تحديات ومآلات مؤتمر القاهرة

 


 

 

Challenges and Outcomes of Cairo Conference

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم

يترقب الشعب السوداني بشغف أي بارقة أمل تنجيه من الحرب المدمرة التي ظل يتجرع ويلاتها زهاء الخمسة عشر شهراً الماضية قتلاً ونهباً ونزوحاً ولجوءاً. وفي ظل الاستعصاء الطويل للجمع بين قائدي الجيش والدعم السريع للتفاوض حول وقف إطلاق النار بوصفه المسار المباشر لإنهاء الإحتراب، تتجه عقول وقلوب السودانيين نحو مصر عسى أن يساعد مؤتمر القاهرة للقوى السياسية والمدنية السودانية المزمع انعقاده خلال الفترة 6-7 يوليو 2024 في تبشيرهم بضوء آخر النفق البهيم.
وعلى الرغم من القناعة في الهندسة الإقليدية بأن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين في الحالة ثنائية الأبعاد كالتي بين الجيش والدعم السريع، إلا أن المبادرة المصرية لإطلاق حوار بين القوى السياسية والمدنية السودانية رغم دونيته على التفاوض بين العسكريين في ظل احتدام المعارك، يجب أن تُحظى باحترام مستحق على كافة الأصعدة السودانية والإقليمية والدولية نظراً لدور مصر المشهود في السعي لتحقيق الأمن والاستقرار في السودان الذي تربطه بمصر علاقات أزلية تمتد جذورها لآلاف السنين.
بيد أن السعي المصري للبدء بالحوار بين الفرقاء السياسيين، وليس بين المتحاربين العسكريين، تَحُفُّه جملة من المحاذير والتحديات التي يُخشى أن يؤدي إغفالها لقصور المؤتمر عن بلوغ غاياته ومراميه في وقف إطلاق النار، ومعالجة الضَرَّاء الإنسانية، وتهيئة المناخ للمسار المدني الديمقراطي لحل الأزمة السودانية.
ويأتي في صدارة هذه المحاذير ضرورة قبول الفرقاء السياسيين لدور مصر ليس كمستضيف للمؤتمر فحسب، بل كمُيَسِّر (Facilitator) يساعد على انخراط الفرقاء في حوار وطني مسؤول يُلبِّي طموحات ثورة ديسمبر بمنأىً عن الشهوات السياسية والجغرافية. وفي حالات الاستعصاء المتوقعة بين الطرفين تقوم مصر بدور الوسيط (Moderator) للمساعدة على تجاوز الجدل المِتْلاف، والتشجيع على التفكير الإبداعي من خلال تأطير القضايا من خلال ثلاثة مناهج بدلاً من منهجين لمعالجة الاختلاف. وبهذا المفهوم فإن دور مصر كميسر ووسيط يساعد الفرقاء السياسيين للوصول لقواسم مشتركة حول القضايا الخلافية بالكفاءة والفاعلية المطلوبة. كما يحسُن لمصر دعم سعيها المحمود للجمع بين الفرقاء السياسيين بمراعاة تحقيق الملكية الوطنية والإنبات المحلي للتوافق بإشراك نظراء محليين من مراكز الفكر والتميُّز الوطنية المستقلة في تسهيل الحوار بين الفرقاء المدنيين، بحيث تتكامل الجهود الوطنية والمصرية والإقليمية والدولية لإنهاء الاحتباس السياسي الراهن الذي ساهم جوهرياً في إشعال حرب أبريل المدمرة.
وقد أحسنت مصر بدعوة الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين للمؤتمر الذين يشملون الإتحاد الإفريقي والإيقاد والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي. بيد أن هذه المشاركة الإقليمية والدولية يُخشى أن تكون شكلية الطابع في ضوء ما رشح من تشكك بعض الأوساط المصرية المؤثرة في نجاح مسار الشركاء الإقليميين والدوليين الرامي للبدء أولاً بالتفاوض بين المتحاربين من الجيش والدعم السريع، والداعي لتدخل قوة عسكرية متوافق عليها للفصل بين المتحاربين ضماناً لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه عبر التفاوض بين طرفي الاقتتال، ومن ثَمَّ تتهيأ البيئة الصالحة للاختراق السياسي والمعالجات الإنسانية التي تسعى القاهرة لتحقيقها عبر المؤتمر. فعلى الرغم من محدودية نجاح تدخل القوة العسكرية الخارجية في بعض بؤر الصراع الذي تستند عليه هذه الأوساط المصر ية، إلا أن هناك العديد من الأمثلة لنجاح القوة العسكرية الخارجية المشهود في البوسنة والهرسك وكمبوديا والسلفادور وغواتيمالا وكوسوفو وليبيريا وموزمبيق وأفغانستان وبوروندي والعراق وسيراليون وتيمور الشرقية.
وحتى لا يُؤخذ على مؤتمر القاهرة تجاوز المبادرة المحمودة لقمة دول الجوار الإفريقي التي أطلقتها مصر قي يوليو 2023، ربما يفيد التذكير بأن إعلان تلك القمة قد تضمن "مناشدة الأطراف المتحاربة على وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، وإنهاء الحرب وتجنب إزهاق أرواح السودانيين وإتلاف الممتلكات". كما شكلت هذه القمة آلية وزارية لوضع خطة عمل تنفيذية لوقف الاقتتال والتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية عبر التواصل المباشر مع الأطراف السودانية المختلفة في تكاملها مع الآليات القائمة بما فيها الإيقاد والاتحاد الإفريقي. ويذكر أن الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول جوار السودان في إنجامينا، تشاد في أغسطس 2023 وأكد على أهمية الاتصالات المباشرة والمستمرة مع المتحاربين من أجل تحديد محددات وقف دائم لإطلاق النار. وقد وضعت لجنة وزراء خارجية دول جوار السودان خطة عمل من ثلاثة أجزاء تشمل أولاً الحصول على وقف نهائي لإطلاق النار، ثم يعقب ذلك تنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية، وإدارة القضايا الإنسانية. وقد أمَّن الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول جوار السودان المنعقد بنيويورك في سبتمبر 2023 على حصر أولويات التحرك خلال المرحلة القادمة في التدابير عملية للتوصل لوقف إطلاق نار مُستدام في السودان.
أما بالنسبة للفرقاء السياسيين المشاركين في المؤتمر فعليهم إدراك أن التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية ظلت مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين هؤلاء الفرقاء بأوجه مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وعلى المشاركين في المؤتمر الإحاطة بأن ثورة ديسمبر قد كشفت أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) والشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث تغذى هذا التناقض الجوهري من تهميش وتنكيل النظام السابق بمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين"، الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، شهدت به قيادة (الإسلاميين) التاريخية ممثلة في أمينهم العام، وأمَّنت على هذا الفساد قيادات الحركة الإسلامية على مرأى مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة واليوتيوب. وبالتوازي مع ذلك، على الفرقاء السياسيين إدراك أن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع الهيمنة وعدم المساواة الصارخ الذي يتبناه (الإسلاميون) كان ولا يزال تناقضاً جوهرياً لدورهم في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية، وبالتالي إشعال السخط السياسي الذي أدى لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ. ونزولاً على رغبة الشعب الجامحة في ثورة ديسمبر فإن أي دور سياسي (للإسلاميين) ينبغي أن ينتظر تفويضاً شعبياً عبر انتخابات حرة نزيهة تهيئ لها فترة انتقالية لا دور لهم فيها بحكم إرادة الشعب.
وهنا تكمن أهمية عدم تغافل لجان المقاومة صاحبة الدور الأبرز في إنهاء النظام البائد، وحثها على ضرورة الخروج من مأزق التنظيم الأفقي القاعدي واستبداله بتنظيم هرمي يمكِّنها من التحول لكيان سياسي قادر على المشاركة الفاعلة في التحول المدني الديمقراطي بعد توقف القتال. ويتطلب ذلك انخراط لجان المقاومة مباشرة في دورات مكثفة لبناء القدرات لا تؤثر على استقلاليتها، وتعزز وعيها السياسي والتنظيمي ليكمِّل مهاراتها المشهودة في المقاومة الميدانية الفاعلة. وهناك ضرورة لتستوعب لجان المقاومة أن استمرار إخفاقها في إشهار مقدراتها السياسية يخصم جوهرياً من المكاسب التي حققتها على المستوى الميداني، ويضع على المحك الدعم المستحق الذي حققته محلياً وإقليمياً ودولياً.
وفي ضوء الواقع المأزوم بين الفرقاء السياسيين الذي طغت عليه التناقضات الثانوية فالأحرى بهم استغلال سانحة مؤتمر القاهرة للتوافق على الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي تتضمن الاتفاق على الإطار العام للعقد الاجتماعي بين الدولة والشعب الذي ينطوي على وقف الأفعال العدائية، والالتزام بمبادئ الحرية والسلام والعدالة لثورة ديسمبر 2018، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو1989 وفقاً للقانون، ومراجعة اتفاقية سلام جوبا، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإرساء أسس الدولة المدنية الفاعلة، و تحقيق الاندماج المجتمعي وإدارة العلاقات المجتمعية، وتوفير الوظائف للشباب، والإيفاء بحقوق المرأة، وترسيخ علاقات إقليمية ودولية ترتكز على تحقيق المكاسب المشتركة (Win-win)، والشروع في تحقيق الانتعاش الاقتصادي، وتهيئة البيئة الصالحة لقيام انتخابات حرة ونزيهة.
كما يحسُن تحاور الفرقاء السياسيين حول إعلان سياسي يُختصر في فقرتين فقط أولهما التفاعل الإيجابي مع الواقع العسكري المرير الذي أفرزته حرب أبريل 2023، والتأكيد على إلزامية التفاوض بين الجيش والدعم السريع لوقف إطلاق النار والتوافق بينهما على مسار يقود لخروجهما معاً من العمل السياسي وعدم المشاركة في السلطة والحكم الانتقالي. وثانيهما التوافق على إقامة سلطة وحكومة مدنية ديمقراطية كاملة من الكفاءات الوطنية المستقلة.
أما من حيث المرجعية الدستورية لفترة ما بعد الحرب، فينبغي على الفرقاء السياسيين إدراك أن الحرب قد فرضت واقعاً سيطر فيه العسكريون على زمام الأمور. وعليه فإن هذا الواقع المؤلم يفرض منطقياً مرجعية دستورية لا تستثني بالضرورة طرفي الإحتراب - الجيش والدعم السريع. وتفادياً لمكابدة الجدال حول مرجعية دستورية مستحدثة، تبرز ضرورة الحوار المسؤول بين الفرقاء السياسيين حول تعديل الوثيقة الدستورية بما يستوعب المستجدات التي طرحها الاتفاق الإطاري. ويجدر بالذكر أن الطعن في الوثيقة الدستورية لم يستهدف فصولها الأساسية المتعلقة بالأحكام العامة وأجهزة واختصاصات الحكم الانتقالي السيادية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، والسلام الشامل، والحقوق، والحريات، والعدالة. بل اقتصر فشلها في عدم التزام المدنيين والعسكريين الموقعين عليها بتنفيذ بنودها. وعليه تمس الحاجة بعد الحرب المدمرة لتفادي تكرار المخاض العسير الذي عانت منه البلاد خلال خمس سنوات بسبب التقاعس عن الالتزام بروح ونص الوثيقة الدستورية واستحداث إطار دستوري عمَّق الخلاف بين الفرقاء السياسيين والعسكريين. وتفادياً لضياع المزيد من الموارد البشرية والطبيعية والبنيوية العزيزة، تبرز الضرورة للتوافق بين الفرقاء السياسيين على الإبقاء على فصول الأحكام العامة غير الخلافية في الوثيقة الدستورية، على أن يتم تعديل الوثيقة بإدخال فقرات تنص صراحة على فض الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وخروج العسكريين من المشهد السياسي، وتحقيق الاصلاح الأمني والعسكري، واصطحاب مرئيات الحركات والكيانات غير الموقعة على اتفاقية سلام جوبا.
ومن ناحية أخرى، ينبغي إطلاق حوار بين الفرقاء السياسيين حول مراحل والمهام المسندة للفترة الانتقالية التي تعقب وقف الإحتراب. فنظراً لأن الفترة الانتقالية القادمة تتحمل أعباء إخفاقات تجربة الانتقال السابقة منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، وأوزار حرب أبريل 2023، فإن عدد سنواتها ينبغي أن يحدد بفترة كافية للإيفاء بالعقد الاجتماعي بين الحكومة الانتقالية والشعب بما يكسبها الشرعية المطلوبة بالتعاضد المتبادل المنطوي على توفير الحكومة الانتقالية للأمن والعدالة والفرص الاقتصادية، مقابل دعم الشعب لسلطة الدولة بما يمكنها من فرض هيبتها وتعزيز فاعليتها. ذلك أن إيفاء الحكومة الانتقالية بهذا العقد الاجتماعي مع الشعب يتطلب تنفيذ مهام واختصاصات محددة تستدعي تخطيطاً استراتيجياً واقعياً يحدد مراحل وأولويات الانتقال ويقسم المهام المسندة لكل مرحلة بشكل متماسك ومنسق مع الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية بما يضمن تحاشي الانتكاسات وتجدد الصراع (Recurrence of Conflict). وتأسيساً على العبر من تجارب عشرات الدول التي لا زالت تعاني من الصراع، وتلك التي خرجت منه، يشتمل الانتقال القادم على ثلاث مراحل: (1) التدخل الوطني والدولي المباشر لوقف إطلاق النار ومراقبته (2) ترسيخ التحول والانتقال المدني (3) بناء وتمكين القدرات المحلية لتحقيق استدامة التحول. وتستند كل مرحلة على أربع ركائز تشمل (1) بسط الأمن (2) العدالة الانتقالية والوئام المجتمعي (3) الانتعاش الاقتصادي (4) الحوكمة والتشاركية. وفي ضوء هذه المهام الجسام فإن خيار خمسة أعوام للفترة الانتقالية القادمة ربما يمثل الحد الأدنى لسنواتها التي تمكّن من تنفيذ مراحلها ومهامها المسندة المنبثقة عن العقد الاجتماعي تحاشياً لتجدد القتال.
وحتى يستأنف السودان السير قدماً بعد طول كساح فإن الفرقاء السياسيين مطالبون بالعزوف عن جدال القنوات الفضائية الأجوف المشحون باستعراض مركزية الذات، والانخراط المباشر في الحوار المُيَسَّر. ويتطلب هذا السلوك إحجام الفرقاء عن تبادل اتهامات التخوين والإقصاء، فكل منهم قد ثبت دوره بالتناوب في الفشل الكبير في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر رغم انقضاء أكثر من خمس سنوات على انتصارها الميمون على النظام البائد. ومن ناحية أخرى على المشاركين في المؤتمر إدراك أن استعادة ثورة ديسمبر لزخمها المفقود ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" يتطلب الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك النسخ المنسلخة والنسخ المتحورة من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المنغلقة، والجيش المسيس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها.
ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الفَطِن اللبيب، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها الوطن بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" في حلبة العراك في غير معترك بين المدنيين، الذي أفضى بدوره للإحتراب العبثي المدمر بين العسكريين.

melshibly@hotmail.com
melshibly@hotmail.com

 

آراء