أكتوبر الأحمر !!

 


 

 

وجاء أكتوبر موشحاً بعلم الكآبة ذي اللون الأحمر الصارخ، مكتحل بالسواد الكاسي لألبسة الحزن المقيم في أنفس السودانيين والسودانيات، مع إرهاصات الحرب الضروس التي أراد لها أعداء الظلام، أن تطمس ملامح الوجوه الطيبة المحتفية بثورة أكتوبر على مر السنين، احتفاءً متفائلاً يبشر بغدٍ جميل ومستقبل نضير، لم تمر على الأمم والشعوب السودانية هذه المناسبة الرامزة للتحرر والانعتاق من ربقة الدكتاتوريات العسكرية، مثلما هو الحال هذه المرة في هذا الشهر الأكتوبري الأحمر، لقد فارق الأمل والاستبشار الوجوه، وهجر الفرح الأصوات التي تغني وتنشد مع العملاق النوبي محمد وردي: (كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل)، وتاهت سفينة الشعب العاشق للحرية في متاهات البحار المتفجرة أعماقها ببراكين القنابل، وأمسى حلم العالم (الناس تتسالم والبني آدم الصافي النية)، ما عسانا أن نقول لمصطفى سيد احمد وهو يتبرم في قبره من هول فاجعة الدماء والأشلاء، التي مزّقت أحشاء هذا الآدمي الحسن السريرة؟، صبيحة أن قرر عشاق الظلام سفك دمه على أرصفة المدن المستحيلة، لم تكن الحرب خياراً لأمة الأمجاد المقاتلة سلمياً من أجل الديمقراطية، لكنه الابن العاق والسفيه، الذي جر الجرم فحل بأهله الخراب، ولقد قيل في الأثر أن (البلد يخربها ولدها)، وهذه بلادنا قد أحال أبناؤها العاقون نهارها إلى ليل وظلام دامس، بجلب قاذفات اللهب بدلاً عن تقديم باقات الورد في مهرجانات الثورة الاكتوبرية الكاسرة لشوكة الطغاة، ومن سوء طالع الدولة والأمة تسيّد الناشزين لأمر العامة، وطغيان القتلة والمجرمين والمفسدين على المشهد العام.
جادت قرائح الشعراء والمغنين والملحنين بالمفردات والمعزوفات الراسمة للوحات العتيقة، المطبوعة على جدران الذاكرة الوطنية، فما انفكت الألسن تلهج بالنشيد الاكتوبري الحماسي المترجم للواعج النفس السودانية المجبولة على عشق التراب، وكيفما كان النظام الحاكم عند حلول هذه الذكرى الوطنية الكبرى، تكون العزيمة والتمسك بالاستحقاق المدني والديمقراطي الرافض لكل أشكال المظاهر العسكرية الطافية على المشهد العام، لقد حاول الانقلابيون بمختلف حقبهم لجم الأفواه الهاتفة بحتمية الانتصار على الظلاميين، وإخماد شعلة أكتوبر المتقدة لتسع وخمسين عاماً، لكن أبت الحسناء الأكتوبرية إلّا وأن تصد الخاطبين لودها من منتعلي (البوت) وحاملي السلاح، وآخر هذه المحاولات اليائسة كانت من نصيب مدبري انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، فبرغم نجاحهم في اختيار التوقيت الموافق لشهر ميلاد الثورة الكبرى (شهر عشرة)، إلّا أن أكتوبر لا تقبل القرابين من يد العسكر الملطخة بالدماء، لأنها اندلعت من أجل إبعاد العسكر من سلطة الشعب، لذا لابد من وجود التضاد الأبدي بينها وبين كل من تسول له نفسه الانقضاض على حمل الديمقراطية الوديع عبر فوهة البندقة، فلا يجب أن يشغل جنرالات المؤسسة العسكرية بالهم حلم التحكم في مصير الشعوب، فبعد انجلاء السحابة القاتمة للحرب الأبريلية التي قادها مدبرو انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، فإنّ أكتوبر الأخضر قد توشح بثوب الثورة الجيفارية الحمراء الباقية.
بإشعال الحرب جنت العسكرتارية على نفسها مثلما جنت براقش، وليس هنالك سراً نكشفه إن قلنا أنه وبعد الخلاص من بقايا دويلة عشاق الظلام، هنالك مواكب شعبية سوف تجول وتصول لتنظيف العالق من الشوائب التي خلفتها الحرب، ولا يظن الظان ممن جعل السلاح وسيلة للترهيب والترغيب، بأن العنف الدموي سيكون وسيلة للتداول السياسي، فللديمقراطية ولتأسيس الدولة المدنية الحديثة حرب أخرى سوحها ميادين الفكر وبلاغة الحجة وبيان المجادلة بالتي هي أحسن، وهي الميادين التي ترعرع فيها مولود الحكم الديمقراطي القصير الأجل، إذ أن البلاد لم تهنأ بنعيم الحكم المدني منذ أن أعلن استقلالها الذي لا يعني لسكانها سوى (الاستغلال)، فاستغلت الطبقة العسكرية الضعف البائن في بنية الحكم المدني، واستخدمت طبقة الأفندية من خريجي كلية غردون التذكارية وصويحباتها، فجعلتها تسبح بحمد العسكر لأكثر من نصف قرن، ما أورث الشعوب المسكينة الحروب المطلبية المندلعة في أطراف البلاد، والمختومة بحرب المؤسسة العسكرية فيما بين مكونيها الرئيسيين في منتصف شهر أبريل الماضي، فانتهاء الحرب سيكون مفتاحاً للولوج إلى ميدان تأسيس الدولة المدنية، وإرساء قواعد الديمقراطية، التي لا يكون للجيوش فيها دور غير الحراسة، وليس هنالك تشريفاً أكثر من صون كرامة الإنسان وتأمينه، وسد الثغرات على طول الحدود الفاصلة بين البلاد والبلدان الإفريقية والشرق أوسطية، فأكتوبر الأخضر قد صار أحمراً كالجمر، قوي كالفولاذ، باقٍ كالسنديان، عميق كحبنا الوحشي للسودان.

إسماعيل عبدالله
20أكتوبر2023
ismeel1@hotmail.com

 

آراء