زفـرات المهــزومين الأخيــرة
جمال محمد ابراهيم
6 June, 2024
6 June, 2024
جمال محمد ابراهيم
(إن منفى أبي عبدالله لم يكن يرجى معه الرجوع
وقد سمح له الروم بأن يحمل معه كل ما يرغب في حمله
وهكذا فإنه رحل إلى النسيان غنياً ولكن بائسا ، وعندما
اجتاز آخر ممرٍ جبلي كان بوسعه أن يرى بعدُ منه غرناطة،
ظلَّ طويلاً ساكناً مضطربَ النظرات شاردَ الذهن
من الهول ، ولقد سمّى القشتاليون هذا المكان:
"زفرة العـربي الأخيرة"..)
الروائي أمين معلوف: "ليون الأفريقي"
(1)
بعد أن سيطر القشتاليون على الأندلس إثر انهيار الدولة الاسلامية في الأندلس، قبل نحو ثمانمائة عام ، وأجبـروا الخليفة العربي الأخيرعلى التنازل، مثلما توضح الفقـرة التي وردت في رواية الروائي اللبناني أمين معلوف أعـلاه، لم يقم الحكام الجـدد بتدميــر دولة الأندلس ، وذلك لأن أمر السياسة والحكم - بمختصر العبارة- يجنح في طبيعته إلى تحوّل وتبدّل، فالممالك تتهاوى والسلاطين إلى فناء، والجيوش إلى زوال . أما الحضارة فهي جماع الإرث الباقي من البناء الثقافي والروحي والمادي والمعنوي لأمّــة من الأمـم ، فأمـرها أكثر رسوخا وأعمق جذورا.
تنظر إلى اسـبانيا اليوم وهي أندلـس الأمس، فتجد الموروث الحضــاري باق إلى اليوم ، تراه في الأدب والثقافة والفنون كما في البـناء والعمران . انتصر القشــتاليون على رمــوز السياســـة والممالك والسـلاطين والجيوش في دولة الأندلــس، ولكن لم يحطـمـوا قصـــور غرناطـة وقرطبــة، ولا بدّلـوا مظاهـر الابداع في مجالات الفكر والفنــون والآدب، بل ولـم تغادر كلمات عربية لغـة الأســبان إلى اليوم .
نقول بلغة اليوم: لقد ذهبت "القوة الصلبة"، ولكن بقيت "القوة الناعمة"، وهي الأقدر على البقاء بحكم قدرات التفاعل الايجابي ، وبحكم معايير البقاء للأكثر إبداعا والأعمق فكرا.
(2)
لك أن تنظر مليّاً في أحوال الصّراعات والحروب التي لم تضعف التعاون المأمول والتشارك المرجوّ بين بني البشر فحسب، بل تفاقمتْ خلافات السياسة وصراعاتها، وزاد تباين المصالح وتقاطعاته، فصار السِّـباق نحو التسـلح أقرب إلى "ماراثون" إفـناء الـذات البشرية، منه إلـى بقائـها .
حرب تدور في آسيا بين روسـيا وأوكرانيا، تدمّر خلالها " القـوّة الصلبة" : المباني والعمارة والمصانع ، فيـما تبقى "القوة الناعمة" شـراكة بين الندّين المتحاربين . وبعد تلك الحرب، ومنذ أبريل /نيسان من عام 2023، يدورقتال في داخل الســودان وراءه أصــابع خارجية غير خافية ، لم تكتفِ بتدمير " القوة الصلبة"، لكنها سـعت إلى تفتيت "القوّة الناعمة" بإصرار وسبق ترصّد. ثم تدور حربٌ ثالثة في أرض فلســطين بين كيانٍ مُغتصِـبٍ ظـالم وأمّــةٍ ذات حــقٍّ في أرضها ، فنرى جيوشَ الطغــاة في إسرائيل تواجه من يقاومون صلفها فتقتل البشـر وتحرق الأرض وتبيد الحـرث، بما يعادل حربَ إبادة جماعية، أدانتها المثـل والأخلاق والمواثيق الإنسانية جمعاء.
(3)
إن أمعنت النظــر مليّاً كرّة أخـرى، لن يغيب عن بصـرك أنّ لكلِّ هــذه الصّــراعات والحروب، وجوها تتصل بهـوية أولئك المتصــارعين وبألوان انتماءاتهم . بيـن روســـيا وأوكرانيا تنافس تاريخي قديم ظلّ نائما لسنوات طوال، خلال حقبة حكم الاتحاد السوفيتي التي امتّدت لأكثر من سبعين عاما ، إلا أنّ ذلك الاتحاد الذي ثبتت هشاشـته التاريخـية قد انهــار أوائل العـقـد الأخيـر من القـرن العشــــرين الميلادي، لم يفلح في تثبيت هوية واحدة ولا في ولاء وحيد للاتحاد السوفيتي، الذي قام على أسس ومبـاديء الشــيوعية على أيـــدي مفكرين كبار مثل ماركس وانجلز ولينين وســواهم . تنبّهـت دولة روســـيا إلى أن الهــوية السوفيتية لم تقض على هويات الشعوب التي ضمّها الاتحاد الســوفيتي السابق، فصارت كلُّ أمّـة تبحـثَ عمَّا يقوي انتمائها إلى أرضها . نشب الصراع الرّوسي الأوكراني بهدف رغبة موسكو لاستعادة عناصر وطوائف من أصول روسية يساكنون الأوكرانيين في إقليم يقع في شرقي أوكرانيا. ذلك – مثلاً- ما يفسّر مع أسبابٍ أخرى، إصرار موســـكو للسيطرة على "خاركوف" وهي ثاني أكبر المدن الأوكرانية.
(4)
أما الحرب "شبه الأهلية" في السودان، فتتلاقى فيها وتتقاطع، أجنداتٌ لأطرافٍ عديدة عيونها على ثرواتٍ في ظاهر الأراضي السودانية، وأيضا في باطنها. ذهبٌ هنا ونفط هناك. في الســـودان أنهار عذبة ٍ وأراضٍ خصوبتها مُغرية، وأخرى سافنا تنتج أشــجارها أكثر من 80% من انتاج العالم من محصول واحد هو الصمغ العربي. يشكو العالم من تناقص ثرواته المائية والغذائية، ومن تحديات تغيّـرات المناخ والاسـتحرار ونفاد الطاقة ، لكن لا يشــكو السودان من شيء، إلا من فشله في إدارة أحوال بلاده، وتلك هي الخطيئة الكبرى . ثراء في الموارد والثروات وفقر في إدارة استغلال تلك الموارد والثروات .
حين جاءت شركة شبفرون الأمريكية للتنقيب عن البترول في السودان في أوائل سنوات الثمانينات من القرن الماضي ، فوجيء السودانيون بإيقاف جهود شيفرون، بل واغلاق آباره بالخرسانة ، لأن نفط السودان مقدر له ألا يستخرج إلا بعد نحو عقدين ، فهو مخزون احتياطي تتحكم فيه أشباح تنتمي لما يسمّى المجتمع الدولــي. هو نفسه المجتمع الدولــي الذي قسَّم السودان إلى شـطرين، وأذكى نار الفتنة في أقاليمه الغربية في دارفور ، إذ من المطلوب أن يبقى الســودان منشغلا بصـراعاته الداخلية، فإن كادت أن تخمد نيرانها ، تتجاســر أيادٍ من وراء حدوده لتزيد نيران تلك الفتنة اشتعالا.
ومن بين تلك الأصابع من تجرّأ ووقف وراء مؤامرة كبرى تستهدف إحلال مســتعربي شتات غربي أفريقيا ليتخذوا أجزاء من دارفور مأوىً لشتاتهم . ثمة بعد تتضح أبعاده وينصل بهوية وانتماء.
ذلك أشبه بالذي قام به بعض بني اليهود باسـتدرار عطف أطــرافٍ في المجتمع الدولي بزعم أنهم ضحايا لأكذوبة كبرى أسموها " الهولوكوست" - المحــرقة- ، فنالوا وعدا ممن لا يملك ومنحهم أرض فلسطين ليقيموا دولة تأوي شـــتات الصهاينة، أسموها إسرائيل.
(5)
ثم نأتي لذكر الحـرب الثالثـة التي أدارها الإســرائيليون ضد الفلســطينيين، وتصــفها اختصــاراً جلّ أجهـزة الإعلام الغربية، بأنها حرب إســرائيل ضد "حمـاس"، و"حمـاس" فـي قواميسهم محض عصابة إرهابية. من المؤسف أنّ عددا من الأطراف العربية – أقول عــدداً ولا أرغب في التحديد ، عذراً- ترى أنّ حرب إسرائيل على الفلسطينيين هي حربٌ يخوضها المجتمع الدولي بكامله ضدّ ما يســمّى بلإرهـاب الدولــي. إنّ التمويه الإعــلامي في العـالـم الغربي، ومثله مثل الذكـاء الاصطناعي، هو أداة مثل أيّ أداة من أدوات تبرير الحــرب الدائرة لحماية سكان إسرائيل. ولـك أن ترى ثورة شباب العالم الغربي ومناهضتهم لحكومات بلدانهم التي تناصر شطط إسرائيل في حرب إبادة شعب فلسطيني كامل ، إذ هبت جموعهم في جامعاتهم ومؤسساتهم يناصرون الحق ويقفون بصلابة منادين بإيقاف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون . هي المرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي تجتاح العالم هبّة قوية من أجل قضية فلسطين ، خفتت معها أصوات، وتقاصرت عنها هتافت، كنا نسمعها لعقود طوال من منظمة التحرير الفلسطينية، وحكومات معها ظلت تحتكـر القضية لأكثر من جيليـن، والصلف الإسرائيلي يراوح مكانه ثابتاً.
إنّ الجيل الثالث من العرب أو من اليهــود وحتى من الدّول الغربيــة، لم يعد مستكينا كما في سابق عهده لســــلطات بلدانهم التي تحتكر أصواتهم ، بل هم الآن قد هبّوا يحتقرون أكثر حكوماتهم التي مالأت إسرائيل، وعلتْ أصواتهم فوق اصوات حكــوماتهم وأجهــزتها ومجالسها التشريعية وقنواتها الفضائية، تطالب بإيقاف الحرب الظالمة.
(6)
لمْ تعُـد صراعات العالم وحروبه تدور في الخفاء كما في الحروب السابقة، مثل الحرب العالمية الأولى او الثانية ، إذ العــالم قد انكشفت أطرافه جميعها على بعضها البعض، وصار التقـدم العلمي الجبّار وما أحدثه من ثورة في التواصل والاتصــال، تراجعــت إزاءه تلك السطوة القديمة لأجهزة إعلام درجت على التحكّم في مسارات وتوجّهات الرأي العام . لم تعد لشركات العلاقـات العامة من وظـيفة تؤدّيها لإظهار غير الذي يراد له أن يظهر، أو إخفاء ما لا يراد أن تراه العيون أ الآذان .
لذا فإن نماذج الحروب الدائرة الآن، سواء في روسيا أو في السودان أو في إسرائيل، قد تجاوزت بحرارة اشتعالها وحدّة مسبّباتها مواثيق وهياكل الأجهزة التي أنيط بها حفظ السلام والأمن الدوليين، ذلك بأن بعضها قد تجاوز تدمير القوة الصلبة إلى تدمير القوة الناعمة وهي التي تنتج الفكرالخلاق وتستنطق التاريخ وتستشرف المستقبل . ولمجــابهة ما تفاقـم من تحديات، فإن على المجتمع البشــري أن يبـتدع أطـراً جــديدة، وأن تفـتح ســـاحات للفكــر الإنساني الخلاق ، ليبتكر ما قد يعيـن لاستشراف واقع دولي آخـذ في التشكّل بوتيرة ينبعي التنبّه لتداعياتها ، وأن لا ينشغل بتجليات الحروبات الماثلة على حدّتها ، وعليه مخاطبة جذور المشاكل ، فإن كانت للإنسان رغبة في الحياة وهي الفطرة التي فطر عليها الإنسان ، فعلى المجتمع الإنساني الدولي أن يعمل من أجل أن تكـون الحيـاة ممكنة، وأن يكـون العــيش المشترك، مظلة تقي البشرية ممّا قد يتربّص بها أو يفنيها من شـرٍّ مستطير يصنعه بعض أبناؤها. أيها الوالغون في القتال ، في روسيا أو في السودان أو في إسرائيل : متى يخرج المهزوم منكم ليصدر زفرته الأخيرة مثلما أصـدر أبي عبدالله زفرته الأخيرة في الأندلس. .؟
القاهرة – 2 يونيو/حزيران 2024
jamalim@yahoo.com
(إن منفى أبي عبدالله لم يكن يرجى معه الرجوع
وقد سمح له الروم بأن يحمل معه كل ما يرغب في حمله
وهكذا فإنه رحل إلى النسيان غنياً ولكن بائسا ، وعندما
اجتاز آخر ممرٍ جبلي كان بوسعه أن يرى بعدُ منه غرناطة،
ظلَّ طويلاً ساكناً مضطربَ النظرات شاردَ الذهن
من الهول ، ولقد سمّى القشتاليون هذا المكان:
"زفرة العـربي الأخيرة"..)
الروائي أمين معلوف: "ليون الأفريقي"
(1)
بعد أن سيطر القشتاليون على الأندلس إثر انهيار الدولة الاسلامية في الأندلس، قبل نحو ثمانمائة عام ، وأجبـروا الخليفة العربي الأخيرعلى التنازل، مثلما توضح الفقـرة التي وردت في رواية الروائي اللبناني أمين معلوف أعـلاه، لم يقم الحكام الجـدد بتدميــر دولة الأندلس ، وذلك لأن أمر السياسة والحكم - بمختصر العبارة- يجنح في طبيعته إلى تحوّل وتبدّل، فالممالك تتهاوى والسلاطين إلى فناء، والجيوش إلى زوال . أما الحضارة فهي جماع الإرث الباقي من البناء الثقافي والروحي والمادي والمعنوي لأمّــة من الأمـم ، فأمـرها أكثر رسوخا وأعمق جذورا.
تنظر إلى اسـبانيا اليوم وهي أندلـس الأمس، فتجد الموروث الحضــاري باق إلى اليوم ، تراه في الأدب والثقافة والفنون كما في البـناء والعمران . انتصر القشــتاليون على رمــوز السياســـة والممالك والسـلاطين والجيوش في دولة الأندلــس، ولكن لم يحطـمـوا قصـــور غرناطـة وقرطبــة، ولا بدّلـوا مظاهـر الابداع في مجالات الفكر والفنــون والآدب، بل ولـم تغادر كلمات عربية لغـة الأســبان إلى اليوم .
نقول بلغة اليوم: لقد ذهبت "القوة الصلبة"، ولكن بقيت "القوة الناعمة"، وهي الأقدر على البقاء بحكم قدرات التفاعل الايجابي ، وبحكم معايير البقاء للأكثر إبداعا والأعمق فكرا.
(2)
لك أن تنظر مليّاً في أحوال الصّراعات والحروب التي لم تضعف التعاون المأمول والتشارك المرجوّ بين بني البشر فحسب، بل تفاقمتْ خلافات السياسة وصراعاتها، وزاد تباين المصالح وتقاطعاته، فصار السِّـباق نحو التسـلح أقرب إلى "ماراثون" إفـناء الـذات البشرية، منه إلـى بقائـها .
حرب تدور في آسيا بين روسـيا وأوكرانيا، تدمّر خلالها " القـوّة الصلبة" : المباني والعمارة والمصانع ، فيـما تبقى "القوة الناعمة" شـراكة بين الندّين المتحاربين . وبعد تلك الحرب، ومنذ أبريل /نيسان من عام 2023، يدورقتال في داخل الســودان وراءه أصــابع خارجية غير خافية ، لم تكتفِ بتدمير " القوة الصلبة"، لكنها سـعت إلى تفتيت "القوّة الناعمة" بإصرار وسبق ترصّد. ثم تدور حربٌ ثالثة في أرض فلســطين بين كيانٍ مُغتصِـبٍ ظـالم وأمّــةٍ ذات حــقٍّ في أرضها ، فنرى جيوشَ الطغــاة في إسرائيل تواجه من يقاومون صلفها فتقتل البشـر وتحرق الأرض وتبيد الحـرث، بما يعادل حربَ إبادة جماعية، أدانتها المثـل والأخلاق والمواثيق الإنسانية جمعاء.
(3)
إن أمعنت النظــر مليّاً كرّة أخـرى، لن يغيب عن بصـرك أنّ لكلِّ هــذه الصّــراعات والحروب، وجوها تتصل بهـوية أولئك المتصــارعين وبألوان انتماءاتهم . بيـن روســـيا وأوكرانيا تنافس تاريخي قديم ظلّ نائما لسنوات طوال، خلال حقبة حكم الاتحاد السوفيتي التي امتّدت لأكثر من سبعين عاما ، إلا أنّ ذلك الاتحاد الذي ثبتت هشاشـته التاريخـية قد انهــار أوائل العـقـد الأخيـر من القـرن العشــــرين الميلادي، لم يفلح في تثبيت هوية واحدة ولا في ولاء وحيد للاتحاد السوفيتي، الذي قام على أسس ومبـاديء الشــيوعية على أيـــدي مفكرين كبار مثل ماركس وانجلز ولينين وســواهم . تنبّهـت دولة روســـيا إلى أن الهــوية السوفيتية لم تقض على هويات الشعوب التي ضمّها الاتحاد الســوفيتي السابق، فصارت كلُّ أمّـة تبحـثَ عمَّا يقوي انتمائها إلى أرضها . نشب الصراع الرّوسي الأوكراني بهدف رغبة موسكو لاستعادة عناصر وطوائف من أصول روسية يساكنون الأوكرانيين في إقليم يقع في شرقي أوكرانيا. ذلك – مثلاً- ما يفسّر مع أسبابٍ أخرى، إصرار موســـكو للسيطرة على "خاركوف" وهي ثاني أكبر المدن الأوكرانية.
(4)
أما الحرب "شبه الأهلية" في السودان، فتتلاقى فيها وتتقاطع، أجنداتٌ لأطرافٍ عديدة عيونها على ثرواتٍ في ظاهر الأراضي السودانية، وأيضا في باطنها. ذهبٌ هنا ونفط هناك. في الســـودان أنهار عذبة ٍ وأراضٍ خصوبتها مُغرية، وأخرى سافنا تنتج أشــجارها أكثر من 80% من انتاج العالم من محصول واحد هو الصمغ العربي. يشكو العالم من تناقص ثرواته المائية والغذائية، ومن تحديات تغيّـرات المناخ والاسـتحرار ونفاد الطاقة ، لكن لا يشــكو السودان من شيء، إلا من فشله في إدارة أحوال بلاده، وتلك هي الخطيئة الكبرى . ثراء في الموارد والثروات وفقر في إدارة استغلال تلك الموارد والثروات .
حين جاءت شركة شبفرون الأمريكية للتنقيب عن البترول في السودان في أوائل سنوات الثمانينات من القرن الماضي ، فوجيء السودانيون بإيقاف جهود شيفرون، بل واغلاق آباره بالخرسانة ، لأن نفط السودان مقدر له ألا يستخرج إلا بعد نحو عقدين ، فهو مخزون احتياطي تتحكم فيه أشباح تنتمي لما يسمّى المجتمع الدولــي. هو نفسه المجتمع الدولــي الذي قسَّم السودان إلى شـطرين، وأذكى نار الفتنة في أقاليمه الغربية في دارفور ، إذ من المطلوب أن يبقى الســودان منشغلا بصـراعاته الداخلية، فإن كادت أن تخمد نيرانها ، تتجاســر أيادٍ من وراء حدوده لتزيد نيران تلك الفتنة اشتعالا.
ومن بين تلك الأصابع من تجرّأ ووقف وراء مؤامرة كبرى تستهدف إحلال مســتعربي شتات غربي أفريقيا ليتخذوا أجزاء من دارفور مأوىً لشتاتهم . ثمة بعد تتضح أبعاده وينصل بهوية وانتماء.
ذلك أشبه بالذي قام به بعض بني اليهود باسـتدرار عطف أطــرافٍ في المجتمع الدولي بزعم أنهم ضحايا لأكذوبة كبرى أسموها " الهولوكوست" - المحــرقة- ، فنالوا وعدا ممن لا يملك ومنحهم أرض فلسطين ليقيموا دولة تأوي شـــتات الصهاينة، أسموها إسرائيل.
(5)
ثم نأتي لذكر الحـرب الثالثـة التي أدارها الإســرائيليون ضد الفلســطينيين، وتصــفها اختصــاراً جلّ أجهـزة الإعلام الغربية، بأنها حرب إســرائيل ضد "حمـاس"، و"حمـاس" فـي قواميسهم محض عصابة إرهابية. من المؤسف أنّ عددا من الأطراف العربية – أقول عــدداً ولا أرغب في التحديد ، عذراً- ترى أنّ حرب إسرائيل على الفلسطينيين هي حربٌ يخوضها المجتمع الدولي بكامله ضدّ ما يســمّى بلإرهـاب الدولــي. إنّ التمويه الإعــلامي في العـالـم الغربي، ومثله مثل الذكـاء الاصطناعي، هو أداة مثل أيّ أداة من أدوات تبرير الحــرب الدائرة لحماية سكان إسرائيل. ولـك أن ترى ثورة شباب العالم الغربي ومناهضتهم لحكومات بلدانهم التي تناصر شطط إسرائيل في حرب إبادة شعب فلسطيني كامل ، إذ هبت جموعهم في جامعاتهم ومؤسساتهم يناصرون الحق ويقفون بصلابة منادين بإيقاف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون . هي المرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي تجتاح العالم هبّة قوية من أجل قضية فلسطين ، خفتت معها أصوات، وتقاصرت عنها هتافت، كنا نسمعها لعقود طوال من منظمة التحرير الفلسطينية، وحكومات معها ظلت تحتكـر القضية لأكثر من جيليـن، والصلف الإسرائيلي يراوح مكانه ثابتاً.
إنّ الجيل الثالث من العرب أو من اليهــود وحتى من الدّول الغربيــة، لم يعد مستكينا كما في سابق عهده لســــلطات بلدانهم التي تحتكر أصواتهم ، بل هم الآن قد هبّوا يحتقرون أكثر حكوماتهم التي مالأت إسرائيل، وعلتْ أصواتهم فوق اصوات حكــوماتهم وأجهــزتها ومجالسها التشريعية وقنواتها الفضائية، تطالب بإيقاف الحرب الظالمة.
(6)
لمْ تعُـد صراعات العالم وحروبه تدور في الخفاء كما في الحروب السابقة، مثل الحرب العالمية الأولى او الثانية ، إذ العــالم قد انكشفت أطرافه جميعها على بعضها البعض، وصار التقـدم العلمي الجبّار وما أحدثه من ثورة في التواصل والاتصــال، تراجعــت إزاءه تلك السطوة القديمة لأجهزة إعلام درجت على التحكّم في مسارات وتوجّهات الرأي العام . لم تعد لشركات العلاقـات العامة من وظـيفة تؤدّيها لإظهار غير الذي يراد له أن يظهر، أو إخفاء ما لا يراد أن تراه العيون أ الآذان .
لذا فإن نماذج الحروب الدائرة الآن، سواء في روسيا أو في السودان أو في إسرائيل، قد تجاوزت بحرارة اشتعالها وحدّة مسبّباتها مواثيق وهياكل الأجهزة التي أنيط بها حفظ السلام والأمن الدوليين، ذلك بأن بعضها قد تجاوز تدمير القوة الصلبة إلى تدمير القوة الناعمة وهي التي تنتج الفكرالخلاق وتستنطق التاريخ وتستشرف المستقبل . ولمجــابهة ما تفاقـم من تحديات، فإن على المجتمع البشــري أن يبـتدع أطـراً جــديدة، وأن تفـتح ســـاحات للفكــر الإنساني الخلاق ، ليبتكر ما قد يعيـن لاستشراف واقع دولي آخـذ في التشكّل بوتيرة ينبعي التنبّه لتداعياتها ، وأن لا ينشغل بتجليات الحروبات الماثلة على حدّتها ، وعليه مخاطبة جذور المشاكل ، فإن كانت للإنسان رغبة في الحياة وهي الفطرة التي فطر عليها الإنسان ، فعلى المجتمع الإنساني الدولي أن يعمل من أجل أن تكـون الحيـاة ممكنة، وأن يكـون العــيش المشترك، مظلة تقي البشرية ممّا قد يتربّص بها أو يفنيها من شـرٍّ مستطير يصنعه بعض أبناؤها. أيها الوالغون في القتال ، في روسيا أو في السودان أو في إسرائيل : متى يخرج المهزوم منكم ليصدر زفرته الأخيرة مثلما أصـدر أبي عبدالله زفرته الأخيرة في الأندلس. .؟
القاهرة – 2 يونيو/حزيران 2024
jamalim@yahoo.com