تجارة القوافل وطرقها في شمال السودان في القرن التاسع عشر: دراسة في الجغرافيا التاريخية

 


 

 

Caravan trade and routes in the northern Sudan in the 19th century: A Study in Historical Geography
حسن عبد العزيز أحمد Hassan Abdel Aziz Ahmed
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقتطفات من رسالة ماجستير قدمها حسن عبد العزيز أحمد لجامعة درم البريطانية في عام 1967م، وكانت دراسة في الجغرافيا التاريخية لـ "تجارة القوافل وطرقها في شمال السودان في القرن التاسع عشر".
وعلى ذِكْرِ التجارة، أورد كاتب الرسالة في مقدمته أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان قد عمل بالتجارة، وأن عمر بن الخطاب حض على ممارستها فقال ما ترجمته – حرفيا - إن "التجارة هي المحك الحقيقي للإنسان، ومن المعاملات المالية يُعْرَفُ مقدار تقوى المرء وتدنيه". وورد في بعض المصادر أن عمر بن الخطاب قال: "عليكم بالتجارة، لا تفتننكم هذه الحمراء على دينكم ..." (1).
المترجم
************** ************ ***********
1/ تحتوي هذه الرسالة - التي جاءت في 208 صفحة، على ستة فصول ومناقشة وخلاصة وعلى عدد من المراجع في نهاية كل فصل، وبها 10 جداول و58 شكلا. وهذه الأطروحة "رائدةً وأصيلة في موضوعها"، بحسب ما ذكره كاتب هذه الرسالة في رسالة الدكتوراه التي قدمها لجامعة درم البريطانية في عام 1970م. وقد يرى من يطلع على رسالة الماجستير هذه أنها تكاد تعدل بعض الأطروحات المقدمة لنيل درجة الدكتوراه في هذا الزمان ببعض البلدان.
تناول الفصل الأول طبيعة التجارة في مواد كالصمغ والسنامكي والجلود والعاج، وتطرق إلى العملات والضرائب بالسودان، وبعناصره البشرية، وقنوات التجارة وأنماطها المتغيرة.
وتناول الكاتب في الفصل الثاني (وهو أطول فصول الرسالة) العوامل السياسية والاقتصادية المؤثرة على التجارة، ووسائل النقل (عبر الأنهار، وعند بناء خط سكة حديد) وأنظمة التلغراف، والجمارك والرسوم. وتناول هذا الفصل أيضاً أحوال الزراعة بالبلاد، وطبيعة مناطق السودان الزراعية المختلفة، وطرق زراعة المحاصيل وريها. وتطرق أيضا للأراضي القابلة للزراعة في مديريات سواكن والتاكا وسنار والخرطوم وكردفان وبربر ودنقلا، والمناطق المزروعة بالفعل.
وخصص المؤلف الفصل الثالث لدراسة نمط التجارة الخارجية في مراحل مختلفة (منذ عام 1893 إلى 1898م)، والنمط العام لتجارة الاستيراد عام 1883م، وتجارة السواحل وتجارة الترانزيت مع داخل البلاد، وتجارة التصدير بين عامي 1883 و1898م، ونمطها العام. وتطرق المؤلف لما كان يُصدر من السودان مثل الصمغ وريش النعام والعاج والسنامكي واللؤلؤ.
أما الفصل الرابع فقد تناول المؤلف فيه نمط التجارة الداخلية في مواد مثل الذرة والتمر والملح والأقمشة المحلية والجلود (وما يُصْنَعُ منها). وفي الفصل الخامس تطرق كاتب الأطروحة لمراكز التجارة بالبلاد مثل سنار وشندي وبربر وسواكن والأبيض والفاشر وكوبي وكسلا والخرطوم وأم درمان.
وتناول الفصل السادس والأخير من الرسالة طرق القوافل، والعوامل المادية والاجتماعية والسياسية المؤثرة عليها، والنقل على ظهور الإبل. وشملت طرق القوافل التي تناولها الكاتب الطرق بين سواكن وبربر، والخرطوم والأبيض، والأبيض والفاشر، ودنقلا والفاشر، ودرب الأربعين، وطرق القوافل في "بيوضة"، وطريق بربر – أسوان، وأبو حمد – كورسكو.
في ختام الرسالة أورد المؤلف خلاصةً لبحثه، ومسرداً (glossary) للمصطلحات، وببليوجرافيا (ثبت مرجعي)، وعدداً من الملاحق.
************** *************** ************
2/ مُستَخلَص الرسالة
تعد التجارة جانباً مهماً من الجغرافيا الاقتصادية لأي بلد من البلدان. وكانت التجارة بالسودان قد تعرضت في القرن التاسع عشر لمصاعب وعوائق عدة خاصة به. فقد ارتبطت بيئته المادية القاسية (التي أفضت للعديد من الصعوبات، ليس أقلها شح المياه) بالتخلف الاقتصادي والاضطرابات السياسية. لذا بقيت تجارة السودان إبان سنوات القرن التاسع عشر مقصورة على قليل من المنتجات الطبيعية الأساسية مثل الصمغ (والجلود) والعاج، والتي كانت – وظلت – هي عروض التجارة منذ أزمان قديمة. ولم يحدث أي تطور في تلك التجارة بسبب شح رأس المال، وعدم وجود عملة معيارية، وفرض السلطات لضرائب ومكوس باهظة وعشوائية، وأيضاً لغياب الكفاءة الإدارية، واتخاذ سياسات احتكارية قصيرة النظر.
وكان السبب من وراء العديد من تلك المشاكل هو غياب وسائل نقل رخيصة وفعالة. ونتيجة لوجود شلالات على النيل شكلت حواجز مادية للنقل النهري، اضطر الناس لعبور الصَّحَارِي القاحلة، واتخذوها طرقاً للتجارة، وبالتالي كانت وسيلة النقل الوحيدة المتاحة هي الجمال. ولم تكن لدى هذا الحيوان البطيء والمِزَاجِيّ (2) إلا قدرة محدودة على حمل الأثقال. وكانت طبيعة الطرق التي تسلكها القوافل التجارية قد حددت – لدرجة كبيرة - أنواع البضائع التي يمكن نقلها من مكان لآخر. وهذا يستبعد بالضرورة كل المواد الثقيلة الوزن وتلك القابلة للكسر. وبالنسبة للتصدير، أضطر المصدرون للتركيز على المواد ذات القيمة العالية (منسوبة لوزن الوحدة) مثل العطور والبهارات والمنتجات القطنية. وبالإضافة إلى الإتْجَار بالمواد ذات القيمة العالية، كانت هناك كذلك تجارة داخلية تتكون أساساً من التعاملات التي تميل إلى أن تكون متغيرة موسمياً ومحلية نسبياُ.
وفي غضون سنوات القرن التاسع عشر سعت الحكومات المتعاقبة لتنشيط التجارة عن طريق إقامة عدد من المشاريع الهادفة لتطوير الموارد الزراعية، وذلك لتنويع المواد المتاحة للتصدير. ولاقت بعض تلك المشاريع نجاحاً قصير الأجل، إلا أن معظمها كان قد فشل تماماً، لسبب وحيد وهو الافتقار إلى التخطيط الاقتصادي المتكامل، وارتفاع تكلفة النقل، وعدم كفايته.
*********** ********* ************
3/ خاتِمَة الرسالة
بالنسبة لنا، ونحن نعيش في عصر الطائرة النفاثة، فإن فكرة السفر بالقوافل قد تبدو متخلفة وعسيرة وشاقة. وهي الآن شيء من الماضي – جزء من التاريخ لن يتكرر بأي صورة من الصور يعيد بها التاريخ نفسه. غير أنه لا يمكن تجاهل الدور التاريخي للقوافل في تطوير التجارة وتنشيط الصلات الاقتصادية بين مختلف الأقطار، على الرغم من تحديداتها / محدوديّاتها (limitations) البينة. وقد أعدنا في مختلف فصول هذه الرسالة التأكيد على أن ارتفاع تكلفة النقل وعدم كفايته كانتا من أهم الأسباب التي أعاقت تجارة التصدير بالسودان. ورغم صحة هذا القول، إلا أنه من الحقائق الثابتة أيضاً أن الجمل هو من جعل قطع المسافات المترامية أمراً ممكنا.
وكانت من معيقات التوسع في التجارة بالسودان هو أن التعاملات التجارية كانت مقتصرة على مصر، إضافة لعدم كفاءة النقل. غير أن التجارة بالسودان سرعان ما توسعت في الفترة الأخيرة من الحكم المصري (بين عامي 1879 و1883م) بسبب المشاركة النشطة للأوربيين في تجارة التصدير، وانتعاش الصلات التجارية المباشرة بين ميناء سواكن وأوروبا عبر قناة السويس بعد عام 1870م. غير أن قيام الثورة المهدية وضع للأسف نهاية مبكرة لذلك التوسع في النشاط التجاري بالسودان. (بحسب رأي الكاتب. المترجم).
وعلى الرغم من ذلك، فقد كان ذلك التوسع التجاري أمراً نسبيا؛ فقد ظل حجم التجارة صغيراً، وبقيت المواد المصدرة من السودان للعالم الخارجي محدودة جداً، مقارنةً بالإمكانيات التي كان من الممكن تطويرها لزيادة وتكملة المنتجات الطبيعية المصدرة. وفي السودان أراضٍ (خصبة) منتجة كان بالإمكان زراعتها بمحاصيل نقدية مستدامة إن توفرت وسائل الري على مدار العام، وإن أُدِيرَتْ بطرق علمية. وبالمثل، لم يتم تطوير المنتجات الطبيعية التي كانت تشكل العمود الفقري لتجارة التصدير. وكان البدو الرحل يلجأون لاستهلاك ما كانوا يدَّخِرُونه كلما اضطرهم نقص الإمدادات الغذائية إلى ذلك، إذ أنه لم يكن بإمكانهم الحصول على الغذاء إلا عن طريق بيع تلك المواد. وكانوا يهملون في أوقات الوفرة عمليات الجمع، بل كانوا يقطعون حتى أشجار الصمغ لإفساح المجال للأراضي الزراعية. ومن ناحية أخرى، لم تكن الحكومة تمنح أجوراً مجزية لمن يقومون بعمليات الجمع؛ ولم تُنْظَمُ عملية التحصيل على أساس طويل الأجل لضمان إمداد ثابت.
غير أن تنمية وتطوير الموارد الزراعية لإنتاج محاصيل نقدية يحتاج لاستثمارات برؤوس أموال كبيرة، لم تكن متوفرة لدى الحكومة ولا عند سكان البلاد. وعلاوةً على ذلك، ظلت الحكومة عاجزةً عن توفير أدنى قدر من الاستقرار السياسي ليشجع جذب رؤوس الأموال الأجنبية. ووجد الأوربيون الذي أقاموا شركات في السودان أن الحكومة قد وضعت عقبات كثيرة وعوائق عديدة أمام التجارة الحرة.
ولم يكن هذا التوسع التجاري، للأسف، نتيجةً للتنمية والتقدم الاقتصادي، أو أفضى إليه، بل كان سببه الرئيس هو محدودية قدرة الجمال على حمل الأثقال، وطبيعة طرق التجارة بالبلاد، التي استبعدت تماماً استيراد بضائع مثل الآلات، وأيضاً بسبب محدودية البضائع المستوردة ذات القيمة العالية نسبياً. وكان النقل النهري سيكون بديلاً معقولا للنقل البري، لولا وجود الشلالات والمنحدرات المعيقة للملاحة في النيل بأقصى شمال البلاد. وفوق ذلك، كانت خطوط السكة حديد (التي كانت الحكومة البريطانية قد فكرت في إقامتها) غير مجدية اقتصاديا، إذ أن اثنين من تلك الخطوط كانتا تمران بمناطق ليس فيها انتاج يُذكر.
وبناءً على ذلك، كان هناك نوع من التنافس والتَجَاذُب بين طرق النيل المؤدية شمالاً إلى مصر، والطرق المؤدية إلى البحر الأحمر. كانت الأولى طويلة وخطيرة وتمر بصحارى قاحلة، ولكنها كانت هي المفضلة وذلك لأسباب سياسية وتاريخية. أما الطرق الثانية فقد كان هي المخارج الجغرافية الطبيعية للبلاد، وكانت تمتاز بقصرها وبقربها من البحر الأحمر، إلا أن الحكام المصريين لم يكن يُؤْثِرُونَها، ربما لأسباب سياسية. ورغم كل ذلك، فقد حُسِمَ نهائياً ذلك الجدال حول المنفذ الاقتصادي لتجارة السودان في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر لصالح موانئ البحر الأحمر.
وشملت العوامل الأخرى التي كانت قد أعاقت التنمية والتقدم الاقتصادي بالسودان سياسات التجارة المُتَزَمّتة عديمة الخيال التي سلكها المصريون والخلفاء، خاصة فيما يتعلق باحتكار التجارة، وفرض ضرائب وجمارك ورسوم باهظة، وقبول فكرة أن "التجارة" هي المصدر الأول للدخل. ولكن من وراء كل هذه الأسباب كانت هناك دولة شاسعة مترامية الأطراف، تعاني من سوء الخدمات، وليس فيها إلا وسائل نقل مكلفة وغير فعالة. وتتضح هذه النقطة جلياً عند إدراك حقيقة أن الإنتاج قد زاد بعد إعادة فتح السودان (3) وإدخال السكة حديد فيه. فعلى سبيل المثال زاد انتاج الصمغ من 1890 طناً إلى 2745 طناً في عام 1900م، ثم زاد في عام 1901 حين بلغ 7695 طناً. وفي عام 1911م وصل خط السكة حديد إلى مدينة الأبيض (مركز المناطق المنتجة للصمغ)، وبلغ انتاج السودان من الصمغ بعد ذلك نحو 80% من الإنتاج العالمي. ولُوحِظَتْ مثل تلك الزيادات في انتاج مواد أخرى كالعاج وريش النعام واللؤلؤ؛ وأهم من كل ذلك، زاد انتاج الذرة من مناطق القضارف، حتى عجزت السكة حديد عن مسايرة الزيادة الإنتاجية فيها.
وإلى هذا اليوم (أي في 1967م. المترجم) ظلت مساحة السودان الشاسعة المترامية الأطراف تشكل عائقاً كبيراً في جانب النقل. ولا تزال كثير من المناطق نائية، وبقيت وسائل النقل فيها متخلفة وذلك لغياب إمكانات النقل الحديثة، خاصة الطرق الحديثة وخطوط السكة حديد.
******** *********** ************
إحالات مرجعية
(1). https://shamela.ws/book/23688/382
(2). لعل وصف الجمل بأنه حيوان "مِزَاجِيّ" هو من الأوصاف الشائعة عند الأوربيين وغيرهم ممن لم يسبق لهم التعامل مع الإبل. https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-031-48600-5_7
(3). من المؤرخين الحديثين الذي اعترضوا على عبارة إعادة فتح السودان (reconquest) الأمريكي روبرت كرامر في كتابه "مدينة مقدسة على النيل. أم درمان في سنوات المهدية" حين كتب التالي في مقدمته: "لقد صار من المعتاد منذ عدد طويل من السنين أن يُشَارُ إلى أحداث أعوام 1896 – 1898م بـ "استعادة" السودان الإنجليزي – المصري". ولم أفهم قط سبب تلك التسمية. فالسودان لم يسبق له أن استفاد (أو تضرر) تحت حكم إنجليزي – مصري (أو تحت حكم إنجليزي) قبل المهدية. ولا شك عندي أنه ليست هناك ضرورة ولا دقة في الادعاء بأن الجنرال كتشنر كان يقوم بعميلة لإعادة شكل من أشكال نظام قانوني كان سائداً في السودان عندما هزم الخليفة عبد الله في كرري. وأثق في أن حتى الجنرال غوردون نفسه كان سيتفق معي على أن الأصح هو أن نُشِير إلى ما قام به كتشنر بـ "الفتح أو الغزو أو الاحتلال الإنجليزي – المصري".

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء