تعديلات وزارية مفهومة

 


 

 

جمال عنقرة

 

          كثير من التعديلات الوزارية التي تجريها حكومة الإنقاذ لا يعرف الناس مغزاها ومعناها مهما بذلوا من جهد وعملوا من اجتهاد. ولكن التعديل الوزاري الأخير كانت أكثر دلالاته واضحة. فالذين انتقلوا من مكان لآخر كان انتقالهم مفهوماً، فخرج عما كان يسخر به بعض منتقدي الإنقاذ بأنها ليس لها (discard) أو (بايظ) وبذات لغة الكوتشينة فإنها في هذه الحالة غيرت مواقع الجواكر وأحسنت استغلالهم لمصلحة (الورق). وأفتي حيث أعلم. وبعض الذين حركوا معرفتي بهم لصيقة عامة وخاصة وممتدة لعشرات السنين وهم من أقف عندهم في هذا التغيير. وأشير في ذلك لثلاثة أصدقاء تمتد علاقتي معهم في أدني حالاتها لثلاثة عقود، وهؤلاء الثلاثة هم الأستاذ أبوكلابيش والدكتور المتعافي والبروفيسور الزبير بشير طه.

 

          وعندما اندمج تحالف قوي الشعب العاملة بقيادة الرئيس الأسبق جعفر نميري في المؤتمر الوطني، وتم ترشيح الأخ أبوكلابيش وزير دولة بوزارة التربية والتعليم، فعلي الرغم من أن أبوكلابيش كان من الأساتذة المميزين، لكنني كنت أتمني لو أنه عين في ولاية شمال كردفان حيث تعاني الإنقاذ كثيراً هناك. ولا أقدح هنا في حق الإخوة الإنقاذيين من أبناء الولاية ولكن أكثرهم يسر لغير هذا المهمة، وشأن بعضهم مثل شأن أبي ذر الغفاري لا يدانيه كثير من الصحابة في الزهد والورع إلا أن حظه في مؤهلات الحكم ضعيفاً. أما أبو كلابيش فهو من الذين خلقوا لذلك. وكثيراً ما استشهد بقصة والده عمنا الناظر أحمد أبوكلابيش مع الدكتور جعفر محمد علي بخيت أول عهد مايو عندما زارهم في ديار حمر في رفقة الرئيس نميري فقال الناظر للدكتور (البلد دي كلها كنا حاكمنها انا والخفير ده، تسووا الناس كلهم حكام وتخلوني أنا والخفير قاعدين ساكت؟) وتجربة أخونا أبوكلابيش في الحكم خلال فترة مايو كانت زاهرة، وهو قد حكم بالعلم والفطرة، وهو جزء من مجتمع كردفان لم ينفصل عنه عندما كان حاكم ولم ينفصلون عنه بعد نزع الحكم منهم. وها هو قد أعيد لهم وهو كما هو. يعرفهم ويعرفونه وهو منهم وهم منه. ويكفي أنه هلالابي يحترمه المريخاب، وحمري يحبه الجوامعة، وهو الذي أصلح بين الفاتح بشارة والمنا الزين بطرفه. ولنا معه قصص وحكايات أطرف وأعمق كلها تجعله الأهل لأن يعود لحكم أهله.

 

          أذكر عندما كان الأخ الدكتور عبد الحليم المتعافي محافظاً لمحافظة البحر الأحمر قبل أن تصير ولاية في أوائل التسعينات، ذهبت مرة إلي هناك لإقامة معرض للكتاب ومهرجان ثقافي، وكان المتعافي قد أحدث ثورات عديدة في المدينة ونواحيها المختلفة القريبة والبعيدة، وكان المعارضون للإنقاذ يتربصون به لاصطياد أخطائه، وكذلك كان يفعل بعض أبناء المنطقة ذات الشيء، إذ جاءهم المتعافي من بعيد. وفي واحد من مجالسهم أداروا حواراً نقدياً حول المحافظ فلم يجدوا شيئاً ينتقص من قدره شيئاً، فقالوا (والله كويس لكن صغير في السن) وبعد كل هذه التجارب وبعد هذه السنين في الحكم التي قاربت العشرين، فإن اختيار المتعافي وزيراً للزراعة يؤكد أن الحكومة جادة في مشروع النهضة الزراعية. ومعلوم عن المتعافي أنه إذا أمسك بشيء نهض به. فبشري للزارعين وللذين يرغبون في الزراعة، وبشري للسودان الذي لا تكتمل نهضته إلا بنهضة الزراعة فيه، ونحسب أن المتعافي أفضل من يفعل ذلك.

           قصص كثيرة أحفظها للأخ البروف الزبير بشير، بعضها عشته معه وبعضها نقله الراوون. وبعودته لأهله في الجزيرة والياً أذكر قصة والده عم بشير مع ساق الشجرة الذي كان عموداً لديوانه بجزيرة الفيل وعندما حاول أبناؤه التحديث وخلع هذا العمود رفض ذلك رفضاً باتاً لقصة مع هذا الجذع الذي أتي به فيضان كاسر وأحسبه فيضان العام 1946م وكان البحر في أعنف حالات هياجه، وكان عم بشير في عنفوان شبابه فخلع ملابسه ونزل البحر الذي كان يخشي الجميع الاقتراب منه واقتلع الجذع من بين براثن النيل وأتي به ليكون عماداً لديوانه الأشهر في (جزيرة الفيل) وبرغم السنين فإن الزبير ما زال في عنفوانه. والجزير في حاجة إلي رجل في عنفوان الزبير لينتزع أعمدتها التي يحملها النيل ليقيم بها ديواناً كبيراً للسودان كله. والجزيرة ديوان السودان الكبير.

 

آراء