وغاب عنا ذلك الباش الودود …. بقلم: محمد موسى جبارة

 


 

 

mmusa25@hotmail.com

 

لم ننظر إلى الوراء بعد أن وارينا ذلك الجسد الطاهر ثرى الحنينية بالبحرين...

 

ليس تأسيا بالسُنّة فقط، بل لأن النظر إلى ما تركناه وراء ظهورنا سيعيد علينا شريطا من الذكريات لن نستطيع معه حبس دموع كانت حتى تلك اللحظة عصية...

 

اثنان وأربعون عاما من الذكريات مع الفقيد كمال عثمان عبد الله أو كمال ُطل كما كان يحلو لنا تسميته...

 

التقينا أول مرة في جامعة الخرطوم في العام 1967 ضمن تلك الدفعة التي حدثتكم عنها في بعض الذكريات وأنا...

 

التحق كمال بكلية الاقتصاد والتحقنا نحن بكلية الآداب...

 

كنت أراه دائما في صحبة ثلاثة من أشهر طلبة الجامعة وقتذاك...كمال بني وقدوره لاعبا المريخ والفريق القومي السوداني وأسامة التجاني علي لاعب النيل العاصمي، فقد كانوا يتقدمونه بسنة دراسية في كلية الاقتصاد...في دفعته في نفس الكلية كان محمد فرج، من أشهر لاعبي كرة السلة في ذلك الوقت وكابتن الفريق القومي لتلك اللعبة...ذلك الفريق الذي كان وقتها يحصد البطولات شرقا وغربا وكان معظم لاعبيه من طلبة جامعة الخرطوم، محسن وسكرمنتو وشارلس بوث ديو وشارلس منيانق وكيل وزارة التعاون الدولي ومحمد فرج وعلى يوسف، "على باسكت" السفير الحالي بوزارة الخارجية...

 

في العام 1969 ضمّنا فصلٌ واحد بكلية القانون ...لم يكن السكن الداخلي وقتها يتم عن طريق الكليات، فكان كل منا يسكن حيث يتاح له السكن، بحيث يساكن الطالب ما يروق له من زملاء دراسة من الكليات الأخرى...

 في سنتنا الرابعة سكن معظمنا في داخلية بحر العرب وكان السكن أيضا خليطا من كليات مختلفة..انتقلنا بعدها في السنة الخامسة لداخلية الحقوق التي تم تخصيصها لطلبة القانون...كسر تلك القاعدة الأخ إبراهيم عمر إدريس الذي كان يدرس إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد فجاور كمال ومعاوية الطاهر وحسن محمد إدريس "أب شنب" الذين سكنوا معا في غرفة كبيرة في الطابق الأرضي على مقربة من ميدان الباسكت...

معاوية كان مشاغبا ومثيرا للفوضى، وكان حسن اب شنب هادئ الطبع دائم التفكير في لا شيء، تجده مستلقٍ على ظهره محلّقا بنظره إلى سقف الغرفة...

 

أثارت هذه الخاصية انتباه كمال المرح بطبعه فأطلق على حسن إدريس لقب حسن سقف...

 

منذ أن عرفناه إلى يوم مماته كان كمال نفس ذلك الشخص سمح النفس المرِح البشوش دائم الابتسام...لم أراه منفعلا قط ولا يرتفع صوته في النقاش...

 

ليس هذا من قبيل اذكروا محاسن موتاكم، فكل ذكرياتنا مع كمال كانت محاسن، منذ شبابه الباكر الذي عاشه ككل شباب السودان في ذلك الزمن الجميل، وإلى أن التقى ربه في الخامس والعشرين من مايو 2009...

 

التحق بديوان النائب العام وعمل مستشارا بالحكومات المحلية، وكانت له طرائف يحكيها عن زملائه هناك لا نمل من سماعها والضحك عليها كلما أعادها على أسماعنا بطريقة تختلف كل مرة عن الأخرى...

 

عندما جاء إلى البحرين عمل في مكتب الشيخة هيا الخليفة الرئيسة السابقة للجمعية العامة للأمم المتحدة ثم التحق بعد ذلك بمصرف البحرين المركزي، مستشارا قانونيا...

 

كلٌ من زاره في منزله لا بد وأن يذكر أن كمال كان يصر على تودعيه حافي القدمين حتى باب منزله الخارجي أيا كانت درجة حرارة الطقس في البحرين، ولا يرجع غافلا إلا بعد أن تختفي سيارتك عن ناظريه...

 

هذا المرة وفي وداعه الأخير لم يشأ أن يودعنا حتى لا يشق علينا الفراق...كان يعلم بوطأة المرض لكنه كعادته كان صابرا جلدا لم تخنه شجاعته في مواجهة المجهول...

 وكعهدنا به دوما أراد أن يهيئنا لفراقه حتى يخفف علينا وقع المأساة، فرقد عليلا بضعة أشهر انتقلت بعدها روحه الطاهره إلى بارئها...

عندما عاد من ألمانيا التي ذهب إليها مستشفياً، لم استبشر خيرا بعودته، خصوصا وقد نُقل إلى مستشفى آخر بالسعوديه...فالطب الأوروبي طبٌ صارم لا يعرف المجاملة أو فرضيات الاحتمال...

 

حلمت به قبل يومين من وفاته، ورغم أنه ليس من عادتي أن أتوقف عند الحلم بموت أحد لأنه عادة لا يصدق عندي، إلا أنني كنت هذه المرة على قناعة بأن الذي رأيته لم يكن حلما فحسب، بل يكاد يكون رؤية انقبض لها صدري واستعذت منها بالله، إلا أن ذلك الحلم لم يفارق مخيلتي حتى اللحظة التي اخبرني فيها جعفر السنوسي بنبأ الوفاة...

 

كان يوما ليس كبقية الأيام...زميلتي في العمل بادرتني في الصباح الباكر بأن حالي ليس كما اعتادت عليه...حتى رنة هاتف جعفر أحسست بأنها غير طبيعية، فتوقعت الأسوأ...ولم يكن هناك أسوأ مما سمعت...شهر مايو لا يأتي إلا بالكوارث فكيف إذا كان ذلك اليوم هو الخامس والعشرين منه؟

 

جعفر ومعاوية وحمزة وكمال ضمنا فصلٌ واحد في مقتبل أعمارنا واجتمعنا في خواتيمها في بلدٍ لم يكن يدور بخلد أحد منا ذات يوم من أيام الجامعة بأنه سيكون الملاذ والمنتهى لبعضنا...

 

كانت لنا نفس الهموم والاهتمامات السياسية والوطنية...تجمّعنا على غير موعد وفارقنا كمال دون أن يدع لنا فرصة أن نحدد وقت الفراق أيضاً...

 قبل عام مضى كان كمال في حفل وداعٍ لي بمناسبة عزمي الالتحاق بعمل في الدوحة...قال: "أنا لا أحب لحظات الوداع، لكن لا بد من قول كلمة في حق زميلي "فكر"...وكان ذلك اللقب الذي يناديني به منذ زمن الطلب...فليتني أجد اليوم يا كمال من الكلمات ما يوفيك حقك علينا...

وأنا أعيد خيط الذكريات في الصور التي أمامي، تعجبت كيف شاءت الصدف أن يكون كمال واقفا في الصورة التذكارية لتلك الدفعة إلى جوار زميلنا الوحيد الذي رحل عنا مبكرا، حسن يوسف آدم؟...

 

حسن من أبناء الصومال والده كان دبلوماسيا بالخرطوم، درس بوادي سيدنا الثانوية وجامعة الخرطوم، انتقل إلى جوار ربه قبل ثلاثة عقود من الزمان...

 

حقا لقد أبكانا فراقك طويلا يا كمال وسكبنا عليك دموعا حرى بعد أن كانت دموعنا تنساب ضحكا من حكاويك المرحة ونكاتك التي لم تكن تستثني منها حتى نفسك...وأعذرني يا صديقي إن لم أوفيك حق المسلم على أخيه المسلم، فإن نفسي لم تطاوعني على حث الثرى على ذلك الوجه البشوش...

 

اللهم أن كمال عبدك وابن أمتك جاءك في ضعفه راجياً عفوك ومغفرتك، فأشمله اللهم بفضلك وعفوك ومغفرتك...

 

اللهم أجزيه بقدر إيمانه بك وشهادته بوحدانيتك وبنبيك محمد وبرسلك وملائكتك، وتقبله تقبلا حسنا يا الله...

 

اللهم إن كان محسنا فزد في حسناته وإن كان غير ذلك فتجاوز عن سيئاته...

 

اللهم اغسل خطاياه بالماء والثلج والبرد كما يغسل الثوب الأبيض من الدنس...

 

اللهم أبدله منزلا خيرا من منزله وديارا خيرا من دياره وأهلا خيرا من أهله....

 

اللهم اسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وألهم زوجته المكلومة وذريته وأهله وعشيرته من أهل القطينه وزملاءه وكل معارفه الصبر والسلوان وحسن العزاء...

 

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

محمد موسى جبارة

 26 مايو 2009    

 

آراء