المِكَجّنو خاف الله فيه … بقلم: محمد موسى جبارة

 


 

 

مثل عامي سوداني يُقصد به "أن كنت تكره شخصاً فلا تجرده مما لديه من حسنات".كثيرون هم الذين لا يحبون الدكتور حسن الترابي بل منهم من لا يطيق سماع سيرته... بعض منهم كان يضعه في موضع القداسة ويعتبره إلها قبل أن تفتنهم السلطة وتصبح إلههم الواحد القهار فأضحوا لا بنعمة من الله وفضله يعتبرونه الشيطان الأكبر مستحق الرجم في رابعة النهار...آخرون لم يطيقونه منذ أن اقتحم النطاق السياسي عقب أكتوبر 1964.الرجل لا يمكن وصفه إلا بالمثير للجدل، إلا أن تلك الصفة ليست بالضرورة سلبية، فقد تعني ديناميكية الحركة لدى الموصوف بها...غير أن هذا الجدل المثار حول د. الترابي يجب أن يتوقف الناس برهة لديه.فرغم اختلاف الرأي حوله إلا أن لا أحد يستطيع أن ينكر الشجاعة التي يتمتع بها وجرأته في إبداء رأيه واتخاذ المواقف التي يؤمن بها...قلت هذا الكلام على صفحات جريدة الشرق الأوسط عندما أقدم حزبه على توقيع مذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية، الشيطان الأكبر وقتذاك قبل أن تصبح الحليف والشريك في الحكم.وقتها لامني البعض على مدحي للرجل مع أن تلك المذكرة هي التي سرّعت بتوقيع اتفاقية نيفاشا التي كانت الحكومة تتلكأ في انجازها... ولأن تأثيره ما زال باقيا على حوارييه فقد اعتبروا توقيعه لمذكرة التفاهم بمثابة ضوء أخضر للمضي قدما في التفاوض، فالرجل رغم كل شيء، يظل في عقلهم الباطن مرجعية لهم...وكما ذكرت في ذلك المقال فلدى د. الترابي الشجاعة للاعتراف بالخطأ وهو أمر لم يجرؤ على فعله أي من سياسيينا المنزهين عن الخطأ، ولم نسمع اعتذارا عن السنوات الستين التي تدهور فيها حال السودان إلى هذا الدرك السحيق من التخلف بفضل من تولوا الحكم طيلة تلك السنوات، بل ظللنا نسمع دوما بأن ما يحدث في السودان ما هو إلا بعض من مؤامرات الاستعمار حديثه وقديمه...مع أن لولا هذا الأخير لما كنا تلقينا كل ذلك التنوير والتعليم والتحديث الذي حصل بالسودان في فترة الحكم البريطاني...ليس المطلوب من دكتور حسن الترابي تبرئة نفسه مما حدث بعد الثلاثين من يونيو 1989، لأنه كعراب للنظام لا يستطيع أن يفعل ذلك، فالمسئولية تضامنية جلس هو على رأس هرمها...عليه للتصالح مع الشعب السوداني أن يطلعه على كيفية حدوث كل الذي حدث من انتهاك صارخ لآدمية السودانيين، كيف مات الناس تحت التعذيب؟ ولماذا تم تديين الحرب الأهلية في الجنوب؟ ثم نزع صفة الشهادة عن الذين سقطوا فيها بعد أن زوّجهم هو بنفسه من بنات الحور؟ وما هو تبريره لتشريد كل أولئك البشر ودفعهم إلى المنافي؟ هل كان يعلم بكل ذلك وصمت، أم أن الأمور كانت تدار من خلفه؟ لا يشك المرء في أن الأجهزة الأمنية لديها المقدرة على تعتيم الأمور على القادة السياسيين، لكن كيف يسمح رجل سياسة حصيف بأن يسيطر عليه جهاز أمن دون رقابة فعالة على ذلك الجهاز حتى وإن كان منسوبوه من تنظيمه السياسي؟أعلم تماما أن د. الترابي لم يكن على علم بمحاولة إغتيال الرئيس حسني مبارك، وقد نقلت تلك المعلومة التي وصلتني وقتها من مصدر اثق به للأستاذ فاروق ابو عيسى الذي لم يصدقني لشكه الدائم وكل قوى اليسار في كل ما يقوله د.الترابي...غير أن الصدفة جمعت بين ابو عيسى وعمرو موسى وزير الخارجية آنذاك في طائرة في طريقها من زيوريخ إلى القاهرة...كانت دهشة ابو عيسى في أن عمرو موسى كان على علمٍ بتلك الحقيقة وبتفاصيل الموضوع، غير أن رأس الترابي كان هو المطلوب، اما البقية ف "شوية عيال مقدور عليهم"، وقد كان.قبل تسويق مبادرته التي نحن بصدد الحديث عنها، على دكتور الترابي أن يؤكد دون شك معقول بأن حوارييه الحاليين أو الذين سينضمون للزفة بعد أن باعوا الدين بالدولة، لن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل.ليس مطلوب من دكتور الترابي غير ما ذكرت، بعدها ليس هناك ما يمنع من قبول ما يأتي به من مبادرات فهي في حقيقة أمرها مبادرات شجاعة وتستحق التعامل معها بصورة جادة بعيدا عن العواطف...فالفضاء السياسي كالشارع العام يستغله الجميع، وليس بالضرورة أن تحب من يشاركك فيه، فقط عليك أن تتعامل مع كل من يستغل هذا الشارع لجعل الحركة تنساب...قبل ما يزيد على السنة اتصل بي صديق أمريكي أعتاد أن يشاورني في أمور السودان...قال أن هناك شخص يوجد حاليا في المنطقة وأريدك أن تتحدث إليه...التقيت الرجل ولم يكن يحتاج لتعريف به...على طاولة العشاء في فندق الريتز بالبحرين تحدثنا عن الشأن السوداني ثم عرج بي نحو البدائل الممكنة للحكم في الخرطوم...وبعد أن استبعد كل الخيارات المطروحة من قيادات أحزاب سياسية وتجمعاتها المختلفة قال الرجل: يبدو في الأفق أن حظ دكتور حسن الترابي هو الأوفر في كسر الجمود في العلاقات السودانية الأمريكية، لأنه حسب زعمه يمتاز بوضوح رؤية تمكننا من التعامل معه أكثر من غيره، كما أنه المعارض الحقيقي الوحيد الذي يمتلك مصداقية في الوقت الحاضر...سألته: هل هذا رأي الإدارة الأمريكية؟قال: أنا استطلع أراء السودانيين لذا أنا معك هذا المساء...كنت قبل ذلك، وبتوصية من ذات الصديق، أحد الذين التقاهم هاري جونسون المبعوث السابق للرئيس كلينتون...في ذلك اللقاء تأكدت بأن الإدارة الأمريكية لم تكن ترغب في فصل جنوب السودان عن شماله لأن هذا الأمر كما عرفت من الرجل يقتضي بناء إستراتيجية جديدة متكاملة مبنية على معطيات ما زالت في رحم الغيب...نشرت هذا الكلام في الصحف وكان رأيا مضاداً للتيار الشعبوي السائد وقتذاك والقائل بأن أمريكا تريد فصل جنوب السودان، وهو تيار أفرزته ضرورات التعبئة لحرب الجنوب...في هذه المرة يمكنني القول رغم تغيّر الإدارة الأمريكية، بأن الولايات المتحدة لا ترى أي مستقبل للأحزاب السياسية السودانية ولا زعاماتها التي فشلت على مدى عشرين عاما في بلورة رأي عام شعبي تستطيع به خلخلة النظام الحالي سلماً أو انتفاضاً...الشخص الوحيد الذي اثبت أنه المعارض الحقيقي والشجاع في مجابهة النظام هو خالق النظام نفسه، د. حسن الترابي...هذا بالطبع إذا تركنا جانبا نظرية المؤامرة التي تقول أن الأمر برمته مسرحية أحسن كتابة فصولها "الكيزان" ليكون أحدهم بديلا للآخر...كنت أتمنى أن تكون تلك هي الحقيقة لأنني كنت سأفخر بأن في السودان من يفكر بهذا الأفق السياسي المتطور وهذا التفكير الإستراتيجي العميق، وإلا ما كان حالنا كما نحن عليه اليوم...استلام السلطة في يونيو 1989 كان عملا عبثيا بكل المقاييس ولم يكن فيه أي خيال سياسي ولا يمكن أن يرقى من قاموا به إلى ذلك المستوى من التفكير بعيد النظر، وكذا يمكن تقييم فصال الرابع من رمضان، والنتيجة ما نراه اليوم من سوء إدارة في كل شيء بما في ذلك سد مروي المحتفى به.السياسيون السودانيون كاللصوص لا يفكرون إلا في الغنيمة المتاحة، أما أن يفكروا بصورة إستراتيجية وبمنهج مستقبلي فذلك أمر لم نعرفه ولن نعرفه في السياسة السودانية...فما زالت الإنقاذ تدير البلاد بسياسة رزق اليوم باليوم ولا يختلف عنها معارضوها في ذلك.أذكر أنني قلت لصديق في أحد الأحزاب التى تُسمى مجازا كبرى، أنني بصدد تكوين نواة سياسية تضم أعضاء مميزين من كافة الأحزاب ممن يفكرون بصورة إستراتيجية نتوافق على حدها الأدنى حتى نتمكن من احتواء الأزمات حال وقوعها...كل في حزبه بحيث تستطيع هذه النواة رفد الاحزاب برأي عام متجانس...هي ليست جهاز استخباراتي لكنها استعادة للفرصة الضائعة التي حاول سير دوغلاس نيوبولد أن يصنع منها لُحمة للعمل السياسي المستقبلي عندما دعم فكرة مؤتمر الخريجين...خريجو جامعة الخرطوم أُريد لهم أن يلعبوا الدور الذي يلعبه في الوقت الحاضر خريجو الجامعات العريقة في العالم...أكسفورد وكمبردج في بريطانيا، وهارفارد وييل وبرنستون في أمريكا والمعهد الوطني للإدارة في فرنسا...هذه المؤسسات تخلق قادة المجتمع ليس اكاديميا فقط بل في نمط السلوك وطريقة التفكير والتعامل مع حادثات الأمور وفي التشاور وتقريب وجهات النظر وإن اختلفت الانتماءات السياسية والحزبية...كما أنها معين لا ينضب لرفد المجتمع بالخبرات والكفاءات المهنية ذات الاداء العالي التي يحتاجها السياسيون لتنفيذ مشاريعهم السياسية.بلدان أخرى لها مؤسساتها التي تساعد في بناء اللُحمة الوطنية...يمثلها في سويسرا قادة الجيش والمحامون ورجال البنوك، ولأن على كل سويسري تأدية الخدمة العسكرية حتى سن الخمسين من عمره فإن كثيرين من قادة هذا التحالف المهني يلتقون في الخدمة العسكرية اثناء تأدية خدمتهم الإلزامية السنوية...تلك النوى والخلايا تُشكّل رابط حقيقي بين أجزاء المجتمع وتجنبه الكثير من العثرات وتخلق رأي عام موحد حول المشاكل الكبرى التي ينبغي أن يتوحد الوطن حولها بحيث لا تكون عرضة للمزايدات او تسجيل المواقف وانتهاز الفرص...طرحت تلك الرؤية لأنني على المستوى الشخصي ما زلت على علاقة وثيقة مع معظم زملاء دراستي من السياسيين الحاليين...التقيهم وأشاورهم وأشير عليهم في أمور كثيرة قد يأخذون بها او يتركونها...صديقي هذا لم يستوعب الفكرة بل اعتبرها تفكير ماسوني يراد بها السيطرة على الأمور في السودان...فإن كان هذا تفكير ذلك القيادي الحزبي، فمن أين يكون للسودان أناس يفكرون بطريقة المؤامرة التي ننسبها للجبهة الأسلامية؟على كلٍ يبدو أن أزمة السودان ازدادت تعقيدا لم يجد المبعوث الأمريكي سكوت قريشن عناء في تشخيصه في فترة وجوده القصير في السودان، فعّبر عن ذلك بقوله: "وجدتهم يعلمون تماما خطورة الموقف وضرورة معالجته بالسرعة المطلوبة"...معرفة الداء هي الطريق إلى الدواء...غير أن هذه السرعة المطلوبة لا ينبغي أن تشمل تصريحات نافع النارية بأن "حوارنا مشروط بعدم المساومة بالقضية او القبول بالدونية"، وكأن الرجل يحكم دولة كبرى وليس سودان الإنقاذ الذي تدخله طائرات مجهولة وتدمر به عتادا حربيا ليس مرة واحدة فقط، بل ثلاث مرات على الأقل...لذا يبدو أن القوم لن يستوعبوا المبادرة الأمريكية التي تتحدث عن منبر تفاوضي تحت الرعاية الأمريكية الكاملة يحل المشكلة في خلال ستة أشهر من الآن...عدم الاستيعاب ليس بسبب نقص في الفهم بل بسبب الإرتهان لشعارات شعبوية لم ترى في أمريكا إلا المساند لإسرائيل، وليس الدولة الكبرى التي تمتد مصالحها عبر المعمورة بكاملها...المبادرة الأمريكية تتقاطع مع مبادرات أخرى تتفق جميعها على أن هذا النظام اصبح مأزوما بدرجة كبيرة بعد مذكرة توقيف الرئيس رغم تظاهره بغير ذلك...وقد أحس كثيرون من داخل النظام بالعبء الذي عليهم أن يتعاملوا معه وهو عبء يشبه مرض الموت، ليس لك فيه إلا انتظار حتفك...من بين هذه المبادرات ما سمعناه عن مبادرة مصرية تقوم على توليفة للحكم من الميرغني، على عثمان والحركة الشعبية تتولى إدارة البلاد وتعمل على خلق اسس جديدة للحكم تقوم على فيدرالية حقيقية تمكّن سكان الأقاليم من حكم انفسهم بأنفسهم...مشكلة هذه المبادرة أنها تأتي من المصريين الذين لا يمكن الركون لمعقوليتهم في التعامل مع الشأن السوداني، لذا تظل مبادرة فطيرة تنتقص من حق آخرين في المشاركة...المبادرة الأخرى هي تلك التي طرحها د. حسن الترابي والتي تشمل كل ما يطالب به المجتمع المدني السوداني من اصلاحات شاملة في قضايا الحريات وتحقيق السلام والعدالة وإجراء الإصلاحات السياسية والقانونية التي تعززها مع اتخاذ تدابير المساءلة ومحاصرة الفساد وتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات حرة نزيهة...اما مشكلة دارفور فقد ذكرت المبادرة "إن الأوفق أن ينشأ إقليم لدارفور بحدود 1956 وتقوم عليه حكومات بصلاحيات وسلطات أصيلة تنسيقية بالدستور وأن يعين نائب لرئيس الجمهورية من دارفور على مستوى المركز". كما رهن د.الترابي "تحقيق العدالة في داخل البلاد بإلغاء الحصانات عن المسئولين" كل ذلك تحت ظل حكومة انتقالية تمثل الوطن وتكون مرجعا للإجماع الوطني وتكون مهمتها الخروج بالبلاد من الأزمة الحالية...الترابي لم يقل أنه يريد أن يرأس هذه الحكومة أو يسيطر عليها بل رأى أن يكون غالب من يشاركون في الحكومة الإنتقالية من الذين لن يشاركوا في الإنتخابات لضمان حيادهم...اكثر من ذلك فقد حدد د. الترابي أمر مهم آخر وهو "إن لم يستجب المؤتمر الوطني فإن الرأي العام السوداني إذا أراد شيئأ فلا بد أن يستجيب القدر"...المؤتمر الوطني لن يستجيب للمقترح، ليس فقط لأنه جاء من حسن الترابي بل لأن السلطة اصبحت دينهم الذي يدينون له وأضحت اتفاقيات نيفاشا التي لا يحترمون نصوصها إلا عندما يتعلق الأمر بهم، كعب أخيل الذي يتعلقون به، فلا بد إذن أن يتسجيب القدر...غير أن الشعب السوداني لن يتحرك دون قيادة ومعرفة مآل تحركه....لقد علق الترابي الجرس على رقبة القطة، وعلى القيادات السياسية التي استمرأت الدعة والخوف من تصريحات مسئولي الأمن أن تمشي خلف الترابي أن كانت تخشى من أن تتقدم الصفوف، على الأقل لضمان انتخابات نزيهة يمكن أن تأتي بها للحكم مرة أخرى، فالرجل أثبت أنه لا يخاف من حوارييه، بل ليس لديه ما يخسره بعد هذا العمر الطويل من العمل السياسي... 

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون{ صدق الله العظيم

محمد موسى جبارة

 mmusa25@hotmail.com18 ابريل 2009

 

آراء