اتفاقية أديس أببا مارس 1972: دروس من أجل الحاضر
رئيس التحرير: طارق الجزولي
5 March, 2024
5 March, 2024
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
تمر هذه الأيام ذكرى اتفاقية السلام التي وقعها نظام جعفر نميري في 3 مارس 1972 بالعاصمة الاثيوبية أديس أببا مع حركة الانانيا والتي كانت تقود تمرداً في جنوب البلاد. ويعد هذا اليوم مهماً في تاريخ السياسة في السودان بشماله وجنوبه، فقد تحقق فيه السلام وسكتت أصوات البنادق على ربوع البلاد لمدة طويلة نسبياً امتدت من تاريخ توقيع الاتفاقية إلى عام 1983، حين أخل جعفر نميري ببنود الاتفاقية وامتدت يده بالعبث بهيكل النظام الإداري الذي أقامته الاتفاقية، بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث أقاليم ومنحها سلطة أقل من السلطة التي حددتها الاتفاقية للإقليم الجنوبي . وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت نار الحرب مرة أخرى رغم أن هناك عدة عوامل أخرى زادت من أوارها وأدت إلى تفاقمها.
من النتائج الواضحة التي صرخت بها العبر المستخلصة من اتفاقية أديس أببا والتي لابد من استصحابها للنظر في الحاضر والحروب الضروس التي تدور رحاها على ارض السودان ما يلي:
1- أن التفاوض هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى إنهاء الحروب وإحلال السلام، وأن الحرب مهما تمددت فإن النصر العسكري الحاسم لا يمكن أن يتم في بلد متمدد الأطراف، واسع المساحات متعدد الأعراق والاثنيات والأمزجة. فقد اندلعت الحرب في جنوب البلاد مع بواكير الاستقلال واستمرت مع تغير النظم السياسية الحاكمة وتقلبها بين أنظمة عسكرية ومدنية. وظلت الحرب هي العامل المشترك بكل جحيمها ودمارها وعذاباتها، ولم تستطع كل المحاولات العسكرية في حسمها إلا من خلال حوار جاد أدى إلى مخاطبة المشكلة والوصول إلى معالجات ناجعة لأسبابها. فالتعويل على الحل العسكري رهان خاسر لا يقود البلاد إلا إلى محرقة غير معروفة النهايات.
صحيح أن اتفاقية أديس أببا لم تكن المحطة الوحيدة في طريق التفاوض، فقد سبقها مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، إلا أن الاتفاقية مثلت أول محاولة كتب لها النجاح، في سبيل تحقيق السلام، وزعم السيد الصادق المهدي في ورقة له بعنوان "العلاقة “العلاقة بين السودان ودولة الجنوب من الابارتايد إلى الوحدة إلى الانفصال إلى التوأمة" أن ثورة أكتوبر في 1964 استردت الديمقراطية وتوجهت نحو حل سياسي للمسألة الجنوبية. هذا النهج بدأ بمؤتمر المائدة المستديرة، ثم لجنة الإثنى عشر، ثم مؤتمر كل الأحزاب، وأثمر مشروعاً لحل المشكلة في إطار الاعتراف بالتنوع وإقامة الحكم الذاتي الإقليمي.. هذا البرنامج طبقه نظام 25 مايو 1969م الانقلابي.
2- بدأت الحرب في جنوب البلاد من خلال أعمال عنف متفرقة، كان يمكن السيطرة عليها والتعامل معها على نحو سياسي، إلا أن النخب الحاكمة في الشمال لم تكن على مستوى الحكمة المطلوبة، كما أن السياسة التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة في الشمال غلبت الخيار العسكري على خيار الحل السلمي، دون أن تفطن للمآلات التي يمكن أن تقود لها الحرب مستقبلاً. وقد فتح ذلك الباب واسعاً لتشكيل أسس ثقافية وسياسية للتمرد في الجنوب واستقطاب أعداد كبيرة من الجنوبيين لم يكن لهم رغبة نفسية للانخراط في الحرب. كما أنها تمددت من مجرد تمرد محدود في منطقة الاستوائية ليشمل لهيبها كافة أنحاء جنوب البلاد، فالحرب قرار، حين تندلع لا يملك أصحابه القدرة على تحديد مآلاته ولا المدى الذي يمكن أن يمتد له تأثير ذلك القرار.
وقد حصلت حركة الانانيا في ظل التجاذبات الإقليمية على دعم لوجستي من عدد من الدول الأخرى ساهمت في تسليحها، وتمكينها من خلق حركة ذات قوة، وكان يمكن احتواء مطالبها منذ أن نشأت كحركة إذا اتسمت النخب السياسية ببعد النظر وقدرت الامتدادات التي يمكن أن تبسط فيه الحركة أياديها.
بعد الغاء الاتفاقية في 1983 نشبت الحرب مرة أخرى، إلا أنها تلفحت هذه المرة بدثار جديد فقد ظهر إلى السطح الحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكري، بقيادة جونق قرنق، وكانت الحرب هذه المرة على نحو أشد في ظل تشابكات سياسية أكثر تعقيداً قاد في نهاية المطاف إلى اتفاقية أخرى منح بموجبها جنوب السودان حق تقرير المصير، والذي قاد إلى انفصاله عن السودان وتكوين دولة مستقلة.
3- أوضحت اتفاقية اديس أببا بجلاء أن الإرادة السودانية الخالصة إذا اتجهت إلى حل النزاع وإيجاد السلام فإنها قادرة على ذلك. كما أنها تتمتع بالخيال والقدرة اللازمتين لاستنباط الأفكار المبدعة التي يمكن أن تجتاز بها الأشواك. مع الاعتراف بالدعم الذي وجدته المفاوضات من الحكومة الأثيوبية ومؤتمر الكنائس العالمي ومؤتمر كنائس عموم أفريقيا، فقد كان الحوار سودانياً، وكانت إرادة السودانيين هي الأساس الذي بنيت عليه بنود وقواعد الاتفاقية. وقد جاءت الاتفاقية على بنود بسيطة ذات دلالة عميقة، حيث أن البلاد لم تكن حتى ذلك الوقت قد خاضت في وحل صراع الهوية ودينية الدولة. وركزت على أمور أساسية شملت احترام الأديان بما فيها كريم الأديان الأفريقية التقليدية، والاعتراف بالخصائص الثقافية لأهل الجنوب بما في ذلك حقهم في تطوير ثقافتهم المحلية، والاعتراف بحق الجنوب في حكم نفسه حكماً ذاتيا.
4- لا تنشأ الالتزامات على النصوص التي تحددها الاتفاقيات وحدها، وإنما على إرادة الأطراف في تنفيذها. فالذي يرغب في انتهاك اتفاقية يمكن أن يجد ألف عذر حاضر لمساندة ذلك الانتهاك. ورغم وضوح النصوص التي حددت الهيكل المؤسسي للإقليم الجنوبي والصلاحيات التي منحت له إلا أن جعفر نميري لم يجهد نفسه كثيراً في الخروج عليها ، وتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث أقاليم تمتعت بصلاحيات أقل مما تمتع له الإقليم الجنوبي. مما أثار حفيظة الجنوبيين وأدى إلى اندلاع الحرب مرة أخرة في 1983.
5- تشكل الحروب الداخلية أكبر إهدار للفرص التي يمكن أن تستغلها البلاد في سعيها للتنمية وإحداث فرق في تطوير قدراتها . وبقياس المكاسب المادية التي حصل عليها الإقليم الجنوبي بعد الاتفاقية فقد عين برنامج الأمم المتحدة أحد الدبلوماسيين البارزين كمندوب لإعداد برنامج متكامل لإعادة إعمار الجنوب، وأعلن البنك الدولي عن مبادرة كبرى للتنمية في جنوب السودان وأصبح السودان ثاني الدول التي تتلقى معونات على مستوى الفرد بعد الهند، وزاد عدد المدارس أربعة أضعاف ما كان عليه الحال. وفوق كل ذلك توقفت أصوات الدمار والقتل وانعدام الأمن.
تجربة اتفاقية أديس أببا 1972 حري أن يتم الرجوع باستمرار لدراستها واستنباط العبر من نصوصها ومن الظروف التي أحاطت بها، لأغراض تجاوز عثرات الحاضر، وما أشد العثرات التي تعتور طريقنا وتتطلب العقل المحايد والحكمة التي أنضجتها التجارب. والكبوة التي انزلقت لها البلاد في حرب طاحنة تفوق في قدرتها على التدمير والإهلاك والآثار أضعاف ما أحدثته كل الحروب السابقة، تتطلب النظر ملياً في كل الدروس السابقة ومحاولة الاستفادة منها. وأهل المعرفة يقولون إن كل تجربة لا تنتج حكمة تكرر نفسها.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
تمر هذه الأيام ذكرى اتفاقية السلام التي وقعها نظام جعفر نميري في 3 مارس 1972 بالعاصمة الاثيوبية أديس أببا مع حركة الانانيا والتي كانت تقود تمرداً في جنوب البلاد. ويعد هذا اليوم مهماً في تاريخ السياسة في السودان بشماله وجنوبه، فقد تحقق فيه السلام وسكتت أصوات البنادق على ربوع البلاد لمدة طويلة نسبياً امتدت من تاريخ توقيع الاتفاقية إلى عام 1983، حين أخل جعفر نميري ببنود الاتفاقية وامتدت يده بالعبث بهيكل النظام الإداري الذي أقامته الاتفاقية، بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث أقاليم ومنحها سلطة أقل من السلطة التي حددتها الاتفاقية للإقليم الجنوبي . وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت نار الحرب مرة أخرى رغم أن هناك عدة عوامل أخرى زادت من أوارها وأدت إلى تفاقمها.
من النتائج الواضحة التي صرخت بها العبر المستخلصة من اتفاقية أديس أببا والتي لابد من استصحابها للنظر في الحاضر والحروب الضروس التي تدور رحاها على ارض السودان ما يلي:
1- أن التفاوض هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى إنهاء الحروب وإحلال السلام، وأن الحرب مهما تمددت فإن النصر العسكري الحاسم لا يمكن أن يتم في بلد متمدد الأطراف، واسع المساحات متعدد الأعراق والاثنيات والأمزجة. فقد اندلعت الحرب في جنوب البلاد مع بواكير الاستقلال واستمرت مع تغير النظم السياسية الحاكمة وتقلبها بين أنظمة عسكرية ومدنية. وظلت الحرب هي العامل المشترك بكل جحيمها ودمارها وعذاباتها، ولم تستطع كل المحاولات العسكرية في حسمها إلا من خلال حوار جاد أدى إلى مخاطبة المشكلة والوصول إلى معالجات ناجعة لأسبابها. فالتعويل على الحل العسكري رهان خاسر لا يقود البلاد إلا إلى محرقة غير معروفة النهايات.
صحيح أن اتفاقية أديس أببا لم تكن المحطة الوحيدة في طريق التفاوض، فقد سبقها مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، إلا أن الاتفاقية مثلت أول محاولة كتب لها النجاح، في سبيل تحقيق السلام، وزعم السيد الصادق المهدي في ورقة له بعنوان "العلاقة “العلاقة بين السودان ودولة الجنوب من الابارتايد إلى الوحدة إلى الانفصال إلى التوأمة" أن ثورة أكتوبر في 1964 استردت الديمقراطية وتوجهت نحو حل سياسي للمسألة الجنوبية. هذا النهج بدأ بمؤتمر المائدة المستديرة، ثم لجنة الإثنى عشر، ثم مؤتمر كل الأحزاب، وأثمر مشروعاً لحل المشكلة في إطار الاعتراف بالتنوع وإقامة الحكم الذاتي الإقليمي.. هذا البرنامج طبقه نظام 25 مايو 1969م الانقلابي.
2- بدأت الحرب في جنوب البلاد من خلال أعمال عنف متفرقة، كان يمكن السيطرة عليها والتعامل معها على نحو سياسي، إلا أن النخب الحاكمة في الشمال لم تكن على مستوى الحكمة المطلوبة، كما أن السياسة التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة في الشمال غلبت الخيار العسكري على خيار الحل السلمي، دون أن تفطن للمآلات التي يمكن أن تقود لها الحرب مستقبلاً. وقد فتح ذلك الباب واسعاً لتشكيل أسس ثقافية وسياسية للتمرد في الجنوب واستقطاب أعداد كبيرة من الجنوبيين لم يكن لهم رغبة نفسية للانخراط في الحرب. كما أنها تمددت من مجرد تمرد محدود في منطقة الاستوائية ليشمل لهيبها كافة أنحاء جنوب البلاد، فالحرب قرار، حين تندلع لا يملك أصحابه القدرة على تحديد مآلاته ولا المدى الذي يمكن أن يمتد له تأثير ذلك القرار.
وقد حصلت حركة الانانيا في ظل التجاذبات الإقليمية على دعم لوجستي من عدد من الدول الأخرى ساهمت في تسليحها، وتمكينها من خلق حركة ذات قوة، وكان يمكن احتواء مطالبها منذ أن نشأت كحركة إذا اتسمت النخب السياسية ببعد النظر وقدرت الامتدادات التي يمكن أن تبسط فيه الحركة أياديها.
بعد الغاء الاتفاقية في 1983 نشبت الحرب مرة أخرى، إلا أنها تلفحت هذه المرة بدثار جديد فقد ظهر إلى السطح الحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها العسكري، بقيادة جونق قرنق، وكانت الحرب هذه المرة على نحو أشد في ظل تشابكات سياسية أكثر تعقيداً قاد في نهاية المطاف إلى اتفاقية أخرى منح بموجبها جنوب السودان حق تقرير المصير، والذي قاد إلى انفصاله عن السودان وتكوين دولة مستقلة.
3- أوضحت اتفاقية اديس أببا بجلاء أن الإرادة السودانية الخالصة إذا اتجهت إلى حل النزاع وإيجاد السلام فإنها قادرة على ذلك. كما أنها تتمتع بالخيال والقدرة اللازمتين لاستنباط الأفكار المبدعة التي يمكن أن تجتاز بها الأشواك. مع الاعتراف بالدعم الذي وجدته المفاوضات من الحكومة الأثيوبية ومؤتمر الكنائس العالمي ومؤتمر كنائس عموم أفريقيا، فقد كان الحوار سودانياً، وكانت إرادة السودانيين هي الأساس الذي بنيت عليه بنود وقواعد الاتفاقية. وقد جاءت الاتفاقية على بنود بسيطة ذات دلالة عميقة، حيث أن البلاد لم تكن حتى ذلك الوقت قد خاضت في وحل صراع الهوية ودينية الدولة. وركزت على أمور أساسية شملت احترام الأديان بما فيها كريم الأديان الأفريقية التقليدية، والاعتراف بالخصائص الثقافية لأهل الجنوب بما في ذلك حقهم في تطوير ثقافتهم المحلية، والاعتراف بحق الجنوب في حكم نفسه حكماً ذاتيا.
4- لا تنشأ الالتزامات على النصوص التي تحددها الاتفاقيات وحدها، وإنما على إرادة الأطراف في تنفيذها. فالذي يرغب في انتهاك اتفاقية يمكن أن يجد ألف عذر حاضر لمساندة ذلك الانتهاك. ورغم وضوح النصوص التي حددت الهيكل المؤسسي للإقليم الجنوبي والصلاحيات التي منحت له إلا أن جعفر نميري لم يجهد نفسه كثيراً في الخروج عليها ، وتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث أقاليم تمتعت بصلاحيات أقل مما تمتع له الإقليم الجنوبي. مما أثار حفيظة الجنوبيين وأدى إلى اندلاع الحرب مرة أخرة في 1983.
5- تشكل الحروب الداخلية أكبر إهدار للفرص التي يمكن أن تستغلها البلاد في سعيها للتنمية وإحداث فرق في تطوير قدراتها . وبقياس المكاسب المادية التي حصل عليها الإقليم الجنوبي بعد الاتفاقية فقد عين برنامج الأمم المتحدة أحد الدبلوماسيين البارزين كمندوب لإعداد برنامج متكامل لإعادة إعمار الجنوب، وأعلن البنك الدولي عن مبادرة كبرى للتنمية في جنوب السودان وأصبح السودان ثاني الدول التي تتلقى معونات على مستوى الفرد بعد الهند، وزاد عدد المدارس أربعة أضعاف ما كان عليه الحال. وفوق كل ذلك توقفت أصوات الدمار والقتل وانعدام الأمن.
تجربة اتفاقية أديس أببا 1972 حري أن يتم الرجوع باستمرار لدراستها واستنباط العبر من نصوصها ومن الظروف التي أحاطت بها، لأغراض تجاوز عثرات الحاضر، وما أشد العثرات التي تعتور طريقنا وتتطلب العقل المحايد والحكمة التي أنضجتها التجارب. والكبوة التي انزلقت لها البلاد في حرب طاحنة تفوق في قدرتها على التدمير والإهلاك والآثار أضعاف ما أحدثته كل الحروب السابقة، تتطلب النظر ملياً في كل الدروس السابقة ومحاولة الاستفادة منها. وأهل المعرفة يقولون إن كل تجربة لا تنتج حكمة تكرر نفسها.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com