مُذَكِّرَات مُغتَرِب في دُوَلِ الخَلِيجِ العَرَبي (٤٦)

 


 

 

يُعتبَر مستشفى المواساة بالدّمام من المستشفيات الرَّائدة بالمنطقة الشرقية من المملكة لِما يُقدِّمُه من خدماتٍ طبيةٍ مُتميِّزة جعلَته يحصلُ على شهاداتٍ وجوائزَ عالميةٍ .
بدأتُ عِلاجي بهذا المستشفى من الكسر الذي أصابني بالكتِف في اليومِ الثاني للحادِث ، وقد قامَ أخصائي العِظام المصري باللازم لتحديدِ نوعِ الكسْر بواسطة الكشفِ الطِّبي والأشعةِ وغيرِها من الفُحُوصات اللازمة . أكَّد أنَّ الكسرَ عبارة عن خَلْع dislocation في الكتف أدَّي إلى نُزولِ/ انفصالِ الذِّراع اليُمنى عن الكتف ٣سنتمترات. وعلى ضوء ذلك قرَّر أنْ أخضَع للعِلاج الطَّبيعي physiotherapy , فَحمدتُ الله على أنْ لم أكنْ بحاجةٍ لعمليةٍ جِراحية . وهكذا كنتُ أُداوِم أربعَ مراتٍ في الأسبوع لإجراءِ جلساتِ العلاج الطبيعي التي تَراوَحتْ بين المَسَاج بالكهرباء وبين التمارين الرياضية للكتف والذراع . كانتْ مَشاوِيرُنا بين حي الخليج ومُخطط ٩١ الذي يقعُ فيه المستشفى تستغرقُ نِصف السَّاعة ذهاباً ومِثلُها إياباً ، وكانتْ الجَلسات تبدأ في الخامسة مساءا . استمرَّ العلاجُ شهراً كاملاً اجتهدَ خِلالَه شبابُنا في سكنِ "العزَّابة" في توفيرِ التَّمر والتُرمس واللُحومِ البيضَاء الأمرُ الذي أسهمَ - بِرفقَة العلاج الطبيعي - في تسريعِ التئام العظام وعودة الذراع إلى مِفصَلها عند الكتف .
دخلتُ في فترةِ نقاهةٍ بعد شهرٍ من العلاج الطبيعي . اشتقتُ إلى التَّدريسِ فبدأتُ أُفكِّر في كيفيةِ التَّحرُّك والوُجهةِ والزمن ، وقد مضى شهران ونَيْف على بداية العام الدراسي . ولمَّا تَحوَّل الأمرُ إلى هاجِس ، طافَ عليّ طائفٌ يحملُ اسمَ الدكتور عبد الفتاح القرني - آي والله - مدير قسم الشركات في معهد اللغة الانجليزية بكلية الجبيل الصناعية . وقد عملتُ تحت إدارته في بعضِ الدَّورات في السَّنة الماضِية . تَوطدتْ علاقتي به وبسكرتيره " أبو تركي " . كان للدكتور القرني فصلٌ من منسوبي الشركات يُدرِّسُهم الانجليزي بِنفسه . ولمَّا كانَ ينشغلُ في اجتماعاتِ الكلية الإدارية يقولُ للسكرتير ضَعْ الشريف - يَقصُدني - في جدولِ الانتظار - الاحتياطي - لِينُوب عني في تدريسِ فصلي فكنتُ أقدِّر له تلك الثِّقة وأشكُره عليها .
حملتُ أشواقي وطيفَ الدكتور نُصبَ عينَي واصطحبتُ ابنَنا مصطفى جكسا ليُقِلَّني إلى الجبيل بسيارته الجديدة التي مُنِحَها بواسطة شركته عِوضاً عن تلك التي أتلَفها الحادثُ . قد يقولُ قائلٌ : مصطفى تااااني؟ فأقولُ : نعم والله إنني أتفاءلُ باصْطِحابه . دخلنا الكلية بسهولة ، تركتُ مصطفى عند أولِ مقهى وصعدتُ إلى الطابقِ الأول . وبالمناسبة كانتْ ذِراعي اليُمنى لا تزالُ مرفوعةً بالجَبِيرة الزَّرقاء . استَقبلَني أبو تركي بترحابٍ أريحي مصحوبٍ ب " سلامات " حارّة . ثم قالَ لي : انتَ مَحظُوظ ، الدكتور لِوحدِه تفَضَّل ! وذلك بعد أنْ أبلغَه بالهاتف .
استقبلني دكتور القرني هاشَّاً باشَّاً وقامَ لمُصافَحتي مٍن على كُرسِيه الوَثير ، ففوجئ بالذَّراع المُعلَّقة . أجلَسني قُبالتَه فسَرَدتُ له قصةَ الحادثِ من الألفِ إلى الياء ثم تَطرَّقتُ لانسِلاخي عن شركة الخليج تمهيداً للدُّخولِ في صُلبِ ما جئتُ من أجْلِه . وبعد هُنَيهةٍ قلتُ له : " لقد جِئتُكم غازياً " ، فضَحِك ملء شدقيه ثم قال : خير إن شاء الله .
قلتُ : أرغبُ في العودةِ إلى معهدِكم مرَّةً أخرى والعملِ معكم . هل لديكم فرصة أو vacancy ؟
قال : والله نَتَشرف بِرُجوعك إلينا . ( والله قالها بالحَرف ) .
قلتُ : ما اسمُ الشَّركة المَحظوظة التي فازتْ بِتعَاقُد العامِ الدِّراسي الجَديد؟
قال : شركةُ المدينةِ التَّعليمية وإدارتُها بالرِّياض وهُم مُحتاجين لمُعلِّمين . لكنْ ال Coordinator ( المُنسِّق ) تَبعهُم موجود معانا .
وسرعانَ ما وصفَ لي مكتبَ المُنسِّق الموجود بنفسِ المبنى القديم وأمَرني أن أذهبَ إليه مِن فوري ، ثم رفعَ السَّماعة ليَتَصِل عليه وأنا خارجٌ من مكتبه .
ذهبتُ إلى مكتبِ مُنسِّق شركة المدينة التعليمية وكأنني في حُلم يَحمِلُني على جناحَين ! دخلتُ المكتبَ ففُوجِئتُ بالرَّجُل الذي أعرِفه . إنه الأستاذ محمد القُضاة الذي عملتُ معه من قبلُ وهو أُردُني الجِنسية . بعد التحيةِ والمُجاملة أخبَرني بأنَّ دكتور القرني قد اتَّصلَ عليه وطلبَ منه إجراءَ اللازم للتَّعاقُد معي ومنحي جدولاً للحِصص لأبدأ العملَ يوم الأحدِ القادِم ، وكانَ اليومُ الذي نحنُ فيه أربعاء . نعم واللهُ على ما أقولُ شهيد . حتى أنا نفسي كنتُ مُنذهِلاً من هذه البَركاتِ التي نزلتْ علي . اكتملَ كُلُّ شئٍ في نهارِ ذلك اليوم : العقدُ وتوقيعُه واستلامُ الكُتبِ وجدولُ الحِصص ، كُلُّ ذلك مصحوباً بخدمةِ الشاي والقهوة والبسكويت وذهولِ العبدِ لله !!يا سُبحانَ الله ! " ما بينَ غمضةِ عينٍ وانتِباهَتِها يُبدِّل اللهُ من حالٍ إلى حالِ " .
ولما كانتْ الجُبيل من معارفي القديمة حيثُ كان لي فيها صِلاتٌ وصَولاَت ، فقد قدِمتُ إليها على بَيِّنةٍ من سَكَني وترحيلي . كان ذلك يومَ الجُمعةِ قبلَ بدايةِ العملِ بيومٍ واحد .
دارتْ بي عجلةُ الدَّوام في كليةِ الجُبيل الصِّناعية وانهمكتُ في الفصولِ والتَّدريس كما لو أنّني لم أنفصلْ عنها بِطلاقٍ ورَجْعةٍ ؛ لِدرجةِ أنني نسيتُ ذِراعي والخَلع الذي أصابَها ، والحمدُ لله أنْ لم تَطلُبْ منِّي الكلية خُلْعاً ! وكما قال ابنُ أبي رَبيعة :
وذو الشَّوقِ القَديمِ وإنْ تَعزَّى
مَشُوقٌ حينَ يلقَى العاشِقينا
والإخلاصُ في الحُب تَوأمُه الإخلاصُ في العملِ لنيلِ رِضا الحَبِيب . وهآنذا أُعيدُ ما سَرَدتُه مِن قبلُ وهو اختصاراً : إنَّ الطَّريقةَ التي تُدارُ بها كُليةُ الجُبيل الصناعية تَرقَى إلى مَصَافِّ الكلياتِ الشَّهيرةِ خارجَ النِّطاق العَربي ورُوادُها مِن الطُّلاب مَحظُوظون لما يَلقَونَه من اهتمامٍ وما يَتَلقَوْنَه من مناهجَ مُواكِبةٍ للتَّطوُّر البَشَري ومَدعُومةٍ بأحْدثِ التَّقنِياتِ خاصّةً مَناهجَ اللغةِ الانجليزية .

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء