أسطورة النحل ادم اسمث وبرنارد ماندفيل وديمقراطية السودانيين
طاهر عمر
27 October, 2024
27 October, 2024
في هذا المقال محاولة لفك إشتباك كل من برنارد ماندفيل و ادم اسمث و ديفيد هيوم و هوبز. أفكار برنارد ماندفيل تكمن في دراسة ظاهرة الرزائل الكامنة في المعادلات السلوكية للفرد و يقول أن وراءها تحقيق مصالحه كفرد كالبخل و الطمع و غيرها من الرزائل لذلك كانت الكنيسة ترى في نقدها لأفكار ماندفيل أنه لا أخلاقي و يجب قمع أفكاره لأنها تروج لفكر غير أخلاقي.
ماندفيل يرى أن ظاهرة المجتمع البشري ليس وراءها أي مهندس معماري بل لا تشبه إلا بناء النحل لخليته بشكل غريزي بل لا يوجد أي مهندس وراء ذلك البناء و الإبداع المعماري جاءت أفكاره في كتابه أسطورة النحل و كانت تعتبر طفرة كبيرة في الفكر و حتى يبرهن على صحتها كان متكئ على أفكار هوبز و أفكاره بأن الإنسان عدو الإنسان و لا يعرف غير أن تسود بينه و الآخر حرب الكل ضد الكل و لذلك جاء عقده الإجتماعي الذي لا يفتح إلا على نظام شمولي بغيض لذلك رفض عقد هوبز من بين السرديات الكبرى لأنه يشبه ماركسية ماركس و لا يفتحان إلا على نظم شمولية بغيضة.
لكن كان هناك إهتمام من الفلاسفة و علماء الإجتماع لإمكانية إصلاح عقد هوبز و نجده في جهود توكفيل في أن عقد هوبز لا تقوم له قائمة إلا إذا أدخلت عليه فكرة الدولة و تدخلها في إمكانية إنزال فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و في نفس الوقت نجد أن ادم اسمث كان مهتم جدا بفكرة ماندفيل و وصفه بأنه قد صادف فكره أن يكون له إستشراف لظاهرة المجتمع البشري و هذا ليس بغريب عن أدم اسمث إذاما نظرنا لفكره في فكرة اليد الخفية و أن مصلحة الفرد لا تتضارب مع تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
لكن ادم اسمث ينطلق من منطلق مجد العقلانية و إبداع العقل البشري عكس ماندفيل و هو ينطلق من أن الإنسان تكمن خلف منطلقاته غريزة لا تحاددها أي عقلانية أما ادم اسمث يؤكد في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية أن الإنسان عقلاني و أخلاقي على أقل تقدير يتعاطف مع الضحايا و هذا دليل قاطع على النزعة الإنسانية و كيف يسير الإنسان بإتجاه تأسيس مجتمع تتحقق في أنحاءه العدالة و الحرية.
طبعا ادم اسمث كان متأثر بأفكار ديفيد هيوم في فكرة القانون الطبيعي الكامن في معادلات الفرد السلوكية و أفكار ديفيد هيوم و كذلك أفكار ادم اسمث قد أثرتا في فكر عمانويل كانط و قال كانط بعد أن إطلع على فلسفة هيوم و أفكار اسمث قال مقولته المشهورة أي أن أفكار ديفيد هيوم هي التي قد أيقظتني من سباتي الدوغمائي العميق.
و بالمناسبة عمانويل كانط قبل تأثره بفلسفة ديفيد هيوم و كذلك بأفكار ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية كان أقرب للأصولي المتزمت حاله كحال النخب السودانية الآن و هي تبحث في الموافقة بين الحداثة و الأصالة أو المؤالفة بين العلمانية و الدين و غيرها من أفكار النخب السودانية اللاهوتية التي تبحث عن الأصالة و الأصيل و تلفيق النخب السودانية الظاهر في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان.
فأفكار ديفيد هيوم و ادم اسمث هي التي جعلت عمانويل كانط ينتبه الى أن يفصل حقلي الميتا عن الفيزيقيا و و يفصل بين حقلي الايمان و العلم فهما حقلان مختلفان تماما و بالتالي يصبح عند كانط أن الدين شأن فردي بين الفرد و ربه دون أن يتدخل بينه و ربه تجار الدين أما صراع الفرد مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية و العدالة و هي فعل إجتماعي بحت لا يحتاج المجتمع فيه لأوامر من خارجه أي لا يحتاج أن يؤمر بشريعة دينية من خارجه بل هو فعل إنساني بعيدا جدا عن فكرة الإرادة الإلهية.
و هذا هو البعد و الأفق الذي لم تفهمه النخب السودانية حتى اليوم بل أغلب النخب السودانية مؤمنة بأن المجتمع يحتاج لأوامر تأتي من خارجه كالشريعة الإسلامية و عاجزين عن فهم أن ظاهرة المجتمع البشري فعل إجتماعي بحت من داخل المجتمع يستنبط العقلانية و الأخلاق من تفاعله كمجتمع بشري و لا يحتاج لشريعة تأمره من خارجه و يتضح هذا الفهم لكل من يفهم فكرة القانون الطبيعي لديفيد هيوم أو أنثروبولوجيا عمانويل كانط أو أنثروبولوجيا الليبرالية لكانط و عبره تصبح أفكار الليبرالية بديل للفكر الديني.
و هنا وجب أن نوضح بأن فك الإشتباك بين هؤلاء الفلاسفة هو أن هوبز و برنارد ماندفيل قد وقفت أفكارهما و لم تزدهر و عكسهما ديفيد هيوم و ادم اسمث في حديثما عن النزعة الإنسانية و عقلانية الإنسان و أخلاقة قد إزدهرت أفكارهما و تواصلت في أفكار كانط و حتى يومنا هذا في أفكار النيوكانطية التي قد قضت على أفكار ماركس و ماركسيته.
و هنا كذلك قد وجب تحديد لماذا فشل ماركس في مقارباته لنظرية القيمة لديفيد ريكاردو و خرج بفكرة مضحكة و هي فكرة فائض القيمة؟ و بالتالي فشل ماركس في أن يجسر الفلسفة المثالية الالمانية بالتجريبية الإنجليزية في وقت نجح كانط في جسر المثالية الإلمانية مع التجريبية الإنجليزية بعد إطلاعه على أفكار ديفيد هيوم و أدم اسمث.
يجب ألا ننسى أن ادم اسمث في أدبياته الإقتصادية قد فك إرتباط علم الإقتصاد من كل من الفلسفة و الدين قبل قرنيين و نصف في وقت ما زالت النخب السودانية مقيدة بفكرة الرباء.
و أيضا نجد أن كالفن قبل ادم اسمث قد تحدى تراث يهودي مسيحي متراكم على مدى ثلاثة ألف سنة عن الرباء و أصبح الأب الشرعي لفكرة سعر الفائدة و النخب السودانية ما زالت تخاف من تهديد الكيزان لبقية النخب السودانية عن فكرة الرباء بل رأينا كيف عجز حمدوك في أن يلغي ديوان الزكاة و يصادر أمواله عن طريق وزارة المالية مثلما فشل حمدوك في بسط سلطة وزارة المالية على شركات الجيش.
و بعد كل هذا الكساد الفكري ما زال الكل يتحدث عن تحول ديمقراطي نقولها لكم واضحة أن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يكون إلا إذا أقتنع الكل أن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني و أن الديمقراطية تعني فصل الدين عن الدولة و أن في فلسفة الديمقراطية ليس هناك مكان شاغر لوزارة الشؤون الدينية لكي تفرخ لنا أتباع أحزاب المرشد و الامام و الختم.
قد يخطر ببال القارئ ما علاقة كل هذا بالمجتمع السوداني و هو له تاريخه الخاص به و ليس له علاقة بتاريخ أوروبا و فلاسفتها كما يروج كثر من النخب الفاشلة في السودان و الإجابة ببساطة شديدة هي أن ظاهرة المجتمع البشري تخص البشرية كافة و ليس فيها صفحة لتاريخ خاص بمجموعة دون أخرى و خاصة أن تاريخ الإنسانية قد أصبح تاريخ واحد و مشترك بين كافة بني البشر بعد الثورة الصناعية.
و الآن في ظل الحرب العبثية نرى روح عقد هوبز في السودان أي حرب الكل ضد الكل لأن النخب السودانية لم تدرك بعد أن الخروج من حرب الكل ضد الكل لا يكون بغير طرح الأفكار التي طرحها الفلاسفة و علماء الإجتماع لإصلاح عقد هوبز كما فعل توكفيل مثلا.
و قد وضّح توكفيل أن الفكر الليبرالي لا يتحدث عن نظم الحكم فحسب بل يجسد فلسفة قادرة على تجسيد المساواة و العدالة بين أفراد المجتمع و قد عجز عن تحقيقهما الفكر الديني عبر تاريخ البشرية الطويل فالدين قد زال سحره و لم يعد كجالب لسلام العالم كما يقول ماكس فيبر و هو مفتخر بأن الحضارة الغربية قد حققت ما عجزت عنه الحضارات التقليدية و قطعا الحضارة الإسلامية العربية التقليدية من ضمن الحضارات التقليدية.
لكن فليطمئن القارئ أن مسألة أن تلحق الحضارات التقليدية و الحضارة الإسلامية التقليدية من ضمنها بالحضارة الغربية مسألة وقت لا غير و خاصة قد أصبحت الأحداث متسارعة لدرجة عجيبة لذلك من الأفضل أن يكون هناك دور للنخب السودانية و جهد واعي لمغادرة أفكار الحضارة الإسلامية التقليدية و هذا ليس بالأمر الساهل بل يحتاج لفكر عباقرة الرجال و هم من يتخلصون من ركام سحب تاريخ الخوف الناتج من عقل لاهوت القرون الوسطى السائد في السودان و من علاماته عدم القدرة على إنتاج فلسفة سياسية ترسخ و تجسد المساواة و العدالة بين أفراد المجتمع و قطعا لا يمكن تحقيقها في ظل خطاب ديني متحجّر يعكس روح الكيزان كآخر سحب القرون الوسطى.
و تبقى مسألة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج في السودان مسألة في غاية الصعوبة كما يقول عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب لأن فكرة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج كما يقول الطاهر لبيب نادرة وسط النخب العربية و الإسلامية التقليدية و هي وحدها من تخلصنا من الخطاب الديني المنغلق سواء كان خطاب الكيزان أو المتواطؤون مع الكيزان و غيرهم من أتباع الفكر الديني من كل شاكلة و لون.
لأن مشكلة النخب السودانية معقدة عندما تحاول مقاربتها من جهة الخطاب الديني فهناك جيوب كثيرة للخطاب الديني المؤدلج في السودان و لا ترى فكاك من الخطاب الديني مثلما يبحث كثر عن فكرة الأصالة و فكرة الأصيل و كلها أفكار تسد بيننا و بين فكرة النزعة الإنسانية التي أسس لها الإنسانيون الكبار منذ القرن السادس عشر و هو قرن الإنسانيين بلا منازع.
و على ذكر الإنسانيين الكبار لا يفوتنا الحديث عن ميشيل دي مونتين و يفتخر به عمانويل كانط بأنه معلمه الأكبر و على أثر عمانويل كانط أفتخر أيضا كلود ليفي أشتروس بكل من عمانويل كانط و ميشيل دي مونتين و فضلهما على فتوحاته الفكرية و كلود ليفي الإشتروس يرى أن الحضارات متساوية في محاولاتها لشرح ظاهرة المجتمع البشري أي أن معنى فكره لا فرق بين الإسلام و الكجور و يوم يفهم المثقف التقليدي السوداني أن لا فرق بين الإسلام و الكجور يصبح أن لا داعي لإرسال منظمة الدعوة الإسلامية لجبال النوبة لتدمير ثقافة الكجور و لغات أهل جبال النوبة فهي كنوز إنسانية يجب المحافظة عليها.
taheromer86@yahoo.com
ماندفيل يرى أن ظاهرة المجتمع البشري ليس وراءها أي مهندس معماري بل لا تشبه إلا بناء النحل لخليته بشكل غريزي بل لا يوجد أي مهندس وراء ذلك البناء و الإبداع المعماري جاءت أفكاره في كتابه أسطورة النحل و كانت تعتبر طفرة كبيرة في الفكر و حتى يبرهن على صحتها كان متكئ على أفكار هوبز و أفكاره بأن الإنسان عدو الإنسان و لا يعرف غير أن تسود بينه و الآخر حرب الكل ضد الكل و لذلك جاء عقده الإجتماعي الذي لا يفتح إلا على نظام شمولي بغيض لذلك رفض عقد هوبز من بين السرديات الكبرى لأنه يشبه ماركسية ماركس و لا يفتحان إلا على نظم شمولية بغيضة.
لكن كان هناك إهتمام من الفلاسفة و علماء الإجتماع لإمكانية إصلاح عقد هوبز و نجده في جهود توكفيل في أن عقد هوبز لا تقوم له قائمة إلا إذا أدخلت عليه فكرة الدولة و تدخلها في إمكانية إنزال فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و في نفس الوقت نجد أن ادم اسمث كان مهتم جدا بفكرة ماندفيل و وصفه بأنه قد صادف فكره أن يكون له إستشراف لظاهرة المجتمع البشري و هذا ليس بغريب عن أدم اسمث إذاما نظرنا لفكره في فكرة اليد الخفية و أن مصلحة الفرد لا تتضارب مع تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
لكن ادم اسمث ينطلق من منطلق مجد العقلانية و إبداع العقل البشري عكس ماندفيل و هو ينطلق من أن الإنسان تكمن خلف منطلقاته غريزة لا تحاددها أي عقلانية أما ادم اسمث يؤكد في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية أن الإنسان عقلاني و أخلاقي على أقل تقدير يتعاطف مع الضحايا و هذا دليل قاطع على النزعة الإنسانية و كيف يسير الإنسان بإتجاه تأسيس مجتمع تتحقق في أنحاءه العدالة و الحرية.
طبعا ادم اسمث كان متأثر بأفكار ديفيد هيوم في فكرة القانون الطبيعي الكامن في معادلات الفرد السلوكية و أفكار ديفيد هيوم و كذلك أفكار ادم اسمث قد أثرتا في فكر عمانويل كانط و قال كانط بعد أن إطلع على فلسفة هيوم و أفكار اسمث قال مقولته المشهورة أي أن أفكار ديفيد هيوم هي التي قد أيقظتني من سباتي الدوغمائي العميق.
و بالمناسبة عمانويل كانط قبل تأثره بفلسفة ديفيد هيوم و كذلك بأفكار ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية كان أقرب للأصولي المتزمت حاله كحال النخب السودانية الآن و هي تبحث في الموافقة بين الحداثة و الأصالة أو المؤالفة بين العلمانية و الدين و غيرها من أفكار النخب السودانية اللاهوتية التي تبحث عن الأصالة و الأصيل و تلفيق النخب السودانية الظاهر في علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان.
فأفكار ديفيد هيوم و ادم اسمث هي التي جعلت عمانويل كانط ينتبه الى أن يفصل حقلي الميتا عن الفيزيقيا و و يفصل بين حقلي الايمان و العلم فهما حقلان مختلفان تماما و بالتالي يصبح عند كانط أن الدين شأن فردي بين الفرد و ربه دون أن يتدخل بينه و ربه تجار الدين أما صراع الفرد مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية و العدالة و هي فعل إجتماعي بحت لا يحتاج المجتمع فيه لأوامر من خارجه أي لا يحتاج أن يؤمر بشريعة دينية من خارجه بل هو فعل إنساني بعيدا جدا عن فكرة الإرادة الإلهية.
و هذا هو البعد و الأفق الذي لم تفهمه النخب السودانية حتى اليوم بل أغلب النخب السودانية مؤمنة بأن المجتمع يحتاج لأوامر تأتي من خارجه كالشريعة الإسلامية و عاجزين عن فهم أن ظاهرة المجتمع البشري فعل إجتماعي بحت من داخل المجتمع يستنبط العقلانية و الأخلاق من تفاعله كمجتمع بشري و لا يحتاج لشريعة تأمره من خارجه و يتضح هذا الفهم لكل من يفهم فكرة القانون الطبيعي لديفيد هيوم أو أنثروبولوجيا عمانويل كانط أو أنثروبولوجيا الليبرالية لكانط و عبره تصبح أفكار الليبرالية بديل للفكر الديني.
و هنا وجب أن نوضح بأن فك الإشتباك بين هؤلاء الفلاسفة هو أن هوبز و برنارد ماندفيل قد وقفت أفكارهما و لم تزدهر و عكسهما ديفيد هيوم و ادم اسمث في حديثما عن النزعة الإنسانية و عقلانية الإنسان و أخلاقة قد إزدهرت أفكارهما و تواصلت في أفكار كانط و حتى يومنا هذا في أفكار النيوكانطية التي قد قضت على أفكار ماركس و ماركسيته.
و هنا كذلك قد وجب تحديد لماذا فشل ماركس في مقارباته لنظرية القيمة لديفيد ريكاردو و خرج بفكرة مضحكة و هي فكرة فائض القيمة؟ و بالتالي فشل ماركس في أن يجسر الفلسفة المثالية الالمانية بالتجريبية الإنجليزية في وقت نجح كانط في جسر المثالية الإلمانية مع التجريبية الإنجليزية بعد إطلاعه على أفكار ديفيد هيوم و أدم اسمث.
يجب ألا ننسى أن ادم اسمث في أدبياته الإقتصادية قد فك إرتباط علم الإقتصاد من كل من الفلسفة و الدين قبل قرنيين و نصف في وقت ما زالت النخب السودانية مقيدة بفكرة الرباء.
و أيضا نجد أن كالفن قبل ادم اسمث قد تحدى تراث يهودي مسيحي متراكم على مدى ثلاثة ألف سنة عن الرباء و أصبح الأب الشرعي لفكرة سعر الفائدة و النخب السودانية ما زالت تخاف من تهديد الكيزان لبقية النخب السودانية عن فكرة الرباء بل رأينا كيف عجز حمدوك في أن يلغي ديوان الزكاة و يصادر أمواله عن طريق وزارة المالية مثلما فشل حمدوك في بسط سلطة وزارة المالية على شركات الجيش.
و بعد كل هذا الكساد الفكري ما زال الكل يتحدث عن تحول ديمقراطي نقولها لكم واضحة أن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يكون إلا إذا أقتنع الكل أن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني و أن الديمقراطية تعني فصل الدين عن الدولة و أن في فلسفة الديمقراطية ليس هناك مكان شاغر لوزارة الشؤون الدينية لكي تفرخ لنا أتباع أحزاب المرشد و الامام و الختم.
قد يخطر ببال القارئ ما علاقة كل هذا بالمجتمع السوداني و هو له تاريخه الخاص به و ليس له علاقة بتاريخ أوروبا و فلاسفتها كما يروج كثر من النخب الفاشلة في السودان و الإجابة ببساطة شديدة هي أن ظاهرة المجتمع البشري تخص البشرية كافة و ليس فيها صفحة لتاريخ خاص بمجموعة دون أخرى و خاصة أن تاريخ الإنسانية قد أصبح تاريخ واحد و مشترك بين كافة بني البشر بعد الثورة الصناعية.
و الآن في ظل الحرب العبثية نرى روح عقد هوبز في السودان أي حرب الكل ضد الكل لأن النخب السودانية لم تدرك بعد أن الخروج من حرب الكل ضد الكل لا يكون بغير طرح الأفكار التي طرحها الفلاسفة و علماء الإجتماع لإصلاح عقد هوبز كما فعل توكفيل مثلا.
و قد وضّح توكفيل أن الفكر الليبرالي لا يتحدث عن نظم الحكم فحسب بل يجسد فلسفة قادرة على تجسيد المساواة و العدالة بين أفراد المجتمع و قد عجز عن تحقيقهما الفكر الديني عبر تاريخ البشرية الطويل فالدين قد زال سحره و لم يعد كجالب لسلام العالم كما يقول ماكس فيبر و هو مفتخر بأن الحضارة الغربية قد حققت ما عجزت عنه الحضارات التقليدية و قطعا الحضارة الإسلامية العربية التقليدية من ضمن الحضارات التقليدية.
لكن فليطمئن القارئ أن مسألة أن تلحق الحضارات التقليدية و الحضارة الإسلامية التقليدية من ضمنها بالحضارة الغربية مسألة وقت لا غير و خاصة قد أصبحت الأحداث متسارعة لدرجة عجيبة لذلك من الأفضل أن يكون هناك دور للنخب السودانية و جهد واعي لمغادرة أفكار الحضارة الإسلامية التقليدية و هذا ليس بالأمر الساهل بل يحتاج لفكر عباقرة الرجال و هم من يتخلصون من ركام سحب تاريخ الخوف الناتج من عقل لاهوت القرون الوسطى السائد في السودان و من علاماته عدم القدرة على إنتاج فلسفة سياسية ترسخ و تجسد المساواة و العدالة بين أفراد المجتمع و قطعا لا يمكن تحقيقها في ظل خطاب ديني متحجّر يعكس روح الكيزان كآخر سحب القرون الوسطى.
و تبقى مسألة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج في السودان مسألة في غاية الصعوبة كما يقول عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب لأن فكرة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج كما يقول الطاهر لبيب نادرة وسط النخب العربية و الإسلامية التقليدية و هي وحدها من تخلصنا من الخطاب الديني المنغلق سواء كان خطاب الكيزان أو المتواطؤون مع الكيزان و غيرهم من أتباع الفكر الديني من كل شاكلة و لون.
لأن مشكلة النخب السودانية معقدة عندما تحاول مقاربتها من جهة الخطاب الديني فهناك جيوب كثيرة للخطاب الديني المؤدلج في السودان و لا ترى فكاك من الخطاب الديني مثلما يبحث كثر عن فكرة الأصالة و فكرة الأصيل و كلها أفكار تسد بيننا و بين فكرة النزعة الإنسانية التي أسس لها الإنسانيون الكبار منذ القرن السادس عشر و هو قرن الإنسانيين بلا منازع.
و على ذكر الإنسانيين الكبار لا يفوتنا الحديث عن ميشيل دي مونتين و يفتخر به عمانويل كانط بأنه معلمه الأكبر و على أثر عمانويل كانط أفتخر أيضا كلود ليفي أشتروس بكل من عمانويل كانط و ميشيل دي مونتين و فضلهما على فتوحاته الفكرية و كلود ليفي الإشتروس يرى أن الحضارات متساوية في محاولاتها لشرح ظاهرة المجتمع البشري أي أن معنى فكره لا فرق بين الإسلام و الكجور و يوم يفهم المثقف التقليدي السوداني أن لا فرق بين الإسلام و الكجور يصبح أن لا داعي لإرسال منظمة الدعوة الإسلامية لجبال النوبة لتدمير ثقافة الكجور و لغات أهل جبال النوبة فهي كنوز إنسانية يجب المحافظة عليها.
taheromer86@yahoo.com