شتـات يا ( فردة )
د. عمر بادي
12 April, 2009
12 April, 2009
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
د. عمر بادي
لي عربة ، أجاركم الله ، كثيرة العلل قليلة العافية ، جعلتني أطوف بها مراراً في المنطقة الصناعية طالبا لها الشفاء والقوة ، فتعرفت بسببها على إخوة أعزاء في محلات قطع الغيار وورش الميكانيكيين والكهربائيين ، وكانت هذه لعمري محمدة لها إذ وجدت بينهم إخوة شرفاء لا زالوا متمسكين بالأخلاق السودانية الأصيلة . في كل المجتمعات في العالم نجد لكل مجموعة متجانسة مترابطة بعض المصطلحات أو الكلمات يتداولونها فيما بينهم ويأولون معانيها في شبه إتفاق بينهم ، ومعرفة هذه الكلمات والنطق بها يكون أحيانا دليلا علي إنتماء الفرد لهذه المجموعة أو تلك , وأيضا تكون تلك الكلمات لغة سرية بينهم يلجأون إليها أمام الغرباء حتي لا يتضح ما يريدون قوله. هنا خطرت بذهني لغة عمال الموانئ بإنجلترا ولغة مزارعى الكلخوزات في روسيا ولغة جنود الماريـنز واليانكي في أمريكا.. عندنا أيضا في العالم العربي أمثلة كهذه ، إليكم مثلا لغة المجرمين والخارجين علي القانون في الأفلام والمسلسلات العربية خصوصا المصرية منها , ويحضرني هنا فيلم (الكيف) الشهير الذي شاهدته قبل حوالي العشرة أعوام والذي تطرق بجرأة إلى موضوع المخدرات وما تجره من ويلات إجرام وعواقب وخيمة ولا زلت أذكر تعابير اللغة الخاصة المتداولة في ذلك الفيلم مثل (الأليصطا) و(الطرابولي) و(الشنطة في الأونطة) .. الخ . أما عندنا في السودان فقد إشتهر الصبية المتشردون (الشماشة) بلغة خاصة بهم يتداولونها فيما بينهم ويجابهون بها المجتمع وما به من عدم أمان لهم ، وقد نشرت الصحف دراسات إجتماعية كثيرة عنهم وعن لغتهم تلك . أذكر قبل أيام أنني كنت مدعواً إلى حفل عرس وعند إقترابي من الحفل شاهدت عدداً من الصبية المتشردين يتحاومون على مسافة منه وهم يتوجسون خيفة , فسألتهم عما بهم فأجابوني بجملة تدل على أن شخصاً ما قد طردهم , فاستفسرت منهم:((قلتوا منو طردكم؟)) هنا إستدركوا وأجابوا:((الحارس طردنا)) . فعرفت أن ردهم الأول لي كان بلغتهم الخاصة ! لقد منعوهم من إلتقاط فتات أطباق العشاء. هنا تذكرت تصرف صاحب حفل عرسٍ آخر كنت قد حضرته قبل أشهر ، لقد إتفق ذلك الرجل مع هؤلاء الصبية المتشردين أن ينظفوا أنفسهم ويلبسوا أحسن ما عندهم ثم يأتوا ليساعدوا (السفرجية) في توزيع وجمع أطباق العشاء وزجاجات المشروبات الباردة للمدعوين , وكل ما تبقى من طعام لهم , وقد كانوا في تلك الليلة مثار إعجاب الجميع لنشاطهم وتفانيهم.. أعود لموضوعي ، في زياراتي الأولى للمنطقة الصناعية كنت أجلس مع الإخوة الميكانيكيين في إنتظار إصلاح العربة وكنت أسمع ما لا أفهمه ، يأتي زميل لهم راكبا عربة فارهة ويحييهم فيجيبونه :((شتات يا فردة ، وين مفحّط؟)) فيرد: ((معزومين غداء)) ، فيسألون: ((طيب ما تجّرنا ؟)) ، فيرد: ((بالله هوي لا أجركم لا أقطركُم كمان دايرين تنحلوا(بكسر الحاء المشددة) ؟)) ، فيواصلون : ((يا زول بخيت عليك فحط براك بس ناولنا شرتيت )) ، فيناولهم بعض الجنيهات وينصرف . في مرة أخرى يلتفت أحد الميكانيكيين المساعدين إلى معلمه قائلا: ((ياريس دايرين كنجالات)) , فيسأل المعلم: ((كم ؟)) فيجيب: ((حمراء)) , فيرد المعلم : (( ولا حتى دينارية مافي , أديك حق الصعوط ؟ إنت ما شايف دفع السيد لسه ما كحّ؟ ماتستنى لحدي ما يكح)) , وعندما (كحيت) وناولته ما رأيته مناسباً قال لي المعلم : ((صلّح لينا يا باش ، دا ما بخارج)) , فصلّحت له . بعد ترددي على المنطقة الصناعية إستطعت أن أفك رموز هذه اللغة وعرفت معانيها .. أما أنت قارئي العزيز فعليك بمعرفة هذه اللغة بنفسك وحبذا لو كانت لديك عربة كثيرة العلل قليلة العافية ، وشتات يا فردة .. صحيفة (أخبار اليوم) – 11/12/1995م