محمد أحمد محجوب وصلف مكمايكل
عبد المنعم عجب الفيا
28 December, 2024
28 December, 2024
عبد المنعم عجب الفَيا
كتب محمد أحمد محجوب* :
"كتابان لهما في نفسي مكانة خاصة، على بعد ما بينهما من خلاف، فكاتب الأول من المشتغلين بالصحافة والسياسة في إنجلترا، وكاتب الثاني اداري قضى زهرة عمره في هذه البلاد.
موضوع الكتاب الثاني استعراض لتاريخ السودان عامة واستيعاب لتاريخ الحكم الحاضر. وليس الكتابان خير ما اقتني، ولا من خيرة الكتب التي تضمها مكتبتي. وكثيرا ما سالتني عن السر، وكنت ابدي لك جانبا منه واخفي الجانب الأهم، ولكنك هذه المرة اخذت تسالني وتلح في السؤال، ولم أجد بدا من ان اقص عليك خبرهما.
أصدر الكاتب المشهور ج. ا. اسبندر كتابا عنوانه ( الشرق المتطور) بعد أن قام في ربيع عام ١٩٢٥- ١٩٢٦ برحلة الي تركيا ومصر والهند. وسمعت عن الكتاب وذهبت الي (مكتبة السودان) لاشتري نسخة منه، وبينما انا واقف مع البايع اليوناني ادفع له الثمن واقلب صفحات الكتاب، دخل السير هرلد ماكمايكل يسال عن ذات الكتاب، فاعتذر له البايع في أدب جم، وقال له أن النسخة الأخيرة من الكتاب اشتراها هذا الشاب قبل هنيهة.
فنظر الي السير هرلد ماكمايكل نظرة حرت في تفسيرها آنذاك، ثم استأذن مني واخذ الكتاب وقلب صفحاته، وسالني في لهجة كلها الاستنكار: "وهل تقرأ وتفهم مثل هذا الكتاب". فلم اجبه، بل اخذت منه كتابي في صمت وخرجت.
قرأت ذلك الكتاب وتدبرت ما خطه اسبندر عن الغازي مصطفى كمال، وعن سعد زغلول، وعن غاندي، وسرني انه كان منصف لاوليك الرجال الذين لعبوا الدور الهام في نهضة بلادهم وتطورها. وسرني ما وصف به غاندي من مقدرة في تحدث اللغة الانجليزية، واتصاله بالفكر الأوربي رغم نزعته الصوفية وتجرده من كل ما هو غريب عن الهند.
وشاقني حديث المؤلف عن ذلك الشيخ الذي كان يطوف بطفليه على قصر تاج محل، ولما ساله اسبندر، لماذا جا بطفليه الي هذا المكان، قال له ليقبسا من عظمة الهند. فاعترضه قايلا: "ولكن تاج محل بناه احد الملوك المغول وليس اثرا هنديا". فاجابه الشيخ في كبرياء وسرعة خاطر:
"لقد جاء المغول وذهبوا والهند باقية، وجا العرب وذهبوا والهند باقية، وجا الإنجليز وسيذهبون وستبقي الهند، وكل ما خلفوا وما سيخلفون هندي يضيف إلى عظمة الهند".
قرأت هذه الفقرة وقلت في نفسي: "هلا تعلم ماكمايكل حكمة ذلك الشيخ الهندي، وعلم ان الإنجليز سيذهبون، كما جاء وذهب غيرهم، وسيبقى السودان".
ولم ترد في الكتاب عن السودان غير إشارة عابرة حيث قال المؤلف: "السودان كلب نايم ". وهي إشارة إلى المثل الانجليزي الذي يقول: " لا توقظ الكلب النايم" خيفة ان ينبح ويعض. وعندما قرأت تلك الجملة قلت لنفسي: "هلا تعلم ماكمايكل حكمة قومه وتركنا نغط في نومنا، ام هو من ذلك النفر الذين لا يهدا لهم بال الا اذا قامت الفتن واحترقت الإنسانية في اتون لا يروق لهم الا ان يكونوا قطب رحاه".
والكتاب الثاني (السودان الانجليزي المصري) لمؤلفه السير هرلد ماكمايكل، وهو مؤرخ مدقق وصاحب ذكاء وقاد، وتمتاز كتابته بالايجاز والوضوح، وقد استعرض في هذا الكتاب تاريخ السودان من أقدم العصور، ثم تعرض لحكم الحاضر بالتفصيل، فلم يترك الوضع السياسي، ولا مشكلات الإدارة الأهلية والتعليم، ولم يترك المستقبل فقد تكهن به.
ويرجع حرصي على كتابه هذا لسببين: الأول انه أعطاني مفتاح السر لفهم تهكمه علي، عندما اشتريت كتاب اسبندر عن (الشرق المتطور) وفزت به دونه. والسبب الثاني رأيه في مستقبل السودان واختلافي معه في ذلك الرأي.
رأي ماكمايكل في المعلمين، رأي سي واغلب الظن مغرض. ولا احسب ان بين المؤرخين الأجانب من وصفهم، بمثل ما وصفهم به، من قصور في الفهم ومبالغة في الوهم، وغرور يدفع صاحبه إلى أسوأ النتايج.
ويعني ماكمايكل بالمتعلمين: اوليك الذين يسكنون الخرطوم وام درمان ومثيلاتها من المدن الكبيرة، وتعلموا في المدارس الحكومية. أو شذوا واكتسبوا بوسايل أخرى اهتماما وسعة وادراك بالعالم الخارجي، سوا منهم من التحق بالوظايف الحكومية او خدمة الجيش أو من اشتغلوا بالتجارة.
وهو يقسمهم الي اجيال: الجيل المسن الذي حنكته التجارب وتلقن الحكمة في مدرسة الشدايد، واحتفظ بذكرى خالدة لقسوة عهد الدراويش، ولا يزال يذكر بالخير ما افاه سقوط ام درمان من نعمة على البلاد.
والجيل الذي كان ابناوه اطفالا في عام ١٨٩٨ واخذوا في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى يستوعبون الآراء السياسية، ولكن في تحفظ بفضل ضغط كبارهم الذين حنكتهم التجارب. ونظرا لما شهده عهد ما بعد الحرب من التوسع الاقتصادي المفاجئ، ولما قام به الساسة المصريون من نشاط سياسي عاصف، فإن الجيل الجديد الذي كان اخذا في الصعود، كان يتابع الحوادث في مصر والشرق الأدنى باهتمام زايد.
وبدأ طلاب المدارس في ذلك العهد يتصورون السودان كوحدة قومية، وسرت إليهم عدوى تزجية الفراغ وقتل الوقت بالاصطياد في مياه السياسة المضطرب، كما يفعل الوفد تماما. ويرى ماكمايكل ان جلا الجيش المصري عن السودان في أواخر ١٩٢٤، قد كشف النقاب فجأة عن حقيقة ضعف مصر، وعدم امكان الاعتماد عليها، أسفرت عن تصحيح وجهة النظر بعض الشيء، وفي ذات الوقت نزع برقع الحيا وازداد الاعتداد بالنفس والطمع الذي لا مبرر له. وانه بدأ ينمو ويترعرع في البلاد وعي قومي كنتيجة لادراك الشؤن العالمية بواسطة التعليم، الا ان هذا الشعور القومي عند السودانيين من الصعب أن تفرق بينه وبين الرغبة في الحكم والوظائف.
ليس هذا كل رأي ماكمايكل في المتعلمين.
فيبنما يرى ان تعليم اللغة الانجليزية، فتح امام المتعلمين آفاق واسعة ومتنوعة من الآداب، اذا به يقرر ان تلك الآراء والافكار لم تهضم، وعلى رغم الذكاء والتطلع لمعرفة الجديد، فقد انعدمت ملكة النقد التي تشذب الأفكار وتحفظ التوازن، ذلك لفقدان الدراسة التاريخية والاسس الثقافية التي تساعد على تقويم النزوع للتعميم، وسو الظن في نيات الذين يوجهون مصير البلاد.
وشد ما تالمنا تحدثنا يا اخي عن هذا النوع من التفكير الذي يعتبر الخنوع حكمة. ويرى الثقافة والاطلاع لا قيمة لهما اذا لم يدرك المعلمون الصفات الإنسانية للمستعمرين، ويقرروا انهم جاوا لاسعاد هذه البلاد وأهلها والأخذ بيدهم في طريق المدنية والتحضر.
فإذا نحن وجهنا النقد إلى اعمالهم، وادخلنا الشك في حسن نياتهم، قالوا عن الجيل الناشي: "إنه يشعر بقلق فكري، ويستمد الوحي من النهضات المعاصرة في البلاد المشرقية الأخرى، وهي نزعة فكرية: في أسوأ حالاتها نوع من الحسد، وفي احسن لوضاعها شعور بالطموح البالغ حد الخيال". ولهذا فالشباب في نظره:
"يتصور نفسه، في حلم اخاذ: عضوا وزعيما مرتقبا لمجتمع مستنير، وصاحب ثورة فكرية كافية تمكنه من استجاب كل وسايل المدنية ومسراتها التمتع بها. وما هو في الواقع غير موظف صغير بمرتبة بسيط ولد في وسط اجتماعي بدايي يحتقره، ومقيد في حياته المنزلية باغلال عادات عقيمة، وشاعر في قرارة نفسه، أن ثقافته قشور، واحلام صحوة واوهام، وليخفف على نفسه شعوره بالتبعية، يلجأ الي اختراع ماضي وطني مجيد ويرى نفسه بطل بعث أكثر عظمة. ولكنه لا يمكنه ان يتصور امكان انفصال مصلحة البلاد الحقة عن منافعه الشخصية المباشرة".
و مؤلف هذا رأيه في المتعلمين في البلاد، فلا غرابة في ان يرى:
"إن مستقبل السودان رهين لحد بعيد باتجاه الرأي العام السياسي في إنجلترا أكثر منه بمجريات الحوادث في السودان".
وليس بغريب عليه أن يتشكك في وجاهة الرأي القايل بإعطاء الشعوب الصغيرة حق الحكم الذاتي، فحتى هذا الوضع السياسي يستكثره على هذا الشعب، لماذا؟ :
"لانه من الشكوك فيه جدا عما اذا كان بلاد ليست لها تقاليد موثلة ولا تراث تاريخي بعيد، وما هي إلا نتاج اصطناعي للفتح الحربي والمساومات السياسية وتخيلات الجغرافيين، يحتمل ان تبلغ درجة الحكم الذاتي".
وانني لاذكر كيف قضينا ليلتنا نستعرض هذه الآراء، ونسخر من هذه العقلية الرجعية التي تدفع بصاحبها ليقلل من قيمة ادراك المتعلمين في البلاد إلى هذا الحد، ويصفهم بالغرور والوهم والنفعية، لا لشي الا لان المتعلمين عجزوا عن ادراك الصفات الممتازة لرجال السلك السياسي الذين هبطوا الأرض بعصا ساحر وقلب نبي، ليزيلوا الفقر وليرفعوا الجهل، وليسعدوا الشعب. نعجب لهذه العقلية الرجعية التي يستكثر علينا صاحبها في المستقبل البعيد حق الحكم الذاتي، وهو ما لم نرض به. ويتخيل ان هذه البلاد لا يمكن احتمال مقدرتها على حكم نفسها لأنها نتاج اصطناعي للفتح الحربي والمساومات السياسية وتخيلات الجغرافيين، وذلك بعد أن جردها من التقاليد الموثلة، والتراث التاريخي.
واذا بنا نزداد شكا في نياتهم، وتزداد بغضا لاساليبهم، ويداخلنا الريب في القيم المعنوية للثقافة البشرية، اذا كانت تنتهي باصحابها عند هذا المطاف وتوردهم هذا المورد. ولكنا سرعان ما عمدنا الي نفسية الكاتب وحللناها، فوجدناه يشكو عقابيل عقدة نفسية تدفعه إلى الشدة وتعذيب الناس والهزء بهم، فاشفقنا عليه، وعاودنا اليقين واسترددنا ثقتنا بالثقافة الإنسانية وقيمها المعنوية.
وهانذا لا ازال احتفظ بالكتابين، أجد فيهما ذكرى لا استطيع ان اقول على وجه التحديد اهي مفرحة ام مؤلمة. ولكني على كل حال أجد فيها عزا ونشوة، لعلها نشوة الألم الرفيع". انتهى.
هوامش :
* من كتاب (موت دنيا) وضعه بالاشتراك محمد أحمد محجوب ودكتور عبد الحليم محمد، وهو كتاب في السيرة الذاتية، ولعله الأول في نوعه في هذا المجال في تاريخ الأدب السوداني. صدر الكتاب لأول مرة سنة ١٩٤٦ ويتضمن ذكريات الشباب ايام الدراسة بكلية غردون وتأسيس جمعية الهاشماب وإصدار مجلة الفجر ومن بعدها النهضة، إلى ما قبل قيام مؤتمر الخريجين ونشاة الأحزاب السياسية.
** وصف ماكمايكل السودان بأنه ليس أكثر من جغرافيا، استعاره محمد حسنين هيكل، وردده من بعده بعض أصحاب الأقلام في السودان، وظني ان الكثير من المفاهيم المغلوطة التي تلقى بظلالها منذ فترة علي المشهد السياسي والثقافي في السودان مستمدة من كتابات مكمايكل، بما في ذلك ترسيخه للعنصرية الي درجة تحقيره لمجموعات اثنية سودانية كاملة ووصفه لها بالوضيعة هكذا، بلا مواربة، بسبب أصلها العرقي.
عبد المنعم عجب الفيا
٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤
abusara21@gmail.com
كتب محمد أحمد محجوب* :
"كتابان لهما في نفسي مكانة خاصة، على بعد ما بينهما من خلاف، فكاتب الأول من المشتغلين بالصحافة والسياسة في إنجلترا، وكاتب الثاني اداري قضى زهرة عمره في هذه البلاد.
موضوع الكتاب الثاني استعراض لتاريخ السودان عامة واستيعاب لتاريخ الحكم الحاضر. وليس الكتابان خير ما اقتني، ولا من خيرة الكتب التي تضمها مكتبتي. وكثيرا ما سالتني عن السر، وكنت ابدي لك جانبا منه واخفي الجانب الأهم، ولكنك هذه المرة اخذت تسالني وتلح في السؤال، ولم أجد بدا من ان اقص عليك خبرهما.
أصدر الكاتب المشهور ج. ا. اسبندر كتابا عنوانه ( الشرق المتطور) بعد أن قام في ربيع عام ١٩٢٥- ١٩٢٦ برحلة الي تركيا ومصر والهند. وسمعت عن الكتاب وذهبت الي (مكتبة السودان) لاشتري نسخة منه، وبينما انا واقف مع البايع اليوناني ادفع له الثمن واقلب صفحات الكتاب، دخل السير هرلد ماكمايكل يسال عن ذات الكتاب، فاعتذر له البايع في أدب جم، وقال له أن النسخة الأخيرة من الكتاب اشتراها هذا الشاب قبل هنيهة.
فنظر الي السير هرلد ماكمايكل نظرة حرت في تفسيرها آنذاك، ثم استأذن مني واخذ الكتاب وقلب صفحاته، وسالني في لهجة كلها الاستنكار: "وهل تقرأ وتفهم مثل هذا الكتاب". فلم اجبه، بل اخذت منه كتابي في صمت وخرجت.
قرأت ذلك الكتاب وتدبرت ما خطه اسبندر عن الغازي مصطفى كمال، وعن سعد زغلول، وعن غاندي، وسرني انه كان منصف لاوليك الرجال الذين لعبوا الدور الهام في نهضة بلادهم وتطورها. وسرني ما وصف به غاندي من مقدرة في تحدث اللغة الانجليزية، واتصاله بالفكر الأوربي رغم نزعته الصوفية وتجرده من كل ما هو غريب عن الهند.
وشاقني حديث المؤلف عن ذلك الشيخ الذي كان يطوف بطفليه على قصر تاج محل، ولما ساله اسبندر، لماذا جا بطفليه الي هذا المكان، قال له ليقبسا من عظمة الهند. فاعترضه قايلا: "ولكن تاج محل بناه احد الملوك المغول وليس اثرا هنديا". فاجابه الشيخ في كبرياء وسرعة خاطر:
"لقد جاء المغول وذهبوا والهند باقية، وجا العرب وذهبوا والهند باقية، وجا الإنجليز وسيذهبون وستبقي الهند، وكل ما خلفوا وما سيخلفون هندي يضيف إلى عظمة الهند".
قرأت هذه الفقرة وقلت في نفسي: "هلا تعلم ماكمايكل حكمة ذلك الشيخ الهندي، وعلم ان الإنجليز سيذهبون، كما جاء وذهب غيرهم، وسيبقى السودان".
ولم ترد في الكتاب عن السودان غير إشارة عابرة حيث قال المؤلف: "السودان كلب نايم ". وهي إشارة إلى المثل الانجليزي الذي يقول: " لا توقظ الكلب النايم" خيفة ان ينبح ويعض. وعندما قرأت تلك الجملة قلت لنفسي: "هلا تعلم ماكمايكل حكمة قومه وتركنا نغط في نومنا، ام هو من ذلك النفر الذين لا يهدا لهم بال الا اذا قامت الفتن واحترقت الإنسانية في اتون لا يروق لهم الا ان يكونوا قطب رحاه".
والكتاب الثاني (السودان الانجليزي المصري) لمؤلفه السير هرلد ماكمايكل، وهو مؤرخ مدقق وصاحب ذكاء وقاد، وتمتاز كتابته بالايجاز والوضوح، وقد استعرض في هذا الكتاب تاريخ السودان من أقدم العصور، ثم تعرض لحكم الحاضر بالتفصيل، فلم يترك الوضع السياسي، ولا مشكلات الإدارة الأهلية والتعليم، ولم يترك المستقبل فقد تكهن به.
ويرجع حرصي على كتابه هذا لسببين: الأول انه أعطاني مفتاح السر لفهم تهكمه علي، عندما اشتريت كتاب اسبندر عن (الشرق المتطور) وفزت به دونه. والسبب الثاني رأيه في مستقبل السودان واختلافي معه في ذلك الرأي.
رأي ماكمايكل في المعلمين، رأي سي واغلب الظن مغرض. ولا احسب ان بين المؤرخين الأجانب من وصفهم، بمثل ما وصفهم به، من قصور في الفهم ومبالغة في الوهم، وغرور يدفع صاحبه إلى أسوأ النتايج.
ويعني ماكمايكل بالمتعلمين: اوليك الذين يسكنون الخرطوم وام درمان ومثيلاتها من المدن الكبيرة، وتعلموا في المدارس الحكومية. أو شذوا واكتسبوا بوسايل أخرى اهتماما وسعة وادراك بالعالم الخارجي، سوا منهم من التحق بالوظايف الحكومية او خدمة الجيش أو من اشتغلوا بالتجارة.
وهو يقسمهم الي اجيال: الجيل المسن الذي حنكته التجارب وتلقن الحكمة في مدرسة الشدايد، واحتفظ بذكرى خالدة لقسوة عهد الدراويش، ولا يزال يذكر بالخير ما افاه سقوط ام درمان من نعمة على البلاد.
والجيل الذي كان ابناوه اطفالا في عام ١٨٩٨ واخذوا في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى يستوعبون الآراء السياسية، ولكن في تحفظ بفضل ضغط كبارهم الذين حنكتهم التجارب. ونظرا لما شهده عهد ما بعد الحرب من التوسع الاقتصادي المفاجئ، ولما قام به الساسة المصريون من نشاط سياسي عاصف، فإن الجيل الجديد الذي كان اخذا في الصعود، كان يتابع الحوادث في مصر والشرق الأدنى باهتمام زايد.
وبدأ طلاب المدارس في ذلك العهد يتصورون السودان كوحدة قومية، وسرت إليهم عدوى تزجية الفراغ وقتل الوقت بالاصطياد في مياه السياسة المضطرب، كما يفعل الوفد تماما. ويرى ماكمايكل ان جلا الجيش المصري عن السودان في أواخر ١٩٢٤، قد كشف النقاب فجأة عن حقيقة ضعف مصر، وعدم امكان الاعتماد عليها، أسفرت عن تصحيح وجهة النظر بعض الشيء، وفي ذات الوقت نزع برقع الحيا وازداد الاعتداد بالنفس والطمع الذي لا مبرر له. وانه بدأ ينمو ويترعرع في البلاد وعي قومي كنتيجة لادراك الشؤن العالمية بواسطة التعليم، الا ان هذا الشعور القومي عند السودانيين من الصعب أن تفرق بينه وبين الرغبة في الحكم والوظائف.
ليس هذا كل رأي ماكمايكل في المتعلمين.
فيبنما يرى ان تعليم اللغة الانجليزية، فتح امام المتعلمين آفاق واسعة ومتنوعة من الآداب، اذا به يقرر ان تلك الآراء والافكار لم تهضم، وعلى رغم الذكاء والتطلع لمعرفة الجديد، فقد انعدمت ملكة النقد التي تشذب الأفكار وتحفظ التوازن، ذلك لفقدان الدراسة التاريخية والاسس الثقافية التي تساعد على تقويم النزوع للتعميم، وسو الظن في نيات الذين يوجهون مصير البلاد.
وشد ما تالمنا تحدثنا يا اخي عن هذا النوع من التفكير الذي يعتبر الخنوع حكمة. ويرى الثقافة والاطلاع لا قيمة لهما اذا لم يدرك المعلمون الصفات الإنسانية للمستعمرين، ويقرروا انهم جاوا لاسعاد هذه البلاد وأهلها والأخذ بيدهم في طريق المدنية والتحضر.
فإذا نحن وجهنا النقد إلى اعمالهم، وادخلنا الشك في حسن نياتهم، قالوا عن الجيل الناشي: "إنه يشعر بقلق فكري، ويستمد الوحي من النهضات المعاصرة في البلاد المشرقية الأخرى، وهي نزعة فكرية: في أسوأ حالاتها نوع من الحسد، وفي احسن لوضاعها شعور بالطموح البالغ حد الخيال". ولهذا فالشباب في نظره:
"يتصور نفسه، في حلم اخاذ: عضوا وزعيما مرتقبا لمجتمع مستنير، وصاحب ثورة فكرية كافية تمكنه من استجاب كل وسايل المدنية ومسراتها التمتع بها. وما هو في الواقع غير موظف صغير بمرتبة بسيط ولد في وسط اجتماعي بدايي يحتقره، ومقيد في حياته المنزلية باغلال عادات عقيمة، وشاعر في قرارة نفسه، أن ثقافته قشور، واحلام صحوة واوهام، وليخفف على نفسه شعوره بالتبعية، يلجأ الي اختراع ماضي وطني مجيد ويرى نفسه بطل بعث أكثر عظمة. ولكنه لا يمكنه ان يتصور امكان انفصال مصلحة البلاد الحقة عن منافعه الشخصية المباشرة".
و مؤلف هذا رأيه في المتعلمين في البلاد، فلا غرابة في ان يرى:
"إن مستقبل السودان رهين لحد بعيد باتجاه الرأي العام السياسي في إنجلترا أكثر منه بمجريات الحوادث في السودان".
وليس بغريب عليه أن يتشكك في وجاهة الرأي القايل بإعطاء الشعوب الصغيرة حق الحكم الذاتي، فحتى هذا الوضع السياسي يستكثره على هذا الشعب، لماذا؟ :
"لانه من الشكوك فيه جدا عما اذا كان بلاد ليست لها تقاليد موثلة ولا تراث تاريخي بعيد، وما هي إلا نتاج اصطناعي للفتح الحربي والمساومات السياسية وتخيلات الجغرافيين، يحتمل ان تبلغ درجة الحكم الذاتي".
وانني لاذكر كيف قضينا ليلتنا نستعرض هذه الآراء، ونسخر من هذه العقلية الرجعية التي تدفع بصاحبها ليقلل من قيمة ادراك المتعلمين في البلاد إلى هذا الحد، ويصفهم بالغرور والوهم والنفعية، لا لشي الا لان المتعلمين عجزوا عن ادراك الصفات الممتازة لرجال السلك السياسي الذين هبطوا الأرض بعصا ساحر وقلب نبي، ليزيلوا الفقر وليرفعوا الجهل، وليسعدوا الشعب. نعجب لهذه العقلية الرجعية التي يستكثر علينا صاحبها في المستقبل البعيد حق الحكم الذاتي، وهو ما لم نرض به. ويتخيل ان هذه البلاد لا يمكن احتمال مقدرتها على حكم نفسها لأنها نتاج اصطناعي للفتح الحربي والمساومات السياسية وتخيلات الجغرافيين، وذلك بعد أن جردها من التقاليد الموثلة، والتراث التاريخي.
واذا بنا نزداد شكا في نياتهم، وتزداد بغضا لاساليبهم، ويداخلنا الريب في القيم المعنوية للثقافة البشرية، اذا كانت تنتهي باصحابها عند هذا المطاف وتوردهم هذا المورد. ولكنا سرعان ما عمدنا الي نفسية الكاتب وحللناها، فوجدناه يشكو عقابيل عقدة نفسية تدفعه إلى الشدة وتعذيب الناس والهزء بهم، فاشفقنا عليه، وعاودنا اليقين واسترددنا ثقتنا بالثقافة الإنسانية وقيمها المعنوية.
وهانذا لا ازال احتفظ بالكتابين، أجد فيهما ذكرى لا استطيع ان اقول على وجه التحديد اهي مفرحة ام مؤلمة. ولكني على كل حال أجد فيها عزا ونشوة، لعلها نشوة الألم الرفيع". انتهى.
هوامش :
* من كتاب (موت دنيا) وضعه بالاشتراك محمد أحمد محجوب ودكتور عبد الحليم محمد، وهو كتاب في السيرة الذاتية، ولعله الأول في نوعه في هذا المجال في تاريخ الأدب السوداني. صدر الكتاب لأول مرة سنة ١٩٤٦ ويتضمن ذكريات الشباب ايام الدراسة بكلية غردون وتأسيس جمعية الهاشماب وإصدار مجلة الفجر ومن بعدها النهضة، إلى ما قبل قيام مؤتمر الخريجين ونشاة الأحزاب السياسية.
** وصف ماكمايكل السودان بأنه ليس أكثر من جغرافيا، استعاره محمد حسنين هيكل، وردده من بعده بعض أصحاب الأقلام في السودان، وظني ان الكثير من المفاهيم المغلوطة التي تلقى بظلالها منذ فترة علي المشهد السياسي والثقافي في السودان مستمدة من كتابات مكمايكل، بما في ذلك ترسيخه للعنصرية الي درجة تحقيره لمجموعات اثنية سودانية كاملة ووصفه لها بالوضيعة هكذا، بلا مواربة، بسبب أصلها العرقي.
عبد المنعم عجب الفيا
٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤
abusara21@gmail.com