نضال النقابات العمالية ضد الحكم العسكري الأول ( 3 – 5)

 


 

صديق الزيلعي
27 October, 2024

 

ناقش الجزء الأول من هذه الدراسة تأسيس الحركة النقابية، ثم تعرض الجزء الثاني لفترة الحكم الوطني الأول. هذا الجزء الثالث مكرس للنضالات الباسلة التي خاضها العمال ضد حكم العسكر.
بداية عدوانية:
صدرت في يوم 3 ديسمبر 1958 ، بعد اسبوعين فقط من الانقلاب العسكري، القرارات الخاصة بحل اتحاد عمال السودان وجميع النقابات السودانية واغلاق جريدة الاتحاد (الطليعة) وقد ارجع الدكتور عبد الرحمن طه تلك القرارات للأسباب الاتية :" لما كان النظام العسكري عالما بالإمكانيات السياسية للحركة العمالية والخطر الناجم عنها ، فقد بادر بحل جميع النقابات وحل الاتحاد العام ". وبسرعة محمومة وترصد، وفور صدور تلك القرارات، هاجمت قوات البوليس مكاتب الاتحاد العام للنقابات واعتقلت عددا من قادته، وعلى راسهم الشفيع احمد الشيخ السكرتير العام للاتحاد. وكالعادة وضعت القضية امام القضاء المدني وهو القضاء الطبيعي لمدنيين. وفى يوم 3 يناير 1959 طلبت السلطات العسكرية من قاضى جنايات الخرطوم تحويل القضية اليها استنادا للمادة (5) من قانون دفاع السودان، لسنة 1958. ونقل الجيش القادة النقابيين الى السجن الحربى. وانعقدت لهم محكمة عسكرية واحيطت المحكمة بتكتم شديد ومنعت الصحف من الاشارة لها. وكانت المحكمة اول سابقة في تاريخ السودان ، بان تتم محاكمة مدنيين امام محكمة عسكرية وهى اشارة واضحة حول نية النظام استخدام عنف القانون ضد الحركة العمالية اظهارا لحزمه وتعكس في نفس الوقت هلع النظام من الحركة العمالية رغم انه حلها رسميا. و بلغت جملة الاحكام 19 عاما نال الشفيع منها 5 اعوام . قامت السلطة ، اظهارا لسياسة الحزم، وقام بعد اسابيع قليلة من انتهاء المحاكمة ، بحملة اعتقالات للنقابيين في كل انحاء السودان. واضرب طلاب جامعة الخرطوم تضامنا مع العمال ويذكرنا هذا الموقف بموقف اتحاد العمال عندما فصلت السلطة الاستعمارية المئات من طلاب مدرسة خورطقت الثانوية وتهديده بالأضراب العام اذا لم يتم ارجاع الطلاب لمدرستهم.

مذكرة نوفمبر 1959:
لم تستكين الحركة العمالية، رغم حملات القمع، فقد رفع عدد من القادة النقابيين مذكرة، في نوفمبر 1959 للحكومة العسكرية تطالب بعودة النقابات على اساس قانون النقابات لسنة 1948 واطلاق سراح النقابيين المعتقلين والنظر في العفو عن النقابيين المسجونين. قررت السلطات اعتقال كل من وقع على المذكرة ، فجاء رد عمال السكة الحديد بالخرطوم فوريا بالدخول في اضراب مفتوح حتى تطلق الحكومة سراح المعتقلين وتتم الاستجابة لمطالب المذكرة. واهتز النظام العسكري لان الاضراب كان اول تحرك عمالي ضده رغم حل النقابات ، فلجا لسلاحي التشريد والارهاب فشرد 228 عاملا واعتقل العشرات منهم.
ورغم حملات الارهاب لم تتوقف الحملة ، وسط قواعد العاملين ، الداعية لعودة النقابات بل توسعت واصبحت مطلبا جماهيريا. ووجدت الحملة المحلية دعما عالميا من منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة واتحاد النقابات العالمي حول حق العمال السودانيين في التنظيم النقابي. وتحت تأثير تلك الحملة المستمرة و المتعاظمة (محليا ودوليا) تراجع النظام واصدر قانون النقابات لسنة 1960. وهنا حاول النظام استخدام اسلوب التشريع للسيطرة على النقابات بعد ان فشلت سياسات الحل والاعتقال والتشريد في اسكات صوت النقابيين. فأصدر قانون النقابات لسنة 1960 ، وكرر العمال ما قاله الشفيع احمد الشيخ ، في احدى الندوات العمالية بعطبرة ، واصفا قانون النقابات لعام 1948 بانه قانون عقوبات وليس قانون نقابات.

قانون للعقوبات وليس للنقابات:
وسنحاول هنا عرض بعض السمات الاساسية للقانون لإنه يشكل جوهر سياسة النظام العسكري الجديدة تجاه العاملين ونقاباتهم. تلك السياسة الجديدة تمحورت ، حسب ما كتب بابكر كرار ( احد منظري النظام العسكري) في احد اصدارات مصلحة الاستعلامات والعمل واطلق عليه "نظرات في التنظيم العمالي الجديد:" بان القاعدة الذهبية التي ترتكز عليها القوانين العمالية الجديدة هي: ان النقابات العمالية ، والجماهير العمالية بداخلها، جزء من كيان الثورة وان القانون يوثق هذا الرباط بين الجماهير والثورة ويضع وزير العمل امينا على مكاسب جماهير العمال ومرشدا لهم في نضالهم المجيد من اجل تدعيم الثورة المنقذة وتحرير الكادحين من البؤس وتطهير النقابات العمالية من اعداء العمال والمخربين" .
كان الهدف الأساسي لقانون النقابات لعام 1960 هو تحجيم الحركة العمالية عن طريق تحطيم اتحاد العمال كمركز موحد للحركة فقد جاء في المادة 26 من القانون ما يلى: "حرمان اية نقابة الانتساب الى اية هيئة لا تسرى عليها احكام هذا القانون او تتحد معها او تقوم معها بعمل مشترك لأى غرض من الاغراض" . كما يلزم القانون بان يكون الحد الادنى لتكوين نقابة هو خمسين عاملا ، في تجاهل متعمد لواقع الاقتصاد الوطني ، الذى تسيطر عليه الوحدات الانتاجية التي تستخدم اقل من 50 عاملا. بهذا المنهج المقصود ، يحرم القانون عشرات الالوف من حق التنظيم النقابي. ولم يقف القانون عند ذلك بل منع العاملين الذين لا يعملون تحت مخدم واحد من إنشاء نقابة مما يعنى ان عمال المطابع وطلمبات الوقود والتجارة والبناء والترزية والمخابز والتاكسي والشحن والتفريغ وغيرهم لا يحق لهم التنظيم رغم اعدادهم الكبيرة وقساوة الظروف التي يعملون في ظلها واحتياجهم الملح للمظلة النقابية التي تحميهمواضافة لذلك لا يعطى القانون العمال الزراعيين حق التنظيم. ويمضى القانون خطوات اكثر في تحجيم الحركة النقابية بان يخرج من التنظيم النقابي مدرسي المدارس الوسطى الاهلية ، والمدارس الاولية وموظفي البوستة والتلغراف وموظفي الادارة المركزية وغيرهم وكلها فئات انتظمت في العمل النقابي منذ نهاية اربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي. واخطر من كل ذلك يحرم القانون تماما استخدام الاضراب ، ويعطى الوزير ومسجل النقابات سلطات كبيرة للسيطرة على النقابات ، والتحكم حتى في اموالها و ميزانياتها.
وما يثير التعجب حقا ان السلطة العسكرية ، التي انتفعت بتجربة من اسمتهم بالخبراء النقابيين وأصدرت مصلحة استعلاماتها اكثر من عشرين كتيبا عن قضايا العمل والعمال، في حملة قوية للتأثير على تفكير جماهير العمال، لم تستوعب جوهر دروس انشاء الحركة النقابية ومناهج عملها. فالحركة العمالية نشأت في مواجهة مباشرة وعنيفة مع الدولة الاستعمارية مما جعلها تتشرب بالروح الصدامية. ظروف النشوء تلك ادت لاكتشافها مضاء، و فعالية سلاح الاضراب في مواجهة الحكومات خاصة اذا علمنا ان الحكومة السودانية ( مالكة القطاع العام) هي المخدم الرئيسي في البلاد ، واكثر من يتأثر بالإضرابات التي تعطل مرافقها الرئيسية تماما. وانسجاما مع تجربة النقابات السابقة في مواجهة قانون النقابات لسنة 1948 عند اعلانه الاول كمشروع قانون ثم استخدامه ، بعد صدوره رسميا ، في تنظيم العمال ومواجهة الادارة الاستعمارية ، قرر النقابيون استخدام القانون الجديد ، قانون 1960 ، رغم سوءاته والقيود التي يفرضها على العمل النقابي ، باستثمار صدوره لإعادة تنظيم النقابات. وكان هنالك اعتقاد سائد وسط النقابيين بان القانون صدر نتيجة لتراجع النظام امام الضغوط الداخلية والخارجية وانهم بمزيد من الضغوط سينالون مكاسب جديدة تستخدم كأدوات في صراعهم من اجل اعادة حركتهم لسيرتها الاولى. وهكذا انتعش النشاط النقابي وسط القواعد العمالية رغم قيود القانون ، المشرع والمكرس اساسا للسيطرة عليها.
قررت السلطة ، بعد اصدار القانون، ان تستخدم كل الوسائل لإلحاق النقابات بعجلتها. ومنذ صدور القانون ، رسميا ، كانت كل الانظار تتوجه نحو نقابة عمال السكة الحديد لتاريخها النضالي ولموقعها في قلب الحركة العمالية وللوضع الاستراتيجي لمرفق السكة الحديد واثره على الاقتصاد القومي. ولهذه الاسباب كانت نقابة عمال السكة الحديد ، دوما ومنذ تأسيسها ، موقعا للصراع بين العمال والحكومات وكذلك بين مختلف التيارات النقابية . ومن الطبيعي ، فور صدور القانون ، ان تجتهد القيادات النقابية بالمبادرة للتحرك النشط والمبكر وسط قواعد النقابة للتعبئة للمعركة القادمة. ومن المتوقع ايضا ان تتحرك الحكومة ، بكل امكانياتها واجهزتها ، لتطويع هذه النقابة الهامة وادخالها بيت الطاعة الحكومي.
بعد عدة مماطلات وتأجيلات تم اعادة تسجيل نقابة عمال السكة الحديد بموجب القانون الجديد. وكانت السلطة هي الاسرع في التحرك لتضييق الخناق على النقابيين المعارضين، فتم اعتقال تسعة من النقابيين وتمت محاكمتهم في عجلة ظاهرة بأحكام جائرة تفاوتت بين تسعة اشهر وثلاث سنوات. كما نقل العشرات من النقابيين لإبعادهم عن المواقع النقابية التي كانوا يفوزون فيها حتى يخلو المجال لانصار الحكومة. كما اعتقل القائد النقابي الحاج عبد الرحمن، وهو سكرتير اللجنة التمهيدية للنقابة، وحوكم بالسجن لمدة 15 يوما ، وعندما اطلق سراحه يوم 9/11/1960 تم اعتقاله تحفظيا يوم 10/11/1960 ( بعد يوم واحد من اطلاق سراحه)/ ولم يطلق سراحه (هذه المرة) الا بعد انتهاء الانتخابات. هذه التصرفات القمعية لم تنحصر في نقابة السكة الحديد فقط فقد تعرض قادة من الخطوط الجوية والادارة المركزية للاعتقال، كما تم تهديد عدة نقابيين بالاعتقال.

اضراب يونيو 1961:
ورغم كل ذلك القمع لم تأتي نقابة كما تشتهي السلطة، وامتدادا ومواصلة لتاريخ صدامي طويل تقدمت نقابة عمال السكة الحديد الصفوف مرة أخرى. وبعد تعنت الادارة والسلطة في المفاوضات ، اعلنت النقابة الاضراب من 17 يونيو حتى 24 يونيو 1961 من اجل المطالب الاتية:
• زيادة اجور العمال بنسبة 45 %
• تعديل كادر ويكفيلد
• رفع حالة الطوارئ.
تحركت الحكومة ، فور اعلان الاضراب ، بقواتها النظامية واعلامها وكامل جهاز دولتها وانصارها وسط العمال لإفشال الاضراب واستخدمت كافة الاساليب والحيل والوعود. وعندما فشلت كل محاولاتها قررت ، قبل 3 ايام من موعد الاضراب ، حل النقابة في محاولة اخيرة لإفشال الاضراب. ورغم حملة الاعتقالات التي شملت عطبرة والخرطوم ومدن اخرى، نفذ عمال السكة الحديد الاضراب بإجماع. قامت الحكومة ،عقب انتهاء الاضراب بحملة تشريد شملت المئات من العمال.

تزوير قرارات مؤتمر النقابات:
شعرت الحكومة بعد حملة الاعتقالات والتشريد التي اعقبت اضراب عمال السكة الحديد انها في وضع افضل وان توازن القوى صار في صالحها، وان الوضع اصبح متهيئا للتحرك والسيطرة على قيادة الحركة النقابية بما يضمن ولاء القيادات التام للنظام. وقد صاحب ذلك التحرك برنامج دعائي مكثف من مصلحة الاستعلامات حيث تم نشر اكثر من عشرين كتيبا موجهة للعمال تحاول ان تعيد قراءة تاريخ الحركة العمالية السودانية والعالمية من منظور النظام. ولاستخدام عنصر المفاجأة اعلنت الحكومة في صحف الخميس 15/8/ 1963 بانها قررت عقد مؤتمر لنقابات العمال السودانيين يوم غد الجمعة 16/8/1963 وهو تنفيذ متأخر جدا لمطلب نقابي قديم بعقد مؤتمر عام لإنشاء اتحاد العمال. و ذكر بيان الحكومة انه سيحضر ممثلون لكل النقابات من جميع انحاء السودان.
انعقد المؤتمر في الوقت المحدد له بحضور مندوبو 44 نقابة عمالية واجاز عدة قرارات منها:
• الغاء قانون النقابات لسنة 1960 وارجاع قانون النقابات لسنة 1948
• المطالبة بإعادة نقابة السكة الحديد
• زيادة الاجور بنسبة 45%
• قيام اتحاد عام نقابات عمال السودان
وفى مساء السبت 17/8 اعلن رئيس المؤتمر نهاية اعماله وان دعوة ستتم لمندوبي النقابات بعد انتخابهم بواسطة مجالس ادارات نقاباتهم لتكوين اللجنة التمهيدية للاتحاد. وتم نشر القرارات بالصحف.
اثارت تلك القرارات حفيظة الحكومة فقررت التحرك الفوري فدعت بعض النقابيين المختارين لاجتماع في ساعة متأخرة من ليلة السبت وتم اصدار قرارات جديدة ارسلت للصحف لنشرها رغم انها نشرت القرارات الاصلية وتمحورت القرارات الجديدة حول دعم العمال للثورة وادانتهم للمخربين والمطالبة بتصفيتهم من النقابات.
ادت فضيحة تزوير قرارات مؤتمر اغسطس 1963 لردود فعل غاضبة محليا ودوليا. حيث حدث استنكار واسع وسط قواعد العاملين وعمت موجة من الغضب والرفض في اجتماعات النقابات. كما وردت مذكرات من منظمات عالمية مطالبة باحترام حرية العمل النقابي في السودان. وتراجع المجلس العسكري الاعلى ، مرة اخرى ، امام ذلك الضغط ، واصدر في نوفمبر 1963 قرارات وافق بموجبها على عودة نقابة السكة الحديد وعلى قيام اتحاد عام للنقابات وعلى تعديل قانون 1960.
اتجهت كل الانظار ، فور صدور تلك القرارات ، مرة اخرى الى نقابة عمال السكة الحديد. وتعاملت الحكومة مع الانتخابات كمعركة مصيرية وبادرت بتكوين لجنة تمهيدية من انصارها رافضة ان تكون اخر لجنة نقابة منتخبة هي اللجنة التمهيدية ( برئاسة النقابي على محمد بشير). تواصلت واحتدمت معركة التحضير للانتخابات. ارسلت الحكومة قواتها ، قبل اربعة ايام من موعد التصويت ، التي اشاعت جوا من الارهاب في عطبرة وقامت بمحاصرة كاملة لبعض احياء عطبرة وتم اعتقال 35 نقابيا ، كما استخدمت الحكومة العمد والمشائخ للضغط على العمال ومنعهم من التصويت للمعارضة. وبتأثير كل هذه العوامل نجحت الحكومة في الفوز بثلثي مقاعد النقابة بينما نالت المعارضة الثلث الاخير. وهللت الحكومة واعلامها للانتخابات النظيفة واقيمت المهرجانات احتفالا بالانتصار.
نجاح الحكومة في الاستيلاء على قيادة نقابة السكة الحديد شجعها على المضي قدما في الحاق الحركة النقابية بركبها ، ومحاولة تخفيف الضغط العالمي الذى لم يتوقف في المطالبة بحق التنظيم لعمال السودان. فقبلت الدعوة لمؤتمر عام تحضره كل النقابات في اغسطس 1964. وبدأت اللجنة التأسيسية لاتحاد العمال اعمالها ووجهت الدعوة للعديد من الاتحادات العمالية الاقليمية والدولية. وقد ذكر واربيرج انه من الستين عضوا في اللجنة التأسيسية كان 45 منهم ينتمون للمعارضة اليسارية. اصد ر وزير الاستعلامات والعمل، وقبل يومين من موعد انعقاد المؤتمر، قرارات منها حل اللجنة التأسيسية ، وتسليم كافة اعمالها الى لجنة تمهيدية كونها من رؤساء اكبر عشرة نقابات ، والا يعقد أي مؤتمر عام حتى تفرغ اللجنة التمهيدية الجديدة من اعمالها في صياغة دستور جديد. ليس ذلك فحسب بل امر بعدم اجراء أي تغيير في تكوين مجالس ادارات النقابات حتى نهاية عام 1965. لم ينعقد المؤتمر حتى هبت رياح اكتوبر وذهبت هباء كل المشاريع لتطويع الحركة العمالية. ادت مشاركة العمال في الاضراب السياسي العام ، رغم انها جاءت متأخرة ، لإعطائه قوة وشمولا اسرع بإسقاط النظام العسكري. وكانت من معالم نضال العمال البارزة خلال ثورة اكتوبر ذلك القطار الذى سيره عمال كسلا لدعم الثورة بالعاصمة.

siddigelzailaee@gmail.com

 

آراء