حرب الجزيرة أداة ضغط أم واقعا جديدا يتشكل

 


 

 

أن العقل السياسي في السودان بعد ثورة ديسمبر التي تمر ذكراها الخامسة هذه الأيام مازال في حالة من الجمود المصنوع من الرغائب المتناقضة، لا هو قادر أن يجيب على الأسئلة التي تطرحها الأحداث المتصاعدة يوميا، و لا قادر أن يقدم مشاريعا سياسية تخلق حوارا وطنيا جادا يهدف لتقديم حلول لأزمته التي تزداد عمقا يوما بعد يوم. أن الخروج من حالة الجمود الفكري لا يمكن أن تتم بمنهج التبرير، و الذي درجت عليه كل القوى السياسي في البحث عن شماعات تعلق عليها أخطائها، و لكنه يحتاج لشجاعة، و إقدام لاستخدام المنهج النقدي الذي يوضح لهم أين تكون مكامن الخلل و أسباب الفشل. و هي الخطوة التي لا تريد كل القوى السياسية أن تقدم عليها، لأنها تعتقد أن نقد التجربة تعني الإدانة التي سوف تعقد مسيرتها السياسية مستقبلا، فالكل تبنى المنهج التبريري حماية للذات، لأنهم يعمون جميعهم جيدا أن مسيرتهم معبأة بالأخطاء و لا يريدون تحمل وزرها.
هذا الأسبوع أقدمت ميليشيا الدعم على خطوة لم تكن متوقعة أن تهاجم منطقة فيها ملايين من النازحين من الخرطوم، لكي تؤكد الميليشيا أن حربها مع المواطن و ليست مع الجيش و الفلول و الكيزان كما تدعي، و الغريب أصرت على الفعل رغم تحذير العديد من المنظمات منها الأمم المتحدة و منظمات حقوقية و دول، لكنها لم تنصاع لتحذيراتهم و انجزت ما تريد، لكي تجعل ردة الفعل عند المواطن أكثر من أن تكون عند الجيش، لآن المواطن هو المتأثر الأول من الحرب. هناك الذين بادروا بالنزوح مرة أخرى إلي سنار و غيرها من المناطق الأخرى، و بقى المستنفرين لكي يدافعوا عن منازلهم و ممتلكاتهم، رغم أن الميليشيا في طريقها إلي مدني قد تعدت على ممتلكات المواطنين في عدد من القرى، و خاصة في تمبول و رفاعة واب حراز و حنتوب و غيرها. و بالتالي تكون قد دفعت أبناء كل هذه المناطق أن يستجيبوا إلي نداء الاستنفار الذي كان قد أعلنه القائد العام للجيش، و ليس في الجزيرة وحدها، بل في كل مدن السودان حتى يستطيعوا حماية منازلهم و ممتلكاتهم و أعراضهم من هذه البربرية و الهمجية. هذا هو التحول الذي سوف يفرزه استهداف الميليشيا لود مدني في الأيام القادمة.
إذا كانت الميليشيا تعتقد أن هجومها على ود مدني؛ عبارة فقط عن أداة ضغط لتحقيق أهداف تصبوا إليها، و لم تحدد للشعب ماهية الأهداف، و وقعت في حالة اشتباك نفسي مع المواطنين الذين كانت قد روعتهم من قبل في الخرطوم، و الذاكرة الشعبة سوف تستدعي كل الذي حصل في الخرطوم و الجنينة و ارمته و زالنجي و نيالا و العديد من القرى و المدن التي استهدفتها الميليشيا في كردفان، و مارست فيها السلب و النهب و السرقة و الاغتصاب و القتل للمواطنين. أن الميليشيا قد حفرت بافعالها أثارا غائرة في الذاكرة الشعبية لن تتمحي، و أيضا سوف تلتصق بها صفات سالبة طوال التاريخ. و في نفس الوقت سوف تدفع العديد من الشباب أن يفكرو جديا أن يلبوا نداء الاستنفار في كل منطقة من مناطق السودان. الأمر الذي يؤجل أي حل سياسي إذا كانت هناك دعوة له. فالحرب و إفرازاتها ليس بالسهل محو الذاكرة الشعبية من فظائعها و ألامها، و أثارها النفسية.
أن قرار الميليشيا لمهاجمة إلجزيرة، و خاصة مدينة ود مدني، قد صحبها عمل إعلامي كبير من قبل عناصر الميليشيا و الذين يساندونها و يقفون معها في خندق واحد، كان الهدف من هذا العمل الإعلامي غرس روح الإحباط عند المواطن و زعزعت ثقته في الجيش الذي هتف له الناس في العديد من مناطق السودان عندما تمر متحركاته شعب واحد جيش واحد، و محاولة لإظهار أن الجيش ليس بالقوة التي يعتقدونها، و هناك إرباك في قيادته، و بدأت تخرج بوسترات أن هناك اجتماع لهيئة القيادة في وادي سيدنا، و خرج تصريح سابق للعميد أبو هاجة الذي كان قد اعلن فيه انقلاب مجموعة بكراوي، باعتباره محاولة انقلابية جديدة فاشلة، للتأكيد أن هناك خلافا في قيادة الجيش، و كمية من بوسترات التحريض. كل ذلك كان مصاحبا للعملية العسكرية، و لكنها لم تؤتي آكلها. بسبب تاريخ فظائع الميليشيا. و عدم الثقة فيها، فهي بنفسها تعقد الموقف أكثر.
أن الغريب في الأمر: رغم حركة الأحداث المتصاعدة يوميا، إلا أن هناك غيابا كاملا للقوى السياسية، و بعض الحراك يصنع من خلال مجهودات فردية من قبل سياسيين. أن المجتمع منقسم إلي نفسه أغلبية الشعب تقف مع الجيش و هناك قوى الحرية و التغيير المركزي لها حراك يهدف إلي خلق جبهة مدنية عريضة " تقدم" و تتهم الاسلاميين هم وراء كل الحراك الدائر، و الرافض لوقف الحرب. و هذه أيضا مقولة لا يصبها الحق لآن؛ ليس الواقفين مع الجيش فقط هم الإسلاميين، هناك مجموعات أخرى ليس لها علاقة بالإسلاميين، و لكنها تقف موقفا واضحا، أن الميليشيا يجب أن تذهب إلي مزبلة التاريخ غير مأسوفا عليها. كانت مرحلة الميليشيا خطأ في تاريخ السودان السياسي صنعته الإنقاذ، و تصحيح الخطأ يعتبر واحدا من شعارات الثورة، تفكيك دولة الحزب إلي مصلحة التعددية السياسية. و إذا كان هناك عناصر في الميليشيا يريدون ممارسة العمل السياسي، عليهم بتأسيس حزب سياسي، و ليس ميليشيا مسلحة. أما القوى السياسية الأخرى غائبة تماما عن المسرح السياسي، هؤلاء منتظرين الحل يأتي من الآخرين لكي يصعدوا على سلم المحاصصات. أن من يعتقد أن الحرب سوف لن تخلق واقعا جديدا يكونوا غير مدركين للتغيير الذي يحدث في المجتمع بسبب الحرب، و غير مدركين لدور الشباب الذين استجابوا لحق الوطن في محمل السلاح دفاعا عن المجتمع، هؤلاء هم الذين سوف يحدثون واقع التغيير الجديد في البلاد. و أن الحرب و مأساتها هي التي سوف تدفع لخلق قيادات جديدة قد استوعبت الدرس تماما، و ما هو المطلوب من أجل السلام و النهضة. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء