التوم والعون

 


 

د. عمر بادي
10 April, 2009

 

مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )

 

دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003

 

ombaday@yahoo.com

 

 

د. عمر بادي

   من منكم لا يعرف ( تيمان عطبرة ) الثنائي الطروب الذي تغنى بأجمل الأغنيات ! هما توأم سيامي من بويضة ملقحة واحدة منقسمة على إثنين ، إسمهما حسن وحسين ، ويضرب العامة بهما المثل في شدة الشبه منذ أن ظهرا في أجهزة الإعلام أول مرة ، التوم حسين كان يعمل معنا في محطة توليد كهرباء الخرطوم بحري الحرارية ، والتوم حسن كان يعمل في قسم توزيع الكهرباء في رئاسة الهيئة القومية للكهرباء . كانا لشدة شبههما يلعبان أدواراً ضاحكة مملوءة بالمقالب في الآخرين ، فهما يتصفان بخفة الدم ، وأحياناً يكون أحدهما ضحية ممازحة الآخر لـه ، ففي مرة حضر التوم حسن إلى المحطة وقلّما كان يحضر ولكنه في ذلك اليوم علم بقدوم الصرّاف من الرئاسة لصرف رواتب العاملين بالمحطة فكان من أوائل المتقدمين لصرف راتبه على أساس أنه حسين ولم يبرز بطاقته بحجة أنه قد نسيها في بيته ولم يكن ذلك مطلوباً فالجميع يعرفونه فصرف راتبه وذهب .. بعد ذلك حضر حسين الأصلي ليستلم راتبه فأخبره الصراف ضاحكاً أن يترك المزاح لأن هذا غير أوانه ، وضحك حسين وطلب من الصراف أن يترك هو المزاح ، ولكن طار عقل حسين عندما رأى الصراف جاداً ، وصار كل منهما يقسم بأغلظ الأيمان أنه الصادق في قوله ، وتدخل الشهود فمنهم من قال إنهم قد شاهدوا التوم حسين في غرفة صرف الرواتب يستلم راتبه مبكراً ، ومنهم من قال إن التوم حسين كان مع السواقين في مكتبهم لم يبرحهم قط منذ الصباح ، وتعقد الأمر ووصل إلى الإدارة العليا وإحتار الجميع في من هو الصادق ، فالتوم حسن كان غير معروف للصراف أو لمعظم العاملين ، ولم تحل هذه المعضلة إلا عندما إتصل التوم حسن بالتوم حسين و إعترف له بكل شيء! أذكر في مرة تحركت بسيارتي من محطة الكهرباء بالخرطوم بحري قاصداً رئاسة الهيئة بحي المقرن بالخرطوم وقبل مغادرتي المحطة قابلت التوم حسين وبادلته التحية ، وعند وصولي لرئاسة الهيئة رأيت التوم حسين في أحـد المكاتب فسألته مستغرباً :(( متين وصلت بالسرعة دي ؟)) ، فأجابني بكل جدّية :((ما نحن حافظين الشوارع وبنتخارج من الزحمة)) ، لكنني و بعد أن قضيت غرضي وعدت إلى محطة الكهرباء قابلت التوم حسين داخل المحطة فإزداد عجبي وإستغرابي وقلت له:(( الله ، إنت بتسوق عربية ولا طيارة ؟)) فسألني عمّاذا أتكلم ، فرويت له ما كان ، فضحك كثيراً ثم قال لي:(( تكون قابلت التوم حسن فأنا ما مرقت من المحطة ، ودي من مقالبه )) ، فهما يلبسان زي الهيئة الموحد وشكلهما وطولهما وحجمهما واحـد .. وقد سمعت من بعض الظرفاء أن أمـهما لا تستطيع أن تفرّق بينهما !!.    كنت حينذاك رئيساً للجنة الكافتيريا في محطة الكهرباء ، وكان التوم حسين عضواً في اللجنة . كانت الكافتيريا تقدم خدمات الإفطار والمبردات للعاملين بالمحطة والذين يصل عددهم إلى الخمسمائة ، وكان يتولى الإشراف على الكافتيريا متعهد خارجي يعمل بواسطة عقد إتفاق مع اللجنة بأن يتكفل بتوفير المأكولات والمشروبات بأسعار مناسبة على أن توفر له المحطة كل المعدات والأجهزة والأثاثات والماء والكهرباء مجاناً ، ولكن المتعهد صار يتقدم بطلبات لزيادة أسعار المأكولات والمشروبات بين كل فينة وأخرى متعللاً بإرتفاع أسعار البقوليات واللحوم والخضروات والزيوت والخبز والسكر ، وعندما تكرر تغيير المتعهدين وتكرر عدم إلتزامهم بالعقد ، قررنا أن نستلم الكافتيريا ونتولى تشغيلها والإشراف عليها عن طريق العون الذاتي . كان أحد الفنيين يعمل في المساء في أحد فنادق الدرجة الأولى وقد إجتاز دورات في الفندقة والطبخ ، فكان الطباخ المشرف على الكافتيريا يساعده آخرون ، ولكي يكون مستوى المأكولات ممتازاً بدون أي تدهور إخترنا شخصاً ذا ذائقة  طعمية رائعة ليكون في وظيفة (ذواقة المأكولات اليومية) وكان ذلك الشخص هو التوم حسين فقد كان حقاً ذا ذوق رفيع وفنان! وهكذا إستمرت الكافتيريا في مستوى ممتاز تقدم المأكولات والمشروبات بأسعار أقل بكثير مما كان قبل ذلك وصارت الأرباح تستعمل في تقليل أسعار المأكولات وفي عمل برامج ترفيهية للعاملين تقدم فيها الحلويات والفواكه مجاناً..    نفس هذا المبدأ إنتهجناه في تشجير محطة الكهرباء ، وقد كنت رئيس لجنة إصحاح البيئة وكانت المحطة لا تسمح إلا بمبلغ بسيط من بند الخدمات وإتفقنا مع مشتل الغابات وبعض المشاتل الخاصة لتحديد قيمة التشجير وكان المبلغ الكلي يعادل بضعة ملايين من الجنيهات ، والمبلغ الموجود في بند الميزانية كان أقل من ربع هذا المبلغ ، وفكرت في الحاويات (الجركانات) البلاستيكية الفارغة التي كانت تملأ ساحة المخزن والتي كانت تستورد ملأى بالمواد الكيميائية التي تستعمل في معالجة المياه ، وبعد أن تفرغ من محتوياتها كانت تقبع بالمخزن وأحياناً توزع منها كميات بمعدل جركانة لكل عامل لإستعمالها في حفظ المياه في المنازل ، وقد قمنا بجولة تفقدية في الأسواق وعرفنا سعرها في السوق ، وإقترحنا على المشاتل أن ندفع لهم جزءاً من قيمة التشجير نقداً (كاش) وأن ندفع لهم بهذه الجركانات بدلاً عن النقد المتبقي على أن نحاسبهم بسعر كل جركانة أقل من سعر السوق حتى نغطي لهم ربحية بديلة عن جهدهم لتصريف هذه الجركانات ، وقد وافقوا.. وتم تشجير المحطة على أحسن ما يكون بواسطة أشجار من أجود الأنواع المعروفة ، بجانب تنجـيل ميدان الإدارة . أما الجركانات التالفة فقد تم قصها من أعلى وملئها بالتربة حتى تشتل عليها شجيرات الزهـور على جانبي الممرات . أما السقاية فكانت بواسطة صهريج ماء قديم كان ملقي في المخزن وضعناه على مقطورة لنقل المعدات يجرها جرار ، وكان التوم حسين منشرحاً من فعل التشجير وشغوفاً أن يجلب له النجاح فكان يتطوع كثيراً لقيادة الجرار لسقاية الأشجار ، بينما هو يترنم لنفسه بأجمل الأغنيات..                                              صحيفة (الخرطوم) - 14/4/2001م  

 

آراء