ذكريات د. إحسان عباس في السودان

 


 

 

عبد المنعم عجب الفَيا

أصدر الدكتور إحسان عباس الأستاذ الجامعي والباحث والمحقق والناقد الأدبي المشهور كتابا في سنة ١٩٩٦ عن سيرته الذاتية اختار له عنوان: (غربة الراعي).
ولد إحسان عباس في قرية عين غزال، بريف حيفا، سنة ١٩٢٠ وتلقى تعليمه المدرسي بقريته وبحيفا ثم انتقل الى الكلية العربية بالقدس والتي كانت أعلى مرحلة تعليمية في فلسطين في ذلك الوقت. وبعد تخرجه من الكلية العربية، عمل بالتدريس فترة بصفد، ثم ابتعث للدراسة بجامعة القاهرة بمصر وتخرج فيها سنة ١٩٤٩ بدرجة الليسانس في اللغة العربية.
مكث بالقاهرة فترة قصيرة بعد تخرجه من الجامعة، ثم سافر الي السودان للعمل استاذا للغة العربية بكلية غردون التذكارية بالخرطوم التي اسسها الانجليز في ١٩٠٢ تخليدا لذكرى الجنرال البريطاني الشهير غردون الذي عين حاكما عاما على السودان من قبل الإدارة التركية الخديوية مرتين، وقتله ثوار الثورة المهدية في معركة تحرير الخرطوم سنة ١٨٨٥ وعندما نال السودان استقلاله سنة ١٩٥٦ صار اسم الكلية، جامعة الخرطوم.
قضى احسان عباس في السودان عشر سنوات في التدريس الجامعي. وذلك من سنة ١٩٥١ الي سنة ١٩٦٠ . وقد توفي إحسان عباس في سنة ٢٠٠٣ . وفيما يلي ابرز ذكرياته في السودان خلال تلك الفترة نوردها على لسانه مقتبسة من كتاب سيرة حياته المذكور.
**
"قرأت انا ومحمود الغول، إعلانا يفيد ان كلية غردون التذكارية في الخرطوم تحتاج إلى مدرس للغة العربية، فكتب محمود طلبين واحدا له و واحدا لي، وقلت له: لماذا تفعل ذلك؟ قال، اي واحد نالها منا كان ذلك خير. ولم أكن أعلم أن الأستاذ أحمد أمين كان قد سيل، من يرشح لهذا المنصب فذكر اسمي وكان ريس قسم اللغة العربية في تلك الكلية هو تلميذه محمد النويهي. فلما وصلتني برقية من المستر بيل Bell وكيل حكومة السودان بمصر يسالني فيها ان كنت لا ازال اقبل بالذهاب الي السودان رحبت بالعرض، وذهبت الي حي غاردن سيتي بالقاهرة، وقابلت المسؤول، واتفقت معه على موعد للسفر إلى الخرطوم.
"كانت السفرة تعني ان اركب القطار من القاهرة إلى اسوان، ثم الباخرة النيلية إلى ما بعد الشلال الي حلفا، ثم القطار من حلفا إلى الخرطوم. وهنا اعترضت مسألة جواز السفر وكنت احمل جواز سفر حكومة عموم فلسطين الذي صدر في القاهرة، وتلفن المسؤول الانجليزي الى الخرطوم وسال الموظف السوداني، هل يقبل مثل هذا الجواز، فاعلمه انه مقبول، على ان يسحب مني لدى وصولي وأعطى بدله وثيقة سفر. فاستبشرت خيرا وخيل الي ان السودانيين صنف مختلف عن ساير العرب الذين قست قلوبهم حتى عادت أشد قسوة من الحجارة، واحمد الله اني وجدت مصداق ما خيل الي حين استوطنت السودان".
"وصلنا الخرطوم يوم ١٨ يناير ١٩٥١ .. ووجدت الكلية استاجرت الي منزلا بالخرطوم بحري.. وعندما ذهبت ثاني يوم إلى الكلية قيل لي أن العام الدراسي على وشك الانتهاء ولهذا لم نخصص لك برنامجا، وتركنا لك الحرية في التعرف على طبيعة الدورس وتحضر بعض الدروس مع زملائك في الوقت نفسه.. بعد انتهاء بقية الفصل عدنا الي القاهرة.. وعندما رجعنا في السنة الدراسية التالية إلى الخرطوم وجدت الكلية قد خصصت لي منزلا في حي المطار بالخرطوم، وكانت دارا جميلة حولها حديقة تضم أشجار الموز والباباي والنيم والليمون وغيرها. فهاجرنا إليها من الخرطوم بحري وسكنا فيها طول اقامتنا في السودان، اي حوالي عشر سنين".
" كذلك وجدت الدكتور محمد النويهي قد حدد لي ما ادرسه في الأدب العربي.. وكان النويهي خريج مدرسة الدراسات الأفريقية والشرقية بلندن وقد نال منها شهادة الدكتوراة في موضوع "الحيوان في الشعر الجاهلي" ولذلك كان ميدان تدريسه قصايد مختارة من الشعر الجاهلي.. وكان النويهي يدرس في الجامعة موضوعا اخر هو "ابن الرومي" وانفق وقتا غير قليل يؤلف كتابا في الرد على العقاد، في ما كتبه عن ابن الرومي، فلما أصبحت مدرسا في قسم اللغة العربية وكل لي تدريس هذا الموضوع، وكان كتابه مقررا على الطلاب، فقلت له: ان من الانصاف ان يطلع الطلاب على الكتابين معا، ونتوسع في دراسة شعر ابن الرومي نفسه، لان الأصل والرد يمثلان قضية جدلية، وخير للطلاب ان يتمرسوا بدراسة شعر ابن الرومي قبل أن ندخلهم في حومة الجدل حوله. وقد ترك لي الحرية في توجيه الدرس".
"كانت كلية غردون الي حد ما، تشبه الكلية العربية في القدس، تختار ان يكون طلابها هم النخبة في المدارس السودانية. ولذلك كانت مهمة المدرس أكثر صعوبة وأكثر مسؤولية وأكثر امتاعا. لكن هناك فرق اساسي بين طلاب الكلية العربية وطلاب الكلية السودانية، وهو انغماس الطلبة السودانيين في الحزبية، وبعد طلاب الكلية العربية عن الانتماء إلى أحزاب. وكان الحزب الشيوعي في السودان قويا حسن التنظيم، كما كان العمال السودانيون فية يحسب حسابها، وكان تنظيم الإخوان المسلمين قد استقطب عددا غير قليل من الطلاب، ولهذا كانت روح التدين ذات نسبة عالية في الكلية السودانية".
" وكان اول شي كلفت به الطلاب، خارج حدود الدراسة، أن يكتب لي كل واحد منهم بيانا عن بلدته، مميزاتها عاداتها، وكان ذلك لفايدتي الخاصة في فهم الجو العام الذي نشأ فيه كل طالب، واذكر ان واحدا من منطقة غرب السودان، كتب يصف أحد المتميزين في بلده، وقال فيه انه عاش ثلاثين خريفا، فلما سالته لم يقول ذلك؟ اجابني لأن الخريف هو الفصل الأخضر البهيج بنباتاته وازهاره، والربيع فصل شديد الوطاة". (لا وجود لفصل الربيع في السودان وشهر مارس هو بداية الصيف، والخريف موسم الأمطار يبدأ في يونيو وينتهي في اواخر سبتمبر: كاتب المقال).
"وكان صديقي من السودانيين في الكلية، جمال محمد أحمد، وسعد الدين فوزي، اما الأول فمن أكبر ادبا السودان، وأما الثاني فكان من طليعة المفكرين السودانيين، درس في جامعة لندن الاقتصاد، وتمكن من التحصيل الفلسفي. وكان لنا زميل سوداني آخر يعيش فالقسم الداخلي، فكان يدعونا أحيانآ مشاركته في طعام الفطور، فكنا الأربعة نجتمع حول صحن من الفول، لا نطلب غيره. أعجبتني هذه القناعة، ووجدتها تصور حقيقة مهمة من واقعية المثقف السوداني الذي لا يترفع متعالا عن واقع الناس البسطا ".
" وبدات ادرس ما يمكنني أن أقدمه خارج نطاق التعليم في الكلية، فوجدت ان في السودان ادبا غزيرا وبخاصة في الشعر، وان الدراسات حوله قليلة أو بدائية، فشرعت اكتب الي بعض المجلات اعرف بالادب السوداني، حتى استوقفني يوما زميلي الدكتور عبد المجيد عابدين (الأكاديمي المصري المعروف، وضع أكثر من كتاب عن الأدب السوداني وكتاب في الأصول العربية للعامية السودانية: كاتب المقال)، وسألني: هل ستطول بك الكتابة عن الأدب السوداني؟ قلت: انك لا تسالني هذا السؤال الا ولديك مشروع في هذا الميدان نفسه. فقال: هذا صحيح. وبعد مدة قليلة ظهر كتابه (الثقافة العربية في السودان).. فاخذت اشجع نشر الشعر السوداني والقصة القصيرة السودانية في بيروت، وكان من ثمرة هذا الجهد، ظهور ديوان غابة الابنوس لصلاح أحمد إبراهيم، ومجموعة قصص لصلاح وصديقه، علي المك، ثم غضبة الهبباي لصلاح، وديوان الصمت والرماد للشاعر كجراي".
"أصبح احد طلابي وهو محمد ابراهيم ابو سليم مسؤولاعن المحفوظات والوثايق السودانية، فتمكنت بواسطته من الاطلاع على كثير من الوثائق الخاصة بتاريخ المهدية، ونسخت كثيرا منها، ودرست منها أساليب الكتابة في ذلك العصر، وكنت اعد نفسي لاستغلالها في دراسة التاريخ، ولكن ذلك كان في السنوات الأخيرة من اقامتي في الخرطوم، ثم اضطررت لمغادرة السودان قبل أن أحقق ما كنت انوي عمله، لكني اعتقد خلفت من الطلاب من يحسنون القيام بتلك المهمة على نحو افضل".
"ورغبة مني في معرفة مناطق أخرى من السودان خارج العاصمة المثلثة، قمت برحلتين واحدة الي الغرب زرت فيها مدينه الأبيض (تصغير الابيض وهي عاصمة إقليم كردفان: كاتب المقال) والدلنج. وواحدة الي الشرق زرت فيها كسلا، ولكني لم ازر الجنوب، وهي منطقة تستحق الزيارة غير اني لم احسن التوقيت المناسب لزيارتها".
" وقد فكرنا في قسم اللغة العربية بفتح مدارس لتعليم الكبار، فشاركت في هذا النشاط ووجدت فيه متعة فايقة. ودعيت إلى معظم النوادي في الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري والقيت فيها محاضرات، ولم اعتذر في أية مرة عن اية محاضرة، الا محاضرة واحدة كان القاوها مقررا في سنة ١٩٥٨ بعد الانقلاب العسكري الأول، في ام درمان، فوجدت الشرطة قد اغلقت النادي وحيل بيني وبين المحاضرة" .
"ومنذ ان بدأت نشاطي في الكلية السودانية، اصطفيت أربعة عشر طالبا، وكنا نجتمع في اتحاد الطلبة أو في بيتي، ونتحدث في شتى الموضوعات بشكل عفوي، وكانوا مختلفين في الانتماء بعضهم من اليساريين، وبعضهم الاخر من الاخوان المسلمين، وكان الحوار بينهم يشتد احيانا وترتفع درجته، ولكن سرعان ما كانوا يفييون للهدوء ويغادرون المجلس وليس بينهم سو تفاهم. وكانت هذه الظاهرة يوميذ تمثل السودانيين في أعلى مستويات الحوار وبخاصة في البرلمان بعد الاستقلال، إذ كانوا في قاعة البرلمان يمثلون الحكم والمعارضة، وهم بعد الجلسة الرسمية اخوان متحابون، وكنت اقول لنفسي حقا الديمقراطية تليق بهم ولهم".
"في خلال عشرة أعوام، كان لا بد أن اتعرف الي كثير من السودانيين خارج نطاق الكلية، من فيات مختلفة، وقد وجدت فيهم النموذج الذي ارنو اليه من الإخلاص والتواضع وتقدير رابطة الصداقة، وعدم التكلف في الخطاب، لولا ان أحيل بعض الصفحات هنا الى جرايد من الاسماء، ولولا خوف السهو عن ذكر بعضهم، لعددت كثيرا أو لعددتهم جميعأ ".
" كانت الحياة في الخرطوم مريحة، بدقة ما فيها من نظام في جميع الشؤون والمجالات، وتوافر كل ما يحتاجه المرو من لباس ودوا وطعام، فإذا جمعت الي ذلك لطف الشعب السوداني ودماثة ابنايه وصدق العلاقات بين الناس، كنت تصف جوا مثاليا للعيش. وحين دخل السودان في عهد الاستقلال سنة ١٩٥٦ استبشرنا خيرا، ووافق هذا العام صد العدوان الثلاثي على مصر، وكانت عواطف السودانيبن جياشة، بالغيرة على مصر وشعبها حتى لقد تطوع بعض السودانيين ليشاركوا اخوانهم ابنا مصر في وقفتهم ضد العدوان.
وقد أصبح واضحا الميل إلى "سودنة" المناصب الإدارية فيها، فاستقال محمد النويهي من رياسة قسم اللغة العربية وعاد إلى مصر، وعين خلفا له الدكتور عبد الله الطيب، وأصبح نصر الحاج علي ريسا للجامعة. وكان صديقاي جمال محمد أحمد وسعد الدين فوزي، ينصحاني بالحصول على الجنسية السودانية واستخراج جواز سفر سوداني، وكنت اقول لهما، لا يراني الله انتهازيا، هذه المناصب الإدارية لكم ولا انافس أحدا فيها وانا راض ان اظل استاذا، فذلك حسبي".
" وفي السنة التالية اي ١٩٥٧ انشيت جامعة القاهرة فرع الخرطوم، واتصل بي المسؤولون فيها لادرس الأدب الأندلسي، فاعتذرت عن ذلك لانه لم تكن لي علاقة بذلك الأدب، ولكن اعتذاري لم يقبل، فانصرفت إلى المصادر الأندلسية واخذت اهيي محاضرات صالحة لهذه الغاية".
"وفي هذه السنة نفسها كتب الي اخي بكر من بغداد يذكر انه يقضي اوقات صعبة في السجن أو في المنفى دون تهمة توجه اليه، وقدرت ان الحكومة العراقية غضبت عليه بسبب كتابي عن البياتي، ولم يكن تقديري صحيحا. وكان جمال محمد أحمد قد أصبح سفيرا للسودان في البلاد العربية المشرقية ومركزه بغداد، فكتبت اليه ان يمنح اخي تأشيرة دخول إلى السودان، ففعل، وجا بكر فقضي سنتين مدرسا في مدارس الأحفاد الأهلية بام درمان، وكان مديرها الصديق، يوسف بدري. وكانت صحبة بكر في هاتين السنتين رفقة محببة لدينا معا، ساعدتني السيارة في ان اتردد الي ام درمان لازوره، وكان هو يجي الخرطوم في نهاية الأسبوع".
"وما كادت السنة الدراسية ١٩٥٩- ١٩٦٠ تنتهي حتى واجهتني مشكلة تجديد العقد. كان العقد مع الجامعة يجدد كل خمس سنوت، وقد اتممت عشرا وأصبح بقايي في السودان مرهونا بتجديد العقد لخمس سنوات أخرى... حزمت أمري على أن أغادر الخرطوم، وحرصت ان اشحن كتبي معي إلى بيروت.. وأخذت كتبي لاستصدار إذن بشحنها، وكان المسؤول عن ذلك فتى سودانيا لا تسمح سنه بأن يكون من خريجي الجامعة. وبعد انتظار غير قصير لم أحصل على الأذن، فقلت للفتى: ليتك توقع لي الأذن لانصرف إلى عملي، فقال: هل افهم من ذلك انك مغادر بلدنا نهاييا؟ قلت: لا أظن ذلك، وإنما انا انقل عايلتي ومعها كتبي لكي يدخل ابنايي مدارس لبنانية. عندها تنهد هذا الفتى بارتياح وقال: الحمد لله. قلت ومن أين تعرفني مع انك لم تكن احد تلاميذي في الجامعة؟ قال: لم تفتني اية محاضرة من محاضراتك في العاصمة المثلثة. تأثرت كثيرا بكلام هذا الفتى وحمدت الله اني اخفيت عن أصدقائي السودانيين الكثيرين خبر مغادرتي النهائية. وحين وصلنا إلى بيروت انا وعايلتي ارسلت إلى رئيس الجامعة، رسالة أخبره فيها باستقالتي من الجامعة".
"كان في استقبلنا حين وصلنا مطار بيروت الدكتور محمد نجم وريس دايرة اللغة العربية الدكتور انيس فريحة، وطالت إجراءات الدخول حتى كدنا نياس من الأذن لنا بذلك..
كان راتبي بالجامعة الأمريكية ببيروت لا يبلغ ثلث راتبي في الخرطوم... وكانت النقلة من بالخرطوم الي بيروت ومن جامعة الخرطوم إلى الجامعة الأمريكية، نقلة من الهدوء السكوني إلى الحركة الدينامية المتفجرة. كانت الجامعة الأمريكية ملتقى لمختلف الجنسيات القوميات العربية وغير العربية. وكانت بيروت مركزا ثقافا.. كان تضم نخبة من المثقفين من مختلف الاقطار العربية ودور نشر تعد بالعشرات، ومجلات وصحفا أدبية فكرية ومقاهي يلتقي فيها المفكرون والنقاد والمبدعون.
وكنت قد الفت حياة الهدوء والبعد عن الصخب، وفي الخرطوم اعترف بي الناس وبدوري فيهم وانكرني شخص واحد، وفي بيروت اعترف بي شخص واحد هو الدكتور حليم بركات الروايي المشهور وعالم الاجتماع من بعد، اخذني إلى الاذاعة اللبنانية وسالني بعض اسيلة اجبت عليها، وانكرني الجمهور، وحين وجدت الأمر كذلك اثرت الابتعاد والعمل في ما هيت له، من تدريس الطلبة وتخريحهم وكتابة البحوث، وعدم التدخل في اي امر لا أحسنه، مثل العمل في السياسة أو معالجة القضايا التي تشغل بال الجماهير، في الصحافة، والاكتفاء بدور المتفرج على تلك البانوراما العجيبة دون الانزلاق إلى تضاعيفها ".
وكانت اول مشكلة واجهتني في بيروت "ولم أكن احسب لها حسابا وهي أنني لا أملك جواز سفر وإنما اتنقل بموجب وثيقة سفر سودانية (ليسه باسيه) صالحة لستة أشهر. هنا سعيت الي السفارة السودانية في بيروت، وعرضت الأمر على السفير الصديق، مصطفى مدني، فقال: ساجدد لك وثيقة السفر ستة أشهر أخرى، وان كان هذا ممنوعا، ومن ثم تحاول أن تتدبر امرك. هنا نظرت في الأمر فوجدت ان الجهة الوحيدة التي يصدر عنها الضوء هي الأردن، فكتبت إلى صديقي ابراهيم القطان والمحامي محمد اليحيى، رحمهما الله، فكان لجهودهما الخيرة ان حصلت على جواز سفر، وبذلك حلت مشكلة الإقامة في لبنان".
**
تضمنت سيرة إحسان عباس بعض المواقف الطريفة، نذكر منها طرفتين، الأولى حدثت مع المؤلف في جامعة القاهرة والثانية حدثت له بجامعة الخرطوم.
يقول :" عندما نجحت عام ١٩٤٩ في نيل شهادة الليسانس، كان الذي يقرأ الاسماء هو الاستاذ محمد عبد الهادي ابو ريدة، الذي درسنا الفلسفة الإسلامية، اقتربت منه وقلت له: انا تلميذك إحسان عباس، فإذا قرأت اسمي فارجو الا تقرن به لفظة الآنسة. وبعد تردد يسير قرأ اسمي صحيحا".
وهذا يدل على أن الاسم إحسان يطلق في البلدان العربية عادة على الاناث، وإطلاقه على الذكور نادر.
اما في جامعة الخرطوم فيحكي إحسان عباس هذه الطرفة: "دخلت ذات يوم عرفة الدراسة الخاصة بطلاب السنة الثانية، وكان من عادتي ان الا ابدا الدرس الا بعد أن يسيطر السكون تماما، وتلكات في البد لاني سمعت الطلاب في الصف الاخير يتحدثون، دون أن افهم الموضوع الذي يشغل بالهم. وبعد انتهاء الحصة عدت إلى مكتبي، ورأيت كوكبة من الطلبة يدفعون الطالب، عبد الكريم، احد الذين يجلسون في آخر الصف، ويوجهونه الي باب مكتبي. فدخل عبد الكريم وخاطبني بلهجة غريبة وقال لي :" إياك أن تكون تعقدت". قلت وانا لا أفهم ما يعنيه: ليس من السهل أن اتعقد، فكن مطمينا، وبقي هذا كله في نفسي اشبه باللغز. حتى اقيم في اتحاد الطلبة أمسية ترفيهية وقام احد الطلاب يروي ما حدث من نكت بين الطلاب و الأساتذة واحدا واحدا. فقص كيف انني دخلت غرفة الدرس، وكان عبد الكريم يقول في الصف الاخير: هذا الفلسطيني ماله ومالنا؟ لماذا يشغل نفسه بتدريسنا ابن الرومي، لو كان ذا قدرة لبقي في وطنه يدافع عنه، وراني الطلبة ساكتا، فظنوا اني سمعت ما قاله فادركني الاستياء مما سمعت، فاصروا عليه أن يدخل مكتبي ويعتذر الي، وكانت كلماته "إياك تكون تعقدت" هي التعبير الذي وجده ملايما للاعتذار. وعندما سمعت هذه الحكاية اكبرت هذا الأدب لدى الطلاب، ولكني قلت لنفسي، صدق عبد الكريم في كل ما قاله، ولم يكن له حاجة إلى الاعتذار، ولو كنت عرفت يوميذ معنى اشارته، لانصفته اكثر".
**
في ثنايا سرده لذكرياته عن حياة الطفولة في القرية، أدخل الدكتور إحسان عباس كثيرا من المفردات من اللغة العامية الفلسطينية. وقد لفت نظرنا ان بعض هذه المفردات مشترك بين العامية السودانية والعامية الفلسطينية. ومما ورد من المشترك، على سبيل المثال :
ديوان (صالون استقبال الضيوف في البيت)، مصطبة، طاقة (نافذة غرفة الطين)، صينية (الصحيفة المعدنية التي يقدم فيها الطعام والمشروبات)، صحن، سلطة، لبن رايب وروب، بيض مسلوق، صحارة (تنطق سحارة في العامية السودانية وهي عندنا خزانة لحفظ الاشياء والمقتنيات الثمينة، لم يعد لها وجود)، كيس، جبة، جلابية، جيب، دكان، فرن (مخبز الرغيف)، عجين، بندورة، سخينة (نوع من الادام من البصل المحمر)، مطمورة ومطامير (حفرة في الأرض بمثابة مخزن لتخزين الغلال وهي فصيحة). جرن (بالضم. مكان تجميع سنابل الحبوب عند الحصاد)، علف، تبن، بطيخ. وادي (نهر صغير أو خور)، شاطر (شجاع)، حجاب (بالكسر تميمة قرانية تكتب على ورق وتجلد وتعلق أو تلبس). فلقة (الة لتاديب التلاميذ في الكتاتيب والمدارس في ذلك الوقت) فراش (على وزن فعال، ساعي المدرسة أو المكتب ونحوه). ولاعة السجاير، قرش، جنيه، وغيرها.
**
هناك أيضا تشابه بين فلسطين والسودان، في بعض المعتقدات مثل اعتقاد عامة الشعب في شيوخ الطرق الصوفية والتعلق بهم والإيمان بكراماتهم. كما يوجد تشابه في الاحاجي الشعبية وبخاصة احاجي الغيلان، مثل حكاية الشاطر حسن والغول، وفاطمة السمحة والغول. إضافة إلى الاشتراك في أسماء العاب التسلية، ومن ذلك لعبة "سيجة" للكبار والتي تستعمل فيها حجار صغار أو نحوها توضع على حفر صغيرة مصطفة، وتنقل على طريقة قطع الشطرنج ولكنها ابسط كثيرا من الشطرنج.

*المصدر :
إحسان عباس، غربة الراعي: سيرة ذاتية، دار الشروق، عمان، الأردن، الطبعة الثانية، ٢٠٠٦

abusara21@gmail.com

 

آراء