ثلاثة إصدارات حول الشعر والغناء في السودان

 


 

 

صدر حديثًاً عن "دار النخبة العربية للنشر" في القاهرة ثلاث إصدارات للصحفي والكاتب مرتضى الغالي يمكن إدراجها في باب الثقافة الغنائية والأدب الشعبي السوداني؛ وهي على التوالي (الشاعر إبراهيم العبادي: تجليات العبقرية الشعبية) و(الحردلو صائد الجمال: الشعر البدوي في السودان) و(الدراويش الطرابى: لمحات من فن الغناء السوداني).
عرّاب الأغنية السودانية الحديثة
عن هذا الكتاب يقول المؤلف عن إبراهيم العبادي "إنه شاعر شعبي وكاتب مسرحي وذاكرة تراثية وتاريخية وناشط اجتماعي وريحانة مجالس وداهية حديث ومنادمة احدث انقلابا في عالم الغناء السوداني وكان عرّاب الأغنية السودانية الحديثة بين الحربين (1919 1939) ملأ الدنيا وشغل أهل زمانه منحه معهد الموسيقى والدراما الدبلوم ورئاسة الجمهورية وسام الآداب وجامعة الخرطوم الماجستير الفخرية (لمن ادخرتم دكتوراه الأدب)..؟!
للعبادي انشغالات عديدة في مجال المجتمع وفي السياسة والمحافل الأدبية والمنتديات والأندية والأجهزة الإعلامية ومجالس الإنس والطرب ومع الزعامات الدينية والاجتماعية وكانت له مجاهدات حضرية في مسك الدفاتر وله انتقالات وإسفار وانغماس في ضجة السوق كما يقول (أفلاطون)"..!
"لقد كان العبادي راوية للأدب الشعبي عليماً بفنون الغناء وكان ذا ثقافة موسوعية بالحياة اجتماعية والمرويات الشعبية، وهو رجل من ظرفاء عصره يمتاز بحاسة مفاكهة عالية ومن اقدر الناس على رواية الحكايات الشعبية وما يدخل في باب التاريخ الاجتماعي لعصره كما كان حاد الذكاء واسع الحيلة في تصريف الشعر وتفصيح الدارجية و(أدرجة الفصحي).. يكل الطعام ويمشي في السواق ويهتم بالشأن العام يوجه رسائل شعرية نارية لدهاقنة الإدارة البريطانية في السودان وللملك فؤاد ويتابع مسيرة مفاوضات الحكم الذاتي وبتداخل في المعركة السياسية حينها بين دعاة الاستقلال والوحدة مع مصر..وهو فوق هذا صاحب جسارة اجتماعية ومناجزة عاطفية لا يخبو أوارها.
ويشير إلى أن هذا الكتاب ليس من باب التوثيق أو لسرد سيرة الشاعر العبادي وحياته؛ إنما هي خواطر حول أحد المبدعين الشعبيين الذي أحدث مع أضرابه ثورة في عالم أغنية وسط السودان كان صاحب النصيب الأوفر فيها. وإذا كانت هذه الأغنية التي اشتهرت بتوصيف (أغنية الحقيبة) تعبيراً حضرياً عن مدينة (أم درمان) العاصمة الوطنية؛ فقد امتدت سيرورتها إلى أقانيم ثقافية أخرى في السودان.. وإذا كانت حياة العبادي تمثيلاً لهذه الثقافة الغنائية المدينية؛ فإن له لا شك نظائر من المبدعين في مناطق أخرى من السودان..
ويحكي العبادي في أغانيه فنوناً من الشعر القصصي مع مقدرة عالية في تصوير حالات الغرام ولواعج الهوى وأحوال المحبين.. وكان من تجديداته استخدم أسلوب الحوار في أغانيه. وفي باب المسرح الشعبي كتب العبادي أكثر من خمس مسرحيات، وتجسّد مسرحيته التاريخية والمعاصرة عن أحد المكوك القبليين (المك نمر) بعض قواعد الفن المسرحي من حيث حبكة المسرحية plot/node..ثم تصاعد الأحداث إلى مرحلة الذروة climaxثم الهبوط منها إلي لملمة أطراف الأحداث denouement ثم المصالحةreconciliation مع استخدام عنصر المُنشد vocalist وعنصر المُهرِّج clown element، ومن فرادة العبادي وابتكاراته أنه جعل مفتتح مقدمة المسرحية (حلماً) لبطلها رآه فيما يرى النائم ورواه لرفيقته؛ وكان هذا الحلم تلخيصاً لكل الوقائع التي قادت إليها الأحداث لاحقاً على امتداد المسرحية..!!
حس الفكاهة العالي والداعبة عند العبادي لا تفارقه في كل أغنية.. في "شيخ ريا" يقول:
لو شفتهن عند القصُر : حاملات نياشين النصُر
خِلت البدور مرقن عصُر أو دُر تناثر: خُم وصُر..!
أما التقاطه مما يقرأ ويسمع من التاريخ البعيد فقد وردت في ذات الأغنية:
لحظات سرور ما أقصرا مرّت كأن لم نبصرا
يا ربي خضّر عُنصرا وانصر جيوش (بُختُنصرا)..!
ومن ثم يحتشد الكتاب بالعديد من النماذج لأشعار العبادي الغنائية والاجتماعية والمسرحية وغيرها من الاخوانيات الساخرة وكذلك يضم أشعاراً لبعض مجايليه..!

صائد الجمال:
في هذا الكتاب يستعرض المؤلف عوالم (الشعر البدوي السوداني) ويقول أن كتابه هو المقابل الأدبي المكتوب باللغة العربية لكتاب المُترجم والأديب السوداني "عادل بابكر" الذي اصدر كتاباً بالانجليزية عن أشهر شعراء الشعر البدوي السوداني محمد احمد عوض الكريم أبو سن (الحردلو الكبير) وتحدث فيه عن طبيعة وخصائص الشعر البدوي السوداني وفن (المسدار) وهو وصف الرحلة الى ديار المحبوبة من خلال جولاته عبر سهول البطانة وافتتانه بطبيعتها، ظبائها، ونسائها-عبر مربعات شعرية عديدة quatrains وفن المسدار إما أن يكون سرداً لرحلة الشاعر الى ديار الحبيبة على ظهر ناقته واصفا مسار الرحلة وطبيعة الارض والمعالم الطبوغرافية ومواسم الطبيعة والتعبير عن حالات الحنين والشوق والتفاعل الانساني مع راحلته شريكة الرحلة وكل ما يصادفه من موجودات وظباء ووعول وجبال ووعاد ومواقع مياه، ثم الوصول الى ديار المحبوبة. كما ان هناك مسادير اخرى تتناول الرحلة عبر منازل الفصول في المخيلة الشعبية والتشكيلة النجمية من الأبراج (constellations) التي ترافق تقلبات الطقس وانعكاساتها على الحالة الشعورية ومواقيت الصيف والخريف والشتاء وما يترافق مع كل فصل من ظواهر ومظاهر.
ثم يتناول الكتاب دور الشعر البدوي في تأسيس الذائقة الجمالية السودانية، وتاثيرة على الغناء المعاصر، وانعكاساته على الشعر الحديث وكيف ان الشعراء الحداثيين اخذوا من "تيمة الشعر البدوي" وعبّروا بها عن قضايا معاصرة..مثل الشاعر صلاح احمد ابراهيم ومحمد طه القدال ومحمد المهدي المجذوب وغيرهم..أخذا من المربوعات الشعرية البدوية في الحنين والعاطفة والتداعي والوصف والانفعال بالطبيعة..إلخ
ويشير المؤلف إلى المباحث الخاصة بشعر المربعات البدوي وتعدد أجناسه مثل الرباعي والمربوق والموال والدوبيت أو الدوباي والعدودة (النواح على الميت) والنميم والجنزير والسلسلة والقولة و(الواو) ويقول إنها جميعها من عائلة التربيع الذي يسمونه في الشام العتايا ونعناع الجنينة، وفي العراق الأبوذية، وفي مصر الواو وفي الخليج النبطي.
يقدم "صائد الجمال" رحلة مع الشعر البدوي في السودان، تطوره وجمالياته وتأثيره من خلال استبصار لسيرة الحاردلو، عمدة هذا الضرب من الشعر، ويمكن عبر ما ورد من شعره من تأمل في معنى الحياة وأسرار النفس البشرية مع الاخيلة الكونية ما يمكن ان يجعل من شعر هذا البدوي في محازاة نسق كبار الشعراء في العالم مثل شكسبير وهوميروس ودانتى والمتنبي وميلتون في التأمليات والبحث عن كنه الحياه ومواطن الجمال بمعناه التجريدي العالي Aesthetics
ويقول الناشر إن حياة الشاعر البدوي الحردلو يمكن أن تمثل مادة للدراسات السودانية ولمحات من التطورات الاجتماعية والسياسية في السودان، حيث أن حياته مرّت باطوار متقلبة تركت اثراً على شعره مما يسهم في معرفة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسة في عصره من خلال من التحوّلات عبر ثلاث حقب متباينة؛ فهو قد عاصر الحكم التركي المصري (1820-1885) وفترة المهدية (1885-1898) والحكم الإنجليزي المصري (1898-1956). ويمكن من خلال هذه الحقب قراءة الشعر البدوي السوداني في سياق بيئة ثقافية هجين، لها تأثيرها على خطاب الهوية الثقافية للسودان والجدل الذي لم يتوقف حولها حتى الآن.

أحوال الدراويش الطرابى
يقع هذا الكتاب في (571) صفحة، ويتناول ابداعات العديد من المغنين السودانيين وشعراء الأغاني في لمحات وبوادر واضاءات خاصة بكل منهم في صورة "بروفايل" وفيهم كثيرون ممن لم يظفروا بالتنويه المستحق.. ويقدم الناشر نموذجاً يقتطف فيه من هذا الكتاب أحد شعراء الأغاني وهو علي احمد أحمداي المشهور بـ(علي المسّاح) ومن هذا المقتطف: "الشاعر المسّاح إبن مدينة مدني في الجزيرة الخضراء أُمّي (كامل الأمية) من حيث الأبجدية.. لا يقرأ ولا يكتُب..وهناك إجماع على انه لم يكن (ترزي درجة أولى) حيث لم يصبر على تعلم الصنعة..ولكن كان نموذجاَ ومثالاً للذكاء الفطري والإبداع الجريء والتصرّف في اللغة والابتداع في الفكرة الغنائية...!
لقد اكتسب على أحمداي لقبه المسّاح من (الحوامة الكتيرة) في مدينته الجميلة.. يمسح الأرض شأن العاملين في مهنة المساحة (الجنزرجية) ولكنه يعمل بدون أجر بحثاً عن مواطن الجمال..! وهو مثل ابن زريق البغدادي:
كأنما هو في حلٍ ومرتحلٍ.. موكّلٌ بفضاء الله يذرعهُ..!
ولو لم يكن له من الأغنيات غير (غصن الرياض المايد) وحدها، لكفت دليلاً على علو كعبه.. حتى عند مقارنته برصفائه من الشعراء الذي طافوا على المدارس وكلية غردون..! ولا تدري من أين أتى بمثل قوله:
عانيت في ليالي هواك صنوف وأحايد..
مشكلة بين هواي وجفاك..وأنت (محايد)..!
لأنه انتهى إلي معني دقيق؛ فهو قد فصل نفسه عن الهوى وفصل محبوبه عن الجفاء، وهذا مذهب في التجريد، وجعل المعركة بين هواه (هو) وبين (جفاء) محبوبه، ولكن (ذات المحبوب) وقفت على الحياد..! وهو معنى قريب من توصيف آخر جاء في أغنيته (بالله يا نسيم الصبا) حيث يقول في معنى غير مسبوق:
بهجة جمالك حاجبا
عاجباك روحك ..وعاجبا
..فالإنسان "المُعجب بنفسه" معنى معروف، ولكن المشكلة في أن تكون النفس مُعجبة بصاحبها..! كذلك له معنى جميل عندما جعل من حبه نديداً له في النشأة:
أنا وحبك ترعرعنا و(نشأنا ندايد)
من زمناً قبيل ما أيام قُلال وعدايد...!
ليس هذا هو كل إبداعه فـ(نغيم فاهك يا ام زين دواي) من روائعه، وفيها استخدام النُهى بمعنى جوهر العقل، وفيها مخاطبة لنجم السُهى وهو النجم الساهر مع المحبين..ويتحدث عن الوهى بمعنى الوهن والتعب:
أقيم ليلي واحسب سُهاي
يغيب عقلي وافقد نُهاي
أنا في جسمي ظاهر وهاي
..اسعفيني دنا إنتهاي..!
إلخ
في أغنيته (زمانك والهوى اعوانك) كعادته يستخدم التشخيص Personification للمعاني وللأشياء ويجعل من الزمان والهوى (أعواناً) للحبيبة النافرة المُصطفاة وحيدة القلب..ثم بذكائه يجعلها في موضع (إنسان العين- البؤبؤ pupil) ويقول لعيونه:
هاجت عبرتي .. يا دموعي كيف حبسانك
وين تلقي المنام؟ .. يا عيوني (غاب إنسانك)..!
ثم يقدم الناشر نموذجاً آخر لشاعر غنائي صاحب أغاني غاية في الروعة ولكنه عاش ومات مغموراً..هذا هو محجوب سراج: يقول الكتاب عنه: "محاسب في هيئة المياه والكهرباء..غاية في الهدوء والبراءة والحياء والخيرية..ولكنه من الشعراء الغنائيين الكبار..وهو صاحب لغة شعرية نسيج وحدها وغنائية "ليريكية" طاغية..! فأنت تعرف انه شاعر هذه الأغنية أو تلك من (سيماها)..حيث انه يتميز بأفكار وتعبيرات ومفردات تشكل معاً ما يتمايز عن أي قصيدة غنائية أخرى..
من أغنياته (الجرح الأبيض)...لماذا هو جرحٌ أبيض..؟! لأن مدى عمق الجرح جعل دماء شرايينه تجف وتتراجع للداخل ولا تسيل: هكذا يغنيها المطرب الكبير "صلاح ابن البادية":
لو نعيم الدنيا عندك احرميني
أو جحيم الآخرة ملكك عذبيني
أنا يا ضناي يا وهج أشواقي الحبيسة..
جرحي أصبح ما بسيل لو تجرحيني..!
وفي أغنية (حبة شوق) يقول:
في نظراتك حبة شوق...
رماها الحب في حقل شبابي
وفي بسماتك رفّة نور...
أضاءت حولي ليالي عذابي
صبري معاك علمني كتير ...
وكيف اتحمّل كل صعابي
كيف اتحمّل ليل وهجير .
..ليل وهجير..ليل وهجير..
واقنع منك بالمقسوم..!
ثم انظر إلى هذا الموكب:
أنا
وأشواقي
وفجر صباي
وطيب أيامي
بنجري وراك
لأن الدنيا الباسمة الحلوة
..والأيام جمعتني معاك
إلخ
أما المطرب الكبير سيد خليفة فيغني (من أنت يا حلم الصبا؟) للشاعر المجهول :
من وحي أوهامي خلقتك رغم آلام الحياه..
يا صورة الحلم الذي قد شعّ في قلبي سناه..
يا ومضة الأمل الذي قد عشت عمري في رجاه...
شفتاك من ورق الورود
وآه من تلك الشفاه..
خداك من شفق المغيب
وآه من خديك آه ..
وعيناك يكمن فيها ليلٌ تسربل من دجاه…
وأظل اهتف من دمي.. والوجد يهتف هل أراه..؟!
**
أبداً أسير مقيداً ين الروابي والبطاح
ويكاد يحرقني الظما
وتكاد تسحقني الرياح
من أنت يا نفح المُنى.
من أنت يا نور الصباح…؟!

murtadamore@yahoo.com

 

آراء