هزت ثورة أكتوبر ساكن الحياة في بلادنا (1- 5)
صديق الزيلعي
25 October, 2024
25 October, 2024
صديق الزيلعي
تم نشر هذه المقالة في كتاب صدر عن مركز الدراسات السودانية بعنوان (خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية) تحرير حيدر إبراهيم على وآخرون، الصادر في عام 2014. أعيد نشره بمناسبة ذكري الثورة العظيمة، ولان أغلب القراء لم يطلعوا على الكتاب.
هزت ثورة أكتوبر الشعبية ساكن الحياة في السودان، وخلقت وعيا ديمقراطيا طاغيا، جعل من الصعب على كافة القوى السياسية، تجاهل الرغبات الأكيدة لجماهير الشعب السوداني، في التغيير السياسي والاجتماعي. أدت الثورة، أيضا، لتحجيم نفوذ قوى اجتماعية كانت تتمتع بالسلطة المطلقة، والطاعة العمياء من قبل قطاعات جماهيرية كبيرة ومؤثرة. كما ان الثورة أعطت قوى اجتماعية صاعدة مزيدا من النفوذ، وأبرزت تأثيرها على الحياة السياسية، وتزايد القبول الجماهيري لبرامجها، وافقها الثوري. احد أهم تلك القوى الاجتماعية، التي تصاعد نفوذها بعد انتصار الثورة، هي الحركة العمالية السودانية. سنحاول هنا، مناقشة جورها في الثورة، وتأثير انتصار ثورة أكتوبر على نفوذها، ومناهجها في العمل، وتحالفاتها، وبراجها، وأثر كل تلك التحولات عليها، في المدي القصير، والثمن الباهظ الذي دفعته في المدى المتوسط، وآفاق تطورها في المدى الطويل.
تنقسم الورقة الى أربعة أجزاء: أولها يناقش نشوء الحركة العمالية، وثانيها يتعرض لوضع الحركة ما قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958، وثالثها يعكس بعضا من المعارك والمواجهات ضد الحكومة العسكرية، ونختتم الورقة بقراءة تدرس اثر ثورة أكتوبر على الحركة العمالية في المديين القصير والمتوسط، ونحاول التنبؤ بمستقبل وموقع الحركة العمالية في الحياة السياسية العامة، وبمصيرها في المدي الطويل.
نشوء الحركة النقابية العمالية:
فجرت الحرب العالمية الثانية تحولات ذات طبيعة جذرية، على نطاق العالم، وداخل السودان. فعلى النطاق العالمي، كان لدعاية الحلفاء ضد دول المحور، ورفعهم لشعارات الديمقراطية وحقوق الشعوب، أثرها الفعال وسط سكان المستعمرات. كما ان انتصارات الجيش السوفيتي، في الحرب، فتحت الأعين والعقول على نظام اجتماعي جديد. وأضاف تصاعد حركات التحرر الوطني في افريقيا وأسيا زخما إضافيا، حول ضرورة انهاء النظام الاستعماري. وأدي تنكر الحلفاء، بعد نهاية الحرب، للوعود التاي قدموها للمستعمرات، لإحباط وغضب، ومن ثم لاشتداد وتيرة نضال حركات التحرر الوطني.
تصاعدت الحركة الوطنية السودانية بقيادة مؤتمر الخريجين، الذي شكلت مذكرته في 1942، خطوة متقدمة في نشاطه. كما تم تجنيد الالاف السودانيين للقتال في صفوف الحلفاء، فاحتكوا بجنود من شعوب، ذات خبرات أقدم من السودان، في مواجهة الاستعمار، وتنظيم حركات التحرر الوطني. وتأثر السودانيون بدعايات الحلفاء حول الديمقراطية وحقوق الشعوب. لكنهم أصيبوا بالإحباط، بعد تنكر الحلفاء لكل تلك الوعود. واستمروا بنفس السياسات الاستعمارية المتسلطة، والرافضة للتغيير في السودان.
شهدت نفس السنوات، انفتاح باب البعثات الدراسية الى مصر، وتشجيع مؤتمر الخريجين لسفر الطلاب. فاحتك المبعوثون بالحركة الوطنية المصرية في نهوضها العارم، بعد الحرب العالمية الثانية. عادوا للسودان بأفكار ورؤى وخبرات جديدة، من ضمنها ضرورة وأهمية التحالف في النصال الوطني، بين الطلاب والعمال. هرع أولئك الطلاب في اجازاتهم، الى عطبرة، ينشرون الوعي الجديد. وكان ذلك إضافة، ومواصلة لجهود بعض رفاقهم من طلاب كلية غردون.
دفع الحصار البحري على بريطانيا، بالإدارة الاستعمارية في السودان، لإنشاء الورش لإصلاح الات الحرب والمواصلات، ومصانع جديدة لإنتاج المواد التي تحتاجها الجيوش المحاربة في شمال افريقيا والشرق الأوسط. نتج عن ذلك تدريب العمال السودانيين على استخدام الالات الجديدة، مما أدى لارتفاع مستوى تدريبهم الفني، والي ازدياد اعدادهم، فتوسعت القاعدة النوعية والاجتماعية والمعرفية للطبقة العاملة السودانية.
ساهمت الأجيال الجديدة من خريجي مدرسة الصنائع في نشر الوعي النقابي. وكانت مجلة العامل السوداني منبرا لحواراتهم، وحاملة للرسالة النقابية الجديدة لجماهير العمال، فارتفعت وتيرة المطالبة بإنشاء جسم نقابي يدافع عن العمال، في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة.
كانت السلطات الاستعمارية تراقب تطور النشاط العمالي، فقررت التحرك لتطويقه واستيعابه في اطر لا تشكل خطرا. ووضعت خطة لقيام ما سمي باللجان المصلحية، تحت اشراف رؤساء الأقسام البريطانيين. تعمل تلك اللجان المصلحية كلجان استشارية، ليس لها وضع نقابي. رفضت لجنة العمال ذلك، وطالبت بجسم نقابي كامل السلطات لتمثيل العمال، والدفاع عن مطالبهم. رفضت السلطات الاستعمارية ذلك، وصارت تراوغ عن طريق اجراء اتصالات فردية ببعض قادة العمال، وتهديد بعضهم الآخر، بانهم لا يمثلون الا انفسهم.
قررت لجنة العمال تسليم مذكرة بموكب عمالي، تم قمعه بعنف مفرط، فدخل العمال في اضراب فوري. تيقنت السلطات الاستعمارية من إصرار العمال ولجنتهم التمهيدية على المضي حتى النهاية في مطالبهم. فقررت إقامة استفتاء حول مدى تمثيل اللجنة للعمال، وكانت النتيجة اعلانا كاسحا، يعكس تمسك العمال بها كممثل شرعي، ووحيد لهم.
بدأت اللجنة أعمالها بتقديم مطالب العمال الي إدارة السكة الحديد، التي استخدمت اسلوب المراوغة التي أوصلت التفاوض لطريق مسدود. بعد ذلك تمت عدة مصادمات أدت لإضراب ال33 يوم الشهير، الذي عطل الحياة الاقتصادية تماما. أدي وصول وفود من الخرطوم للوساطة ورفع الاضراب، الذي تم بعد تراجع السلطة الاستعمارية. ادي ذلك للاعتراف الكامل بهيئة شؤون العمال كنقابة لعمال السكة الحديد، والنظر بجدية للمطالب التي قدمتها. الاعتراف الرسمي بالهيئة لم يجعلها تهادن، فخاضت مواجهات واضرابات مطلبية عدة.
تقرر في 1949 تغيير اسم الهيئة وأصبحت " نقابة عمال السكة الحديد السودانية" ، التي واصلت التقاليد المصادمة لهيئة شؤون العمال، وساهمت في تكوين عدة نقابات عمالية، وجمعتها في المؤتمر العمالي، الذي طور ليصبح اتحاد نقابات عمال السودان. واصل اتحاد العمال تقاليد الصدام والمواجهة الموروثة من نضال عمال السكة الحديد، التي أصبحت ارث نضالي لكل النقابات. وكان لاتحاد العمال مواقف وطنية مشهودة في النضال ضد الاستعمار والمطالبة بالجلاء الفوري وحق تقرير المصير للشعب السوداني. وشاركت بفعالية في مواجهة ما سمي بمشاريع التدرج الدستوري وقاومت الجمعية التشريعية، وقدمت شهداء في تلك المعركة.
قنن اتحاد العمال تلك التقاليد المصادمة في مؤتمره العام الثاني، حيث عدل دستوره، ليشمل بوضوح عدم التعاون مع السلطة الاستعمارية ومواجهة الامبريالية، في كافة اشكالها واحلافها ودولها. والتنسيق التام مع القوى الوطنية السودانية لتحقيق ذلك. تبع ذلك مشاركة الاتحاد في عدة جبهات وهيئات وطنية، بمباركة الجميع وتأييدهم.
خرجت النقابات العمالية، قيادات وقواعد، من تجربة النشوء ومواجهة الاستعمار، وهي حركة مقاتلة، مرفوعة الرأس، معتزة بنفسها، لا تعرف المهادنة، تحافظ على وحدتها، وتتمسك بديمقراطيتها ، وباستقلالية قراراتها.
( نواصل)
siddigelzailaee@gmail.com
تم نشر هذه المقالة في كتاب صدر عن مركز الدراسات السودانية بعنوان (خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية) تحرير حيدر إبراهيم على وآخرون، الصادر في عام 2014. أعيد نشره بمناسبة ذكري الثورة العظيمة، ولان أغلب القراء لم يطلعوا على الكتاب.
هزت ثورة أكتوبر الشعبية ساكن الحياة في السودان، وخلقت وعيا ديمقراطيا طاغيا، جعل من الصعب على كافة القوى السياسية، تجاهل الرغبات الأكيدة لجماهير الشعب السوداني، في التغيير السياسي والاجتماعي. أدت الثورة، أيضا، لتحجيم نفوذ قوى اجتماعية كانت تتمتع بالسلطة المطلقة، والطاعة العمياء من قبل قطاعات جماهيرية كبيرة ومؤثرة. كما ان الثورة أعطت قوى اجتماعية صاعدة مزيدا من النفوذ، وأبرزت تأثيرها على الحياة السياسية، وتزايد القبول الجماهيري لبرامجها، وافقها الثوري. احد أهم تلك القوى الاجتماعية، التي تصاعد نفوذها بعد انتصار الثورة، هي الحركة العمالية السودانية. سنحاول هنا، مناقشة جورها في الثورة، وتأثير انتصار ثورة أكتوبر على نفوذها، ومناهجها في العمل، وتحالفاتها، وبراجها، وأثر كل تلك التحولات عليها، في المدي القصير، والثمن الباهظ الذي دفعته في المدى المتوسط، وآفاق تطورها في المدى الطويل.
تنقسم الورقة الى أربعة أجزاء: أولها يناقش نشوء الحركة العمالية، وثانيها يتعرض لوضع الحركة ما قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958، وثالثها يعكس بعضا من المعارك والمواجهات ضد الحكومة العسكرية، ونختتم الورقة بقراءة تدرس اثر ثورة أكتوبر على الحركة العمالية في المديين القصير والمتوسط، ونحاول التنبؤ بمستقبل وموقع الحركة العمالية في الحياة السياسية العامة، وبمصيرها في المدي الطويل.
نشوء الحركة النقابية العمالية:
فجرت الحرب العالمية الثانية تحولات ذات طبيعة جذرية، على نطاق العالم، وداخل السودان. فعلى النطاق العالمي، كان لدعاية الحلفاء ضد دول المحور، ورفعهم لشعارات الديمقراطية وحقوق الشعوب، أثرها الفعال وسط سكان المستعمرات. كما ان انتصارات الجيش السوفيتي، في الحرب، فتحت الأعين والعقول على نظام اجتماعي جديد. وأضاف تصاعد حركات التحرر الوطني في افريقيا وأسيا زخما إضافيا، حول ضرورة انهاء النظام الاستعماري. وأدي تنكر الحلفاء، بعد نهاية الحرب، للوعود التاي قدموها للمستعمرات، لإحباط وغضب، ومن ثم لاشتداد وتيرة نضال حركات التحرر الوطني.
تصاعدت الحركة الوطنية السودانية بقيادة مؤتمر الخريجين، الذي شكلت مذكرته في 1942، خطوة متقدمة في نشاطه. كما تم تجنيد الالاف السودانيين للقتال في صفوف الحلفاء، فاحتكوا بجنود من شعوب، ذات خبرات أقدم من السودان، في مواجهة الاستعمار، وتنظيم حركات التحرر الوطني. وتأثر السودانيون بدعايات الحلفاء حول الديمقراطية وحقوق الشعوب. لكنهم أصيبوا بالإحباط، بعد تنكر الحلفاء لكل تلك الوعود. واستمروا بنفس السياسات الاستعمارية المتسلطة، والرافضة للتغيير في السودان.
شهدت نفس السنوات، انفتاح باب البعثات الدراسية الى مصر، وتشجيع مؤتمر الخريجين لسفر الطلاب. فاحتك المبعوثون بالحركة الوطنية المصرية في نهوضها العارم، بعد الحرب العالمية الثانية. عادوا للسودان بأفكار ورؤى وخبرات جديدة، من ضمنها ضرورة وأهمية التحالف في النصال الوطني، بين الطلاب والعمال. هرع أولئك الطلاب في اجازاتهم، الى عطبرة، ينشرون الوعي الجديد. وكان ذلك إضافة، ومواصلة لجهود بعض رفاقهم من طلاب كلية غردون.
دفع الحصار البحري على بريطانيا، بالإدارة الاستعمارية في السودان، لإنشاء الورش لإصلاح الات الحرب والمواصلات، ومصانع جديدة لإنتاج المواد التي تحتاجها الجيوش المحاربة في شمال افريقيا والشرق الأوسط. نتج عن ذلك تدريب العمال السودانيين على استخدام الالات الجديدة، مما أدى لارتفاع مستوى تدريبهم الفني، والي ازدياد اعدادهم، فتوسعت القاعدة النوعية والاجتماعية والمعرفية للطبقة العاملة السودانية.
ساهمت الأجيال الجديدة من خريجي مدرسة الصنائع في نشر الوعي النقابي. وكانت مجلة العامل السوداني منبرا لحواراتهم، وحاملة للرسالة النقابية الجديدة لجماهير العمال، فارتفعت وتيرة المطالبة بإنشاء جسم نقابي يدافع عن العمال، في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة.
كانت السلطات الاستعمارية تراقب تطور النشاط العمالي، فقررت التحرك لتطويقه واستيعابه في اطر لا تشكل خطرا. ووضعت خطة لقيام ما سمي باللجان المصلحية، تحت اشراف رؤساء الأقسام البريطانيين. تعمل تلك اللجان المصلحية كلجان استشارية، ليس لها وضع نقابي. رفضت لجنة العمال ذلك، وطالبت بجسم نقابي كامل السلطات لتمثيل العمال، والدفاع عن مطالبهم. رفضت السلطات الاستعمارية ذلك، وصارت تراوغ عن طريق اجراء اتصالات فردية ببعض قادة العمال، وتهديد بعضهم الآخر، بانهم لا يمثلون الا انفسهم.
قررت لجنة العمال تسليم مذكرة بموكب عمالي، تم قمعه بعنف مفرط، فدخل العمال في اضراب فوري. تيقنت السلطات الاستعمارية من إصرار العمال ولجنتهم التمهيدية على المضي حتى النهاية في مطالبهم. فقررت إقامة استفتاء حول مدى تمثيل اللجنة للعمال، وكانت النتيجة اعلانا كاسحا، يعكس تمسك العمال بها كممثل شرعي، ووحيد لهم.
بدأت اللجنة أعمالها بتقديم مطالب العمال الي إدارة السكة الحديد، التي استخدمت اسلوب المراوغة التي أوصلت التفاوض لطريق مسدود. بعد ذلك تمت عدة مصادمات أدت لإضراب ال33 يوم الشهير، الذي عطل الحياة الاقتصادية تماما. أدي وصول وفود من الخرطوم للوساطة ورفع الاضراب، الذي تم بعد تراجع السلطة الاستعمارية. ادي ذلك للاعتراف الكامل بهيئة شؤون العمال كنقابة لعمال السكة الحديد، والنظر بجدية للمطالب التي قدمتها. الاعتراف الرسمي بالهيئة لم يجعلها تهادن، فخاضت مواجهات واضرابات مطلبية عدة.
تقرر في 1949 تغيير اسم الهيئة وأصبحت " نقابة عمال السكة الحديد السودانية" ، التي واصلت التقاليد المصادمة لهيئة شؤون العمال، وساهمت في تكوين عدة نقابات عمالية، وجمعتها في المؤتمر العمالي، الذي طور ليصبح اتحاد نقابات عمال السودان. واصل اتحاد العمال تقاليد الصدام والمواجهة الموروثة من نضال عمال السكة الحديد، التي أصبحت ارث نضالي لكل النقابات. وكان لاتحاد العمال مواقف وطنية مشهودة في النضال ضد الاستعمار والمطالبة بالجلاء الفوري وحق تقرير المصير للشعب السوداني. وشاركت بفعالية في مواجهة ما سمي بمشاريع التدرج الدستوري وقاومت الجمعية التشريعية، وقدمت شهداء في تلك المعركة.
قنن اتحاد العمال تلك التقاليد المصادمة في مؤتمره العام الثاني، حيث عدل دستوره، ليشمل بوضوح عدم التعاون مع السلطة الاستعمارية ومواجهة الامبريالية، في كافة اشكالها واحلافها ودولها. والتنسيق التام مع القوى الوطنية السودانية لتحقيق ذلك. تبع ذلك مشاركة الاتحاد في عدة جبهات وهيئات وطنية، بمباركة الجميع وتأييدهم.
خرجت النقابات العمالية، قيادات وقواعد، من تجربة النشوء ومواجهة الاستعمار، وهي حركة مقاتلة، مرفوعة الرأس، معتزة بنفسها، لا تعرف المهادنة، تحافظ على وحدتها، وتتمسك بديمقراطيتها ، وباستقلالية قراراتها.
( نواصل)
siddigelzailaee@gmail.com