شيخ الحِبِر .. اسمٌ في حياتنا !

 


 

 

أسال رحيل الشيخ الجليل والعالم الجهبذ الاستاذ الدكتور الحبر يوسف نور الدائم الذي انتقل الى جواره ربه الغفور الرحيم مؤخراً، مداداً غزيراً، وأهاج مشاعر جمة، موارة بالحزن والاسى بطبيعة الحال، ولكنها كانت في كثير من الاحيان مشاعر ذاخرة بكل ما هو محمود وايجابي من صور الوفاء الصادق، والتقدير العميق، والمحبة الخالصة لشيخ الحبر، ومصحوبة بذكريات جميلة وطريفة، تسر الخاطر وتنعش الوجدان، بما تعكس ما كان يتمتع به فقيدنا الراحل بروفيسور الحبر من علم غزير، وفكر مستنير، وملكة فذة في البيان والتعبير بالعربية نثراً وشعرا، فضلاً عما كان يميزه من سماحة النفس والتواضع والروح الاريحية الفكهة في رزانة واعتدال.
كان استاذنا المرحوم السفير الناقد والاديب عبد الهادي الصديق، يقول لي انني اذكره بالحبر في حديثي وانشائي على حد زعمه، وقد كان الحبر استاذاً له بكلية الاداب بجامعة الخرطوم لاول عهده بها محاضراً قادماً اليها بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة ادنبره باسكتلندا في عام 1971م.
وقد كان حديث عبد الهادي الصديق ذاك، يسعدني ويفرحني على كل حال، فأقبله منه جزلاً مسرورا ولسان حالي يقول " اين الثرى من الثريا "، او قول الآخر:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سُليمٍ والأغرِ بن حاتمِ
بلى، بعض الناس ولعلي واحد منهم، يصير عرضة لما يسمونه " التنميط ". فبالرغم من انني لم ادرس اللغة العربية دراسة نظامية راتبة طوال سني دراستي بكلية الاداب بجامعة الخرطوم، فيما عدا في السنة الاولى، حيث كان درس اللغة العربية اجبارياً، الا ان بعض الناس ربما يظنون ان دراسة اللغة العربية قد كان تخصصي الاول في الجامعة، وذلك ربما بسبب اجتهادي نوعاً ما ، في اصطناع اساليب البيان اللغوي الاصيل ، ما وسعني ذلك فيما أكتب.
والحق انني درست اللغتين الانجليزية والفرنسية، وحصلت في كليهما على مرتبة الشرف، ولكنني آثرت التخرج ببكالوريوس الاداب في اللغة الفرنسية في نهاية المطاف. ولكنني قد كنت مع ذلك، محباً غاية الحب للغة العربية وآدابها، وشغوفاً غاية الشغف بالاستزادة من معينها، والاتصال باساتذتها وعلمائها مثل استاذنا شيخ الحبر رحمه الله، والدكتور جعفر ميرغني وغيرهما وتلاميذهم مثل عبد الله محمد احمد وابراهيم القرشي والحسين النور ، والجلوس اليهم خارج قاعات الدرس النظامي.
وهكذا على سبيل المثال، انضممت منذ سنتي الاولى بالجامعة الى " جماعة الاثنين الادبية "، التي كان يترأسها ويحييها من داخل مكتبه استاذنا الراحل الشاعر " محمد الواثق "، وقد كانت تضم لقيفاً من الطلاب والاساتذة من داخل جامعة الخرطوم وخارجها، ومن مختلف الكليات والتخصصات.
ولما قدم العلامة عبد الله الطيب من المغرب في نهاية النصف الاول من ثمانينيات القرن الماضي، بعد قضائه بضعة اعوام استاذنا زائراً بجامعة فاس، لزمته وصرت حلس مجالسه بمكتبه وبداره وبمجمع اللغة العربية. فضلا عن شهودي سائر محاضراته العامة حيثما كانت بالخرطوم.
وقد شرفني العلامة ايما تشريف عندما ألقى قصيدة كنت قد أرسلتها اليه من خارج السودان، في رثاء الشاعر الدكتور محمد عبد الحي كان عنوانها " السمندل يصدح في الجنان "، في حفل تأبين له بالجامعة. ومن عبد الله الطيب علمت لاول مرة في حياتي، أن مرض الملاريا يسمى Palaudisme في الفرنسية.
أما استاذنا الراحل الكبير شيخ الحبر، كما هو لقبه المحبب بين تلاميذه وزملائه، فقد شرفني غاية التشريف عندما كتب لي تقديما باذخاً لترجمتي لاطروحة الاستاذ الكبير عبد الرحيم الامين " المعلم " عن شعر الفرزدق، التي كان قد انجزها في جامعة اوكسفورد العريقة في عام 1954م تحت اشراف المستشرق الانجليزي الشهير سير هاملتون جِب. وقد صدرت الترجمة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان في عام 2020م.
لقد أبدع فضيلة الدكتور عصام البشير تلميذ شيخ الحبر وصديقه وزميله وافتن عندما سرد بطريقته المعجبة، بعض طرائف شيخ الحبر وخصوصاً مع استاذه عبد الله الطيب، ولعله قد فات عليه ان يذكر الطرفة التي كان يرويها استاذنا الحبر عن عبد الله الطيب، عندما اراد احد الاساتذة او الاداريين الاستعماريين الانجليز ان يستفزه، فرد عليه بردود مفحمة بليغة، ألقمه بها حجارة من سجيل باللغة الانجليزية.
قال الحبر ان الافرنجي قد خاطب عبد الله الطيب في غيظ فقال له:
Abdallah El Tayyib, your mind is like cotton !
A- It burns up quickly !
But it comes down to nothing !
A - After destroying a great deal !
رحم الله استاذنا الجليل البروفيسور الخبر وغفر له وأكرم نزله عنده في عليين وجزاه خير الجزاء عما درس ونشر من عام نافع.

nagwaosman@hotmail.com

 

آراء