه حين اختاروه الشخصية الصحفية في عام 2009، مهنئاً وأنا أقرأ ما كتبت ودمعتي لا تجفّ على قلم حمل روح العروبة بين جوانحه ورحل.
طَلال سَلْمَان : قلَمٌ في قَلْبِ الصّعوْبةِ . .
1-
لك التهنئات تساق، أستاذنا طلال وتزجى ، فأنت لست صاحب "السفير" فحسب ، بل أنت سفير الصحافة العربية ، وكبير دبلوماسييها . ليس بزعم السّفير رجلاً يمتهن مهنة أصلها مداورة ومناورة ، وحذق بهلـواني السِّمات ، وذلك ما نعرفه عن الدبلوماسية، لما فيها من قدرات على التلوّن الحـربائي ، ومن ملكات لإمساك العصا من منتصفها ، فلا تعرف لها شرقاً أو غرباً من اتجاهات،الجغرافيا، لكثرة التمويه الذي فيها . ولكن بالصفة ، فإنّ السفير هو الذي يمسك بخيوط التواصل ليـديم اللحمة بين الأطراف المتنافرة . للسفير أيّ ســفير وجهه الإيجابي ، غير ذلك الوجه الآخر ، ولأنت يا طـلال ، ذلك الوجه الايجابي عند كل ســفير.
ويصادف تكريمك واختيارك الشخصية الصحفية لهذا العام (2009) ، باجماع منتدى الإعلام العربي بدبي في مايو من ذلك العام ، مناسبة مرور نحو شهر على الميلاد الخامس والثلاثين لصحيفة "السّفير" ، تلك المنارة التي استودعتها قوسي المعاناة التي أحرقت عالمنا العربي : القوس الآول في عام 1973 ومعاناة المواجهات مع اسرائيل ، والثاني قبل 1975 ، حين بدأت مسيرة الانتحار السياسي في لبنان وحريق الذات ، والنزف الذي تواصل خمسة عشر عاما . لكأنّ الأقدار اختارتك وبإرادتك أيضاً ، أن تكون صحيفة "السفير" وليدة هذه المعاناة ، وتكون أنت الشـاهد على الشروخ والجروح ، والنزيف العربي المأساوي . خرجت "الســـفير" إذن من هدير الهزائم والخسائر التاريخيــة الثقيلة ، وأفـدحها جمال عبد الناصر نفسه ..
وهأنتذا تواصل دورك شاهداً مستداماً على ابتئاس سياساتنا العربية ، وعلى ضعف اتزانها واهتزازات تضامنها. لا تهادن فتقول بدلوماسيتك الصحفية ، للأخرق أخرقا من دون أن تخسـره ، وللمصيب بخٍ بخ ٍ من دون أن تداهنه . فالصحافة ليست للمدح ولا للذّم ، ولكنها البوصلة التي تدلّ لمن ادلهمت عليه السبل فكاد أن يضل ، وهي المنارة لمن كاد أن يعميه الاظلام ، فيجد في العتمة مخرجا .
2-
في صبانا ، في خرطوم السبعينات من القرن الماضي ، كنا نتسقط أخبار البلد الذي أحببنا قبل أن نراه : لبـنان ، من الصحف التي تأتينا مع طائرات طيران الشرق الأوسط ، من بيروت عبر جـدة إلى عاصمتنا ، فنتلقف أول ما نتلقف من لهفٍ صحيفة "الســـفير "، فنأسى معكم - أستاذنا طلال- على البلد الحبيب يتقاتل بنوه بلا طائل . تلتهم الحرب جماله وتهبه قبحا بديلاً صنعته ثقافة القناصة وقتل الطوائف بعضها بعضا . برغم النزف والمعاناة ، والذي كاد أن يطال جسد القلم الساطع طلال سلمان ، فقد بقيت صحيفة "السـفير" ، ذلك الشاهد على الجرح الكبير، كما كانت تلك البوصـلة التي تؤشر على المأساة ، وذلك الضوء المشع يلتمع في أنفاقها المدلهمة . كبرتْ "السّـفير" في كبرياء الجرح ، وَ"بوصلت" دورها من جديد.
ومن يطالع "سـفيرك" اليوم يراها باسقة القوام ، بديعة الإخراج . لكتابها الكبار اقتدار وصبر على التحليل العميق ، والتحليق الأعمق في شئون السّاعة ، عندكم في لبنان أو في أنحاء المعمورة العربية، أو في الجسيم من أمور العالم والعولمة ، كما لهم جميعا ذلك الروح "الدبلوماسي " الذي رشح من عقل وقلب منشئها الأستاذ طلال سلمان . حتى وإن قرأت لشلق أو لفوّاز طرابلسي أو لساطع نور الدين ، وبقية عقد "الســفير" ، فإنك تلمح تلكم الروح مبثوثة في صفحاتها، وإن كانت لكل منهم رؤاه ورواءه ولون قلمه المميّـز وبصمته . للأستاذية مسئولياتها الجسام ، ولقد كنت ذلك الأسـتاذ القدير المقتدر . .
(3)
كتب طلال في كلمة لم يلقها في ذلك المحفل الذي احتفى به، شخصية صحفية لهذا العام 2009م :
المسيرة ( يداهمني مع الامتنان لهذا التقدير السامي الشعور باقترابي من نهــاية
ويتملكني الخوف أكثر من الزهـو، حين ألتفت الى قائمة المكرّمين قبلي، فأجد ان غالبيتهم قد غادروا دنيانا، وانّ الجائزة قد منحتْ لذكراهم. . !
ما أمتع الرحلة في قلـب الصعوبة: غادياً راجعاً بين نجمتي صبح، لا خل خلفك، ولا محطة للاستراحة، والأمام تحـدٍ مفتوح على الاستحالة، موعدك الشمس وقدرك ان تتقدم في الطريق الى تاريخك الذي يراد مسخه حتى ينكرك فتنكره، تلملم آهات التمني وتأوهـات الوجع وزفرات الضيق بالعجز والرغبة في قهرها، فتعيد صياغتها حتى تكون صوت الذين لا صوت لهم. . .
هل أكملت ما كنت تفترض ان لا بدّ من قوله، لأنّ الصمت مقبرة الجبناء؟
وَهل آن أنْ يغادرك قلمك او ان تغادره، وكلاكما شرط حياة للآخـر الذي ليس إلاك . . وفي مهنة لا يدقّ فيها جرس الانصراف إلا مرّته الأخيرة؟
أعترف بأنني من جيل لا يعرف التقاعد ولا يعترف، حتى بينه وبين نفسه، بأنه قد شاخ، وآن له ان يرتاح .. فالرّاحة انطفاء، وما زال في مصباحي بعض الزيت. . !)
مصباحك لن يجفَّ زيته ولن ينضب ، أستاذنا طـــلال ، إذ "السّــفير" هنا ، وقلمك وأقلام تلاميذك تحبّر صفحاتها بحبر الانتماء الشامخ لأمة عربية شامخة ، لن تقهر عزائمها النكبات. .
(4)
. . هذا العروبيّ الأميَـز
ليس فقط في قلمه وحبر كتابته ، بل هو الأفصح بها ، وهي المزروعة في جيناته ، الجارية في شرايينه مجرى الدم ، أو هي الدَّم نفسه . ولذا فلن يكون هو المنحاز لطرف سياسي ضد طرف، ولا السائر في تيار يواليه ضد تيار يعارضه . هذا العروبيّ الأميز، هو سموُّ الفكرة يبصر كبصر وبصيرة زرقاء اليمامة، هذا المستقبل العربي ، ينسدل حوله إظلام المتآمرين فيلتبس علينا ، فيرفع إصبع التنبيه . يقف بعضنا ويحسب نفسه في موقف الحق الأوحد والحقيقة الأخيرة ، فتنكسر المرايا العاكسـة على واقعه المتشظي ، فيكاد من توهّمه أن يحسب النصر المؤزّر في جانبه وحـده ، وأن شقيقه في الوطن ، هو الغريب المخطيء الآثم . لا تنكسر المرايا العاكسـة، ولكن أيضا تنكسر مرايا الوطن في تشظيها ، فيلتبس الحاضر علينا ، ويغرق الماضي في بحر ظلمات بلا قرار . لا نحكي عن يسار ويميـن . في لغة "السّـفير" / طلال تنحاز الكلمة بكامل حروفها إلى "العروبة "، تلك العنقاء التي تتراجع يوما إثر يوم إلى برية الحلم البعيد ، تسجل إستحالة انتزاعها من الاشتباك المأساوي الذي صوروه في الغرب ، صداما ومواجهات ومقاتلة ،وكأنه واقع أبيد وحالٌ لن يتغير.
قال طلالُ مرّة عن العروبة أنها في مِحنـة . ولهي الآن في كارثة ماثلة . وليست العروبة عند طلال هي الماضي المدفون في رمال التاريخ ، كما ليستْ هي هذا الخراب الذي نرى عليه ما يوصف بالأنظمة العربية . الأنظمة شيء والعروبة/ الفكرة والحضارة شيء آخر . في رسالة جوابية للأستاذ وليد جنبلاط، كتب طلال في ديسمبر عام2004م : :
(إنّ العروبة هي العروبة . هي طريق المستقبل.هي الخلاص . هي منهج التحرر من التبعية للأجنبي، وهي ضمانة الوحدة الوطنية في لبنان كما في أي قطر عربي آخر، هي تجاوز الطائفية والمذهبية، وهي شهادة جدارة لهذه الأمة بالحرص المطلق على كل عناصرها، لأي دين أو لأية طائفة انتموا. . والعروبة سيرة نضال مفتوح على الغد . وكما علينا مواجهة الهجمات عليها من الخارج فإن علينا حمايتها من أخطاء الداخل، بتوكيد الانتماء اليها هوية ومصيرا والدفاع عنها، ضد بعض أهلها، إذا لزم الأمر. . )
هكذا كان يرى طـــلال ذلك الخيط الســببي الذي أشعل الحرب الأهلية في لبنان بعد سنوات قليلة ، ممتداً من هزيمة "العـروبة" الناصرية في 1967م.
(5)
هـذا العروبيُّ الأميَـز ، كم يشرّف الأقلام العربية التي تقود صحافة العالم العـربـي جديرة هي الجائزة برجل مثل طلال . شرفتْ به وشرف بها . من يرى أن "السفير" محض صحيفة عربية ناضجة وشامخة ، لربّما فاته أن يدرك أنها مدرسة صحفية كاملة المعــالـم ، ومنـارة وخـط عروبي ، بيارقه مرفوعة فوق الهامات ، تذكرة لنا جميعا أن لا تفتر لنا قناة وأن لا تنكسر فينا إرادة . في ظلامات العصر الراهن ومظلــومياته ، فإنّ البحــر اللجيّ الذي تدافعت فيه سفائننا ، ليحتاج لبوصلات ، وإن "السـفير" هي بوصلة للعروبة ، ودليل إضـاءة لا غنى لها عنه. .
كتب ونشر من
الخرطوم في صحيفة السفير اللبنانية - مايو/أيار 2009
jamalim@yahoo.com
هكذا يرحل صديقي الأستاذ طلال سلمان ، فماذا أقول في رحيله وقد كتبت رسالتي إليه حين اختاروه الشخصية الصحفية في عام 2009، مهنئاً وأنا أقرأ ما كتبت ودمعتي لا تجفّ على قلم حمل روح العروبة بين جوانحه ورحل.
طَلال سَلْمَان : قلَمٌ في قَلْبِ الصّعوْبةِ . .
1-
لك التهنئات تساق، أستاذنا طلال وتزجى ، فأنت لست صاحب "السفير" فحسب ، بل أنت سفير الصحافة العربية ، وكبير دبلوماسييها . ليس بزعم السّفير رجلاً يمتهن مهنة أصلها مداورة ومناورة ، وحذق بهلـواني السِّمات ، وذلك ما نعرفه عن الدبلوماسية، لما فيها من قدرات على التلوّن الحـربائي ، ومن ملكات لإمساك العصا من منتصفها ، فلا تعرف لها شرقاً أو غرباً من اتجاهات،الجغرافيا، لكثرة التمويه الذي فيها . ولكن بالصفة ، فإنّ السفير هو الذي يمسك بخيوط التواصل ليـديم اللحمة بين الأطراف المتنافرة . للسفير أيّ ســفير وجهه الإيجابي ، غير ذلك الوجه الآخر ، ولأنت يا طـلال ، ذلك الوجه الايجابي عند كل ســفير.
ويصادف تكريمك واختيارك الشخصية الصحفية لهذا العام (2009) ، باجماع منتدى الإعلام العربي بدبي في مايو من ذلك العام ، مناسبة مرور نحو شهر على الميلاد الخامس والثلاثين لصحيفة "السّفير" ، تلك المنارة التي استودعتها قوسي المعاناة التي أحرقت عالمنا العربي : القوس الآول في عام 1973 ومعاناة المواجهات مع اسرائيل ، والثاني قبل 1975 ، حين بدأت مسيرة الانتحار السياسي في لبنان وحريق الذات ، والنزف الذي تواصل خمسة عشر عاما . لكأنّ الأقدار اختارتك وبإرادتك أيضاً ، أن تكون صحيفة "السفير" وليدة هذه المعاناة ، وتكون أنت الشـاهد على الشروخ والجروح ، والنزيف العربي المأساوي . خرجت "الســـفير" إذن من هدير الهزائم والخسائر التاريخيــة الثقيلة ، وأفـدحها جمال عبد الناصر نفسه ..
وهأنتذا تواصل دورك شاهداً مستداماً على ابتئاس سياساتنا العربية ، وعلى ضعف اتزانها واهتزازات تضامنها. لا تهادن فتقول بدلوماسيتك الصحفية ، للأخرق أخرقا من دون أن تخسـره ، وللمصيب بخٍ بخ ٍ من دون أن تداهنه . فالصحافة ليست للمدح ولا للذّم ، ولكنها البوصلة التي تدلّ لمن ادلهمت عليه السبل فكاد أن يضل ، وهي المنارة لمن كاد أن يعميه الاظلام ، فيجد في العتمة مخرجا .
2-
في صبانا ، في خرطوم السبعينات من القرن الماضي ، كنا نتسقط أخبار البلد الذي أحببنا قبل أن نراه : لبـنان ، من الصحف التي تأتينا مع طائرات طيران الشرق الأوسط ، من بيروت عبر جـدة إلى عاصمتنا ، فنتلقف أول ما نتلقف من لهفٍ صحيفة "الســـفير "، فنأسى معكم - أستاذنا طلال- على البلد الحبيب يتقاتل بنوه بلا طائل . تلتهم الحرب جماله وتهبه قبحا بديلاً صنعته ثقافة القناصة وقتل الطوائف بعضها بعضا . برغم النزف والمعاناة ، والذي كاد أن يطال جسد القلم الساطع طلال سلمان ، فقد بقيت صحيفة "السـفير" ، ذلك الشاهد على الجرح الكبير، كما كانت تلك البوصـلة التي تؤشر على المأساة ، وذلك الضوء المشع يلتمع في أنفاقها المدلهمة . كبرتْ "السّـفير" في كبرياء الجرح ، وَ"بوصلت" دورها من جديد.
ومن يطالع "سـفيرك" اليوم يراها باسقة القوام ، بديعة الإخراج . لكتابها الكبار اقتدار وصبر على التحليل العميق ، والتحليق الأعمق في شئون السّاعة ، عندكم في لبنان أو في أنحاء المعمورة العربية، أو في الجسيم من أمور العالم والعولمة ، كما لهم جميعا ذلك الروح "الدبلوماسي " الذي رشح من عقل وقلب منشئها الأستاذ طلال سلمان . حتى وإن قرأت لشلق أو لفوّاز طرابلسي أو لساطع نور الدين ، وبقية عقد "الســفير" ، فإنك تلمح تلكم الروح مبثوثة في صفحاتها، وإن كانت لكل منهم رؤاه ورواءه ولون قلمه المميّـز وبصمته . للأستاذية مسئولياتها الجسام ، ولقد كنت ذلك الأسـتاذ القدير المقتدر . .
(3)
كتب طلال في كلمة لم يلقها في ذلك المحفل الذي احتفى به، شخصية صحفية لهذا العام 2009م :
المسيرة ( يداهمني مع الامتنان لهذا التقدير السامي الشعور باقترابي من نهــاية
ويتملكني الخوف أكثر من الزهـو، حين ألتفت الى قائمة المكرّمين قبلي، فأجد ان غالبيتهم قد غادروا دنيانا، وانّ الجائزة قد منحتْ لذكراهم. . !
ما أمتع الرحلة في قلـب الصعوبة: غادياً راجعاً بين نجمتي صبح، لا خل خلفك، ولا محطة للاستراحة، والأمام تحـدٍ مفتوح على الاستحالة، موعدك الشمس وقدرك ان تتقدم في الطريق الى تاريخك الذي يراد مسخه حتى ينكرك فتنكره، تلملم آهات التمني وتأوهـات الوجع وزفرات الضيق بالعجز والرغبة في قهرها، فتعيد صياغتها حتى تكون صوت الذين لا صوت لهم. . .
هل أكملت ما كنت تفترض ان لا بدّ من قوله، لأنّ الصمت مقبرة الجبناء؟
وَهل آن أنْ يغادرك قلمك او ان تغادره، وكلاكما شرط حياة للآخـر الذي ليس إلاك . . وفي مهنة لا يدقّ فيها جرس الانصراف إلا مرّته الأخيرة؟
أعترف بأنني من جيل لا يعرف التقاعد ولا يعترف، حتى بينه وبين نفسه، بأنه قد شاخ، وآن له ان يرتاح .. فالرّاحة انطفاء، وما زال في مصباحي بعض الزيت. . !)
مصباحك لن يجفَّ زيته ولن ينضب ، أستاذنا طـــلال ، إذ "السّــفير" هنا ، وقلمك وأقلام تلاميذك تحبّر صفحاتها بحبر الانتماء الشامخ لأمة عربية شامخة ، لن تقهر عزائمها النكبات. .
(4)
. . هذا العروبيّ الأميَـز
ليس فقط في قلمه وحبر كتابته ، بل هو الأفصح بها ، وهي المزروعة في جيناته ، الجارية في شرايينه مجرى الدم ، أو هي الدَّم نفسه . ولذا فلن يكون هو المنحاز لطرف سياسي ضد طرف، ولا السائر في تيار يواليه ضد تيار يعارضه . هذا العروبيّ الأميز، هو سموُّ الفكرة يبصر كبصر وبصيرة زرقاء اليمامة، هذا المستقبل العربي ، ينسدل حوله إظلام المتآمرين فيلتبس علينا ، فيرفع إصبع التنبيه . يقف بعضنا ويحسب نفسه في موقف الحق الأوحد والحقيقة الأخيرة ، فتنكسر المرايا العاكسـة على واقعه المتشظي ، فيكاد من توهّمه أن يحسب النصر المؤزّر في جانبه وحـده ، وأن شقيقه في الوطن ، هو الغريب المخطيء الآثم . لا تنكسر المرايا العاكسـة، ولكن أيضا تنكسر مرايا الوطن في تشظيها ، فيلتبس الحاضر علينا ، ويغرق الماضي في بحر ظلمات بلا قرار . لا نحكي عن يسار ويميـن . في لغة "السّـفير" / طلال تنحاز الكلمة بكامل حروفها إلى "العروبة "، تلك العنقاء التي تتراجع يوما إثر يوم إلى برية الحلم البعيد ، تسجل إستحالة انتزاعها من الاشتباك المأساوي الذي صوروه في الغرب ، صداما ومواجهات ومقاتلة ،وكأنه واقع أبيد وحالٌ لن يتغير.
قال طلالُ مرّة عن العروبة أنها في مِحنـة . ولهي الآن في كارثة ماثلة . وليست العروبة عند طلال هي الماضي المدفون في رمال التاريخ ، كما ليستْ هي هذا الخراب الذي نرى عليه ما يوصف بالأنظمة العربية . الأنظمة شيء والعروبة/ الفكرة والحضارة شيء آخر . في رسالة جوابية للأستاذ وليد جنبلاط، كتب طلال في ديسمبر عام2004م : :
(إنّ العروبة هي العروبة . هي طريق المستقبل.هي الخلاص . هي منهج التحرر من التبعية للأجنبي، وهي ضمانة الوحدة الوطنية في لبنان كما في أي قطر عربي آخر، هي تجاوز الطائفية والمذهبية، وهي شهادة جدارة لهذه الأمة بالحرص المطلق على كل عناصرها، لأي دين أو لأية طائفة انتموا. . والعروبة سيرة نضال مفتوح على الغد . وكما علينا مواجهة الهجمات عليها من الخارج فإن علينا حمايتها من أخطاء الداخل، بتوكيد الانتماء اليها هوية ومصيرا والدفاع عنها، ضد بعض أهلها، إذا لزم الأمر. . )
هكذا كان يرى طـــلال ذلك الخيط الســببي الذي أشعل الحرب الأهلية في لبنان بعد سنوات قليلة ، ممتداً من هزيمة "العـروبة" الناصرية في 1967م.
(5)
هـذا العروبيُّ الأميَـز ، كم يشرّف الأقلام العربية التي تقود صحافة العالم العـربـي جديرة هي الجائزة برجل مثل طلال . شرفتْ به وشرف بها . من يرى أن "السفير" محض صحيفة عربية ناضجة وشامخة ، لربّما فاته أن يدرك أنها مدرسة صحفية كاملة المعــالـم ، ومنـارة وخـط عروبي ، بيارقه مرفوعة فوق الهامات ، تذكرة لنا جميعا أن لا تفتر لنا قناة وأن لا تنكسر فينا إرادة . في ظلامات العصر الراهن ومظلــومياته ، فإنّ البحــر اللجيّ الذي تدافعت فيه سفائننا ، ليحتاج لبوصلات ، وإن "السـفير" هي بوصلة للعروبة ، ودليل إضـاءة لا غنى لها عنه. .
كتب ونشر من
الخرطوم في صحيفة السفير اللبنانية - مايو/أيار 2009
jamalim@yahoo.com