الجنوب.. ومستقبل السُّودان من خلال الماضي (3 من 15) … بقلم: الدكتور عمر مصطفى شركيان

 


 

 

ombill.ajang@googlemail.com

 

 

 

قبل أن تضع الحرب أوزارها.. العيش وسط اليأس والأمل

 

في هذه الصفحات – كما سنبين بعد حين – لم نشأ أن نكتب عن السجل المروع لحقوق الإنسان من جراء الحرب الأهليَّة ونتائجها، وذلك ليس استخفافاً بالضحايا ولا استهتاراً بأرواحهم، بل لأنَّ منظمات إنسانيَّة أجنبيَّة، وسودانيَّة معارضة، قد دوَّنت هذه المجازر ما استطاعت إليها سبيلاً.  ولكن لتجدوننا قد تزيَّدنا لئن قلنا إنَّ هذه المنظَّمات الإنسانيَّة قد أحصت كل حادثة، وغطَّت التجاوزات كلها في كل قرية، وألمَّت بما جرى في كل مدينة.  وأيَّة جهة إنسانيَّة، مهما بلغت درجة إنسانيَّتها في التفاضل والتكامل، تستطيع أن تزعم بأنَّها قادرة على تغطية أحداث عديدة في فترة زمنيَّة طويلة كهذه التي استغرقتها الحرب الأهليَّة، أو الإلمام بما جرى في قطر شاسع كالسُّودان!  وكذلك قد أعرضنا عن استظهار الهم القديم والماضي الأليم لأسباب لا تغيب على أحد.  ومن لي بالصحف التي أنشر فيها هذا السجل الأسود!  ومن لي بألا يغضب أهل السياسة، ولا يحتج أصحابها وسدنتها على هذا الكاتب الإنساني الذي يسرف في الإنسانيَّة، أو الذي يُخيَّل إليهم إنَّه لمسرف في العدوان!  إنَّنا إذن لمضطرُّون اضطراراً إلى أن نشير إشارات عابرة هنا وهناك إلى هذه التجاوزات الإنسانيَّة لإثبات ما نود الحديث فيه، أو نستطيع أن نقول بأنَّنا سوف نحدِّثك أخبارها إلا قليلاً، فالمصادر مثبتة، والمراجع موضوعة، وشهود عيان ما يزالون أحياءاً عند ربهم يُرزقون.  إذ عليك أن تكلف نفسك عناء البحث، وجهد القراءة، والرضا في سبيل إنفاق المال لاستزادة التعرُّف على ما جرى ليس في جنوب السُّودان فحسب، بل في جميع المناطق التي تأثَّرت بالحرب ونتائجها.  أما فيما عدا ذلك، فإنَّ لدينا لشيئاً كثيراً نريدك أن تلم به وتقف عليه.  قال صاحبي: وما هي تلك الأشياء يا عمر؟  قلنا: حين اشتعل الجنوب حرباً العام 1983م تعامل الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري مع هذه الأوضاع المستجدة سياسياً وعسكريَّاً وأمنيَّاً حسب فقه الضرورة.  فمن الناحية السياسيَّة اعتمد النظام على المكيال الإعلامي لاستظهار الحركة الشعبيَّة بأنَّها حركة شيوعيَّة ماركسيَّة يدعمها المعسكر الشرقي.  وقد هدف نميري من وراء هذه الدعاية تنفير المسلمين القانتين عن الحركة من ناحية، وكسب الدعم العسكري والسياسي من الحكومات الغربيَّة من ناحية أخرى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكيَّة، ثمَّ زعمت الحكومة في أشدّ ما يكون الزعم بأنَّ قادة التمرد انفصاليُّون عنصريَّون من ناحية ثالثة، وذلك لكسب ود أنصار الوحدة الوطنيَّة والقوميين العرب في السُّودان.  أما من الناحية العسكريَّة، فقد استعانت الحكومة بالميليشيات القبليَّة – بالإضافة إلى القوات المسلَّحة – لخوض غمار الحرب الأهليَّة لصالحها بالوكالة، حيث تنصَّلت الحكومة عن مسؤوليَّة استتباب الأمن، وهي مسؤوليَّة كبرى، أدَّت الحاجة إليها – كما قال ابن خلدون – إلى نشوء الحكومة كمؤسسة في المجتمع البشري.

هذا، فلم نستكثر إن قلنا إنَّ أهل الشمال – أحزاباً وحكومات – لهم نظرة أحاديَّة تجاه أهل الجنوب؛ هذه النظرة تتصف في شيء منها بالعنصرية، وفي شيء آخر منها بالاستعلاء، وذلك مما صنعته بعض الصدور الضيِّقة، التي تفتقر إلى التسامي الأخلاقي، وما تفوح به العقول المتكلسة التي تفتقد القدرة على التعاطي العقلاني مع الأحداث السياسيَّة والاجتماعيَّة معاً.  وفي هذه العنصريَّة وذلكم الاستعلاء يضيع المنطق حيناً، وعلى هذه العنصريَّة تنبني السياسات الحكوميَّة حيناً آخر.  وتظهر هذه الأغلاط السياسيَّة في اعتماد الحكومات المركزيَّة مبدأ تسليح قبائل بعينها لتقوم بمهام هي من مسؤوليات الدولة وقواتها النظاميَّة، دون التأكد من أنَّ السلاح الذي تقدِّمه للميليشيات القبليَّة لا يستعمل للكسب الشخصي وأغراض أخرى ليست لها علاقة بالدفاع عن النفس.  فحياة النَّهب المسلَّح حياة عربيَّة بدويَّة مألوفة في الجاهليَّة وبعد الإسلام، ولئن حاول الإسلام تشذيبها حتى لا تتاح للقبائل فرصة أن تتغازى ويغير بعضها على بعض.  وكذلك حال القبائل المستعربة في السُّودان، حيث تتخذ من الغزو وضروب الإغارة مجداً وشرفاً ومكسباً.  وفي هذا الأمر يخطئ البعض اعتقاداً بأنَّ مسألة تسليح القبائل ضد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان قد بدأ مع نشوب الحرب الأهليَّة الثانية العام 1983م.  إذ أنَّ الأمر يعود إلى حقب خلت.  فالتأريخ السُّوداني المعاصر مليء بالأمثلة، حيث أقدمت سلطات الحكم الثنائي (البريطاني-المصري، (1898-1956م)) على تسليح بعض القبائل العربيَّة لمعاونتها على ضرب الحركات المناوئة لها مثلما حدث ضد السلطان علي دينار في دارفور العام 1916م – كما سنرى في باب منفصل عن دارفور - والسلطان عجبنا في جبال النُّوبة العام 1917م، وهي نفس السياسات التي شرعت الحكومات الوطنيَّة المختلفة في انتهاجها وبصور متباينة.  ولم يكد يغادر الاستعمار، أو لم يكد الحكام الوطنيُّون ينصرفون إلى تدبير البلاد، حتى استأنفوا ما كان يمارسه الاستعماريُّون.  وربما كان من الحق هنا أن نلاحظ أنَّ هؤلاء الناس المهمَّشين من أهل السُّودان قد احتملوا أعباءاً بعد الاستقلال كانوا قد احتملوها قبل الاستقلال.  وإذا كان المستعمر قد استخدم المكر والمكائد، التي شرع يستخدمها دوماً أرباب السِّياسة ومدبِّرو أمور البلاد بعدهم، فما هو الفرق بينهم وبين حكَّامنا الوطنيين إذن؟

هكذا، نرى أنَّ تأريخ تسليح القبائل ضد بعضهم بعضاً قديم في تأريخ السُّودان، فقد أقدم رئيس الوزراء - محمد أحمد محجوب - على تسليح القبائل (في جنوب السُّودان) في الستينيَّات، وقد ادَّعى أنَّ عدداً من القبائل قد طلبوا منه تزويدهم بالأسلحة لصد الثوَّار (أي مقاتلي الأنيانيا) فقدَّمها لهم.(45)  وفي تلك الأثناء كانت هذه الميليشيات تُعرَف ب"الحرس الوطني".  وفي الحق، إنَّ هذه المجموعات القبليَّة تم تسليحها بواسطة الاستخبارات العسكريَّة لمحاربة الأنيانيا نظريَّاً، لكنهم – عمليَّاً – قاموا بأفعال بشعة تقشعر منها الأبدان ضد المدنيين في جنوب السُّودان: فقد قتلوا ما استطاعوا قتلهم، واغتصبوا النساء، وعذَّبوا المواطنين، ونهبوا ممتلكاتهم، وكل ذلك تحت دعاوي باطلة بأنَّ هؤلاء المواطنين المغلوبين على أمرهم يساندون حركة التمرُّد.  وقبيل انهيار نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، قام هو الآخر بتسليح ميليشيات النوير ضد الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان فيما عُرِف ب"القوات الصديقة"، ادعاءاً من النظام بأنَّ الحركة الشعبيَّة ما هي إلا وعاءاً لقبيل الدينكا، حتى تأخذ القضيَّة بعداً قبليَّاً (النوير ضد الدينكا).  ثم تطوَّر الأمر بتوزيع الأسلحة الحديثة لقبائل التماس من العرب (المسيريَّة الحمر والزرق، والرزيقات، والمعاليا) وقبائل الجنوب (منداري، ديدينغا، مورلي، وباري) - والتي لها عداء تأريخي مع قبيل الدينكا - تحت دعاوي "الدفاع عن النفس والأهل والممتلكات" من ناحية، ولخوض الحرب بالوكالة ضد الجيش الشعبي لتحرير السُّودان من ناحية أخرى.  وقد أعطتهم هذه الأسلحة والحق الرسمي شعوراً حقيقيَّاً بأنَّ الدولة ضعيفة، وليست هناك سلطة تستطيع أن تسألهم عما يحصلون عليه بالإغارات والنهب المسلح وتدمير الأنفس والمزروعات وممتلكات النَّاس.  لكن هل ثمة أبعاد تأريخيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة في كل هذا؟  بلى!  لقد أسلفنا الذكر عن البعد التأريخي لمسألة الميليشيات العربيَّة تحديداً.  أما عن البعدين الاجتماعي والثقافي فنجد أنَّ لقبائل التماس العربيَّة عهد تليد بالتدريب العسكري والتعامل مع السلاح، سواء كان ذلك في خدمتهم العسكريَّة، أو في حال حصولهم على السلاح بصورة شرعيَّة أو غير شرعيَّة، للدفاع عن أنفسهم وحماية مواشيهم وماعزهم.  ثمَّ إنَّ أغاني الحكامات (المغنيات الشعبيَّة) وجميع طقوس البلوغ عند الصبيان لدي كل من العرب والدينكا وغيرهم لتقوم على تمجيد الفروسيَّة واقتناء الأسلحة – البيضاء أو الناريَّة – والحرب والثأر والإغارات القبليَّة الجماعيَّة لعزة القبيل والشهرة وغيرها.  لذلك لم تجد قادة أهل السُّودان أيَّة صعوبة في تسليح هذه القبائل ضد بعضها بعضاً في حال الدولة، أو تجنيدهم في التمرُّد ضد الجيش الحكومي في حال الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.(46)

مهما يكن من الأمر، فإنَّ مواصفات التماهي للصفوة الحاكمة في المجتمع السُّوداني والسلطة وحل النزاعات وتغيير الأنظمة السياسيَّة والعدالة الانتقائيَّة وغيرها ظلَّت ثابتة.  وإنَّ يقيننا بأهمية الدَّم في تقرير خلق الإنسان، وإنَّ أعمال الآباء والأجداد لتسبغ على الأبناء مكانة في السلوك والمجتمع، حيث سار ورثة الحكم في الخرطوم على منهاج آبائهم الأولين.  فما من شك في أنَّ إنشاء الميليشيات القبليَّة وإفرازاتها تركت جروحاً غائرة، ولسوف تأخذ دوماً حقباً كثيرة قبل أن تندمل.  أفلم يكن من الأجدر ألا تأخذ هذه الميليشيات دور الجيش، الذي يجب عليه أن يكون هو المؤسسة الوحيدة التي يحق لها حمل السلاح والدفاع عن الوطن ضد العدوان الخارجي لا لتقتيل شعبه وتشريده؟  بلى!  بيد أنَّ انتشار السلاح واستخدامه بواسطة المدنيين من شأنه أن يخلق فوضى، ويغري أطرافاً بعينها للإقدام على تصفية حسابات قبليَّة قديمة من ثأر أثني دونما خوف من أيَّة سلطة، أو رهبة من أي قانون.  والسبيل الرئيس لمعالجة هذه الأزمة السياسيَّة-الاجتماعيَّة كان يتمحور في البحث الدؤوب عن السلام، والدعوة إلى الوئام بين الأجناس المختلفة، وبطرق ملموسة.  وهذا الحل يشتمل على جانب حكومي وآخر شعبي، والذي يتمثل في تطبيق مبادئ العدالة والابتعاد عن المحسوبيَّة والقوانين التي تصون كرامة الإنسان، وتعليم النشء قيم حقوق الإنسان واحترام الآخر، والإقرار بحقه في الحياة على قدم المساواة، وتفعيل مبادئ المجتمع المدني.

ولكي نفهم لماذا عجزت حكومات الخرطوم المتعاقبة في الحل النهائي لمشكل الحرب الأهليَّة في السُّودان كان علينا أن ننظر في تركيبة أهل السلطة في السُّودان.  فلا مُراء في أنَّ هناك ما يربطهم عضويَّاً وأثنياَّ وسياسيَّاً، حيث لم تزد التغيُّرات الشكليَّة في الحكم، والتي تحدث في مركز السلطة بين الفينة وأخرى، شيئاً مذكوراً.  هكذا لم يكن موقف أحزاب الشِّمال تجاه أهل الجنوب في يومٍ ما مفاجئة لأحد، بل كان دائماً فاجعة للجَّميع.  وأقرأوا - إن شئتم - ما كتبه الأستاذ سيد أحمد خليفة في إحدى الصُّحف العربيَّة، التي تصدر في لندن.  فماذا كتب الأستاذ الصحافي؟  وما هو وجه الغرابة فيما ذهب إليه؟  كتب الأستاذ الصَّحافي سيد أحمد الخليفة في معرض حديثه عن المعارضة الشمالية والحركة الشعبية إبَّان عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري (1969-1985م)، وكتب قائلاً: "لم تشأ المعارضة السُّودانيَّة، سواء التي كان منها في الداخل ويمثِّله السيِّد الصَّادق المهدي الذي كان معتقلاً، أو تلك التي كانت في الخارج وكان يمثلها الشريف حسين الهندي، أو الذين ورثوا العمل الخارجي من بعده.  لم تشأ أن تقيم علاقات مباشرة مع حركة قرنق (الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان) لكونها حركة تمرد ضد القوات المسلحة السُّودانية القوميَّة التكوين آنذاك، والتي كان من الخطر أن تلجأ المعارضة السُّودانيَّة إلى تحالف ضدها مع حركة قرنق؛ إذ أنَّ ذلك من شأنه أن يدق أسفيناً بين الحركة السياسية والأحزاب السُّودانيَّة وبين القوات المسلَّحة التي كانت تحارب في الجنوب (...)."(47)  من المذهل حقاً أن نجد هذا النفاق السياسي في مقال الكاتب الذي يعتبر الهجوم على القوات المسلَّحة في الجنوب يومئذٍ إثماً لأنَّها قوات قوميَّة!  أفلم تكن هذه القوات المسلحة السُّودانيَّة هي نفس القوات القوميَّة عندما هاجمتها المعارضة الشَّماليَّة في العاصمة القوميَّة في الفاتح من تموز (يوليو) 1976م، وقتلت ما قتلت، وجرحت ما جرحت، من أفراد الوحدات العسكريَّة المختلفة بياتاً وهم نائمون؟  بلى!  فمالهم كيف يحكمون؟ ومع ذلك كله، يمضي الأستاذ الكاتب قائلاً: "إنَّ الأحزاب السياسية آنذاك كانت تبتهج بانتصارات الحركة (الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان) العام 1983م، وتعتبر قرنق حليفاً لهم بالوفاق وليس بالاتفاق."  إنَّ أقلَّ ما يمكن نعته بهذا السلوك هو الانتهازيَّة المفرطة التي لهم فيها جبلة قد فُطِروا عليها، وسجية متأصلة في نفوسهم.

أياً كان الأمر، فإنَّ ما يثير حفيظتنا ويعكِّر صفو حياتنا أنَّ السُّودانيين لم يتعلَّموا شيئاً إيجابيَّاً تجاه أخلاقيات الحرب الأهليَّة الأولى (1955-1972م)، والتي هي في الأساس حرب بين أبناء الوطن الواحد، الذين ابتنوا رؤى متباينة في كيفيَّة التعاطي مع مشكلات البلاد المحوريَّة.  وما التجاوزات الإنسانيَّة المفزعة التي تكرَّرت بصورة أكثر فداحة وبشاعة مما يمكن أن يتصوَّرها العقل ويرتضيها الفؤاد، وبخاصة بعد اقتناء الأسلحة الفتاكة وتطوير أسلوب القتال وإدارة العمليات الحربيَّة، إلا مرآة سيئة لما ذهبنا إليه قولاً.  وحين لم تكن هناك مبادرات سياسيَّة جادة وفعالة لحل النزاع سلميَّاً كانت الحملات العسكريَّة تشهد تصاعداً مروعاً، وبالتالي التجاوزات في حقوق الإنسان الأساسيَّة، وكانت هذه هي الحال في عهدي الفترة الانتقاليَّة (1985-1986م) وحكومة السيِّد الصَّادق المهدي (1986-1989م)، إضافة إلى إفرازات الحرب السلبيَّة من ذل وفقر ومجاعات وعطش وأوبئة وتعذيب وتهجير وتشريد وغيرها.  وقد كان ظهور الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان على مسرح الحياة السياسيَّة في السُّودان يشي بمقدار من الأمل للمهمَّشين من ناحية برغم من اشتداد الحرب ضراوة، ولكن انبتات الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة أمسى يهدِّد آمالهم بتعطيل هذا المشروع التفاؤلي من ناحية أخرى.  وبذلك نلاحظ أنَّه كلما اشتدت حركة فكريَّة عقلانيَّة ما، وبدت طاغية وواعدة بمستقبل لعهد مزهر، يكون لا بدّ من مجيء حركة فكريَّة لا عقلانيَّة، بل أسطوريَّة، تتلوها لتفسد على العهد مسيره الذي يبدو مؤكَّداً.

فبينما كان رجال الأحزاب السياسيَّة في ضلالهم القديم، وفي غيهم يعمهون، جاءهم العميد يومئذٍ عمر حسن أحمد البشير على رأس انقلاب عسكري - لا اختياراً من الشَّعب – في فجر 30 حزيران (يونيو) 1989م، "فقطعت جهيزة قول كل خطيب".  وفي تلك الأجواء كان الشعب السُّوداني ممزق بين أمرين: إذ كانوا قد استيأسوا من حكومة السيِّد الصَّادق المهدي في حل الأزمة الاقتصاديَّة، غلاء المعيشة، البطالة الاضطراريَّة، تحقيق السَّلام، وبسط الأمن في إقليم دارفور، حتى بلغ بهم اليأس حد القنوط.  ومن جانب آخر، كانوا في حيرة من أمرهم تجاه هؤلاء الزعماء الجدد، وأخذوا يرتقبونهم من خلال مراسيمهم الرئاسيَّة وتصريحاتهم ولقاءاتهم وبياناتهم لرجال الصحافة المحليَّة والأجنبيَّة، حتى يستبين هواهم وهُويَّتهم.  فيما عدا مقاومة بعض النقابات المهنيَّة ضد السلطة الجديدة، لم يبد الشعب السُّوداني صدوده لهذا النظام الجديد ليس حباً فيه، بل هو اليأس ذاته الذي يفرض على الناس واقعاً يجعلهم يجترُّون مرارة الماضي، ويتأمَّلون في الجديد الذي لم يكد يفصح عن ملامحه العقائديَّة والسياسيَّة بعد، وصعوبة التنبؤ بما يحمله المستقبل.  وفي هذه الأثناء أيضاً كان الناس ينتظرون رأي الحركة الشعبيَّة في الجماعة إيَّاهم ورؤيتها فيهم، عسى أن يفهموا منها من أمرهم شيئاً.  تلك كانت هي حال الشعب السُّوداني يومئذٍ، فمثَّلت أحسن تمثيل قنوطهم لهذه الحكومة الراحلة، وارتباكهم لهذه الحكومة القادمة.  هذا، وكان إلغاء قادة الحكم الجدد لكل المحاولات والمبادرات السَّلميَّة التي تمَّت في عهد حكومة السيِّد الصَّادق المهدي دليلاً على النائرة الكائنة في سروبهم، وكثرة ازدرائهم لكل قديم، حكوميَّاً كان هذا القديم أم حزبيَّاً سياسيَّاً؛ وقد تشابهت قلوبهم تجاه ما يسمَّى ب"مشكل جنوب السُّودان"، كما أبنا سلفاً.  ولدي مجيء هؤلاء الناس على رأس حكومة تمثِّل دعاة الإسلام السِّياسي، أي المتحدِّثين باسم "الحل الإسلامي" لمشكل الحرب الأهليَّة التي كانت تدور رحاها في أجزاء مختلفة من السُّودان، تبخَّرت كافة آمال الحل السياسي لهذه الحرب.  وقد ربط النِّظام الجديد الحرب الأهليَّة في السُّودان بالإسلام ربطاً ميكانيكياً تعسُّفيَّاً على أساس أنَّ الموت في سبيل الوغى شهادة ينبغي على كل مسلم ومسلمة ارتيادها ابتغاء مرضات الله.  ومن ثَم َّ شرع قادة الانقلاب العسكري الجَّبهوي في التعامل مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من خلال ثلاثة محاور هي: التصعيد العسكري في مسارح العمليات الحربيَّة في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق من ناحية، ومحاولة ابتزاز حكومات الجوار، التي تدعم الحركة الشَّعبيَّة، أو يعتقد النظام "الخرطومي" في أنَّها تقوم بذلك الدعم، وذلك في إطار التعاون مع الحركات المناوئة لهذه الحكومات من ناحية أخرى، ثمَّ العمل الاستخباراتي وسط قيادات الحركة ذاتها لبث الخلاف والفرقة بينهم، وإحداث انشقاقات في الحركة، بحيث يسهل القضاء عليها – أي "سياسة فرِّق تسد" – من ناحية ثالثة.  فقد ذكر رئيس نظام "الإنقاذ الوطني" – العميد عمر البشير – في بيان الانقلاب الذي أذاعه في الناس في بادئ الأمر أنَّ الانقلاب قد جاء لتحقيق أربعة أهداف رئيسة هي:(48)

(1)     تحقيق السَّلام في الجنوب.

(2)     إصلاح الوضع الاقتصادي.

(3)     تحسين العلاقات الخارجيَّة.

(4)     إيقاف الفوضى الحزبيَّة.

وفوق ذلك كله، ذكر الرئيس البشير أنَّ الذين يقودون الحرب في جنوب السُّودان هم عساكر، وإنَّ الذين قاموا بالانقلاب لهم عسكر كذلك، والعسكر يفهمون لغة بعضهم بعضاً.  إذ يحتوى هذا القول على تفسيرين: فأولهما هو أنَّهم بقادرين على إيجاد صيغة توفيقيَّة لحل مشكل الحرب الأهليَّة في السُّودان، وثانيهما هو الحسم العسكري لهذا المشكل.  وعندما انقضى مفعول سريان وقف إطلاق النَّار، الذي صدر في الأيام الأخيرة من حكومة السيد الصَّادق المهدي، بدأ عصر الرَّغائب الوهميَّة (Wishful thinking).  ذلك العصر الذي حسب النِّظام أنَّه قادر على انجاز نصر عسكري مؤزَّر على الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وإخراس دعاة الحل السِّياسي السِّلمي في مشكل الحرب الأهليَّة.  بناءاً على ذلك وظَّف النظام "الإنقاذي" كل أجهزة وإمكانيات الدَّولة لخوض الوغى.  ففيما كانت الأسلحة العراقيَّة والإيرانيَّة تتدفَّق على نظام الخرطوم الجديد، أخذ النظام نفسه في تجنيد الطلاب وتدريب رجال الخدمة المدنيَّة و"تمليش" القبائل العربيَّة لخوض المعارك في مسارح العمليات العسكريَّة المختلفة.  وكان أكثر الأجهزة استخداماً في هذا الأمر هو الإعلام الحكومي؛ إذ بدأ هذا الإعلام في الترويج لأقاصيص وأحاجي أسطوريَّة مثل أنَّ القرود في أدغال الجنوب تحارب مع كتائب المجاهدين، وأنَّ الشجر تكبِّر باسم الجلالة، وأنَّ رائحة المسك تتصاعد من جثث القتلى وكتائب الجهاد، إضافة إلى استثارة الشباب بالإعجاب بالزواج من حوريات الجنة لمن يستشهد في ميدان القتال.  برغم من ذلك كله وجدنا أنَّ تقريراً عسكريَّاً رسميَّاً سُرِّب من الخرطوم أواخر العام 1994م ذكر أنَّ الجيش الحكومي خسر أكثر من عشرات الآلاف من الجرحى والمعوَّقين، ومعظمهم راحوا ضحية الحرب الأهليَّة في الجنوب، إضافة إلى 50,000 قتيل خلال السنوات الخمس الممتدة من (1988-1993م).  وفي المقابل أشارت تقارير أخرى إلى حوالي مليونين من الجنوبيين قُتِلوا في الحرب أو ماتوا بسبب الآثار الناجمة عنها، مثل المجاعة والمرض، يضاف إلى ذلك عشرات الآلاف من القتلى في صفوف الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.  أما الذين هجروا منازلهم في الجنوب ولجأوا إلى الدول المجاورة بسبب الحرب فقُدِّر عددهم بحوالي المليون ونصف المليون، إضافة إلى حوالي 3 ملايين نزحوا إلى شمال السُّودان.(49)  وإنَّ هؤلاء النازحين الجنوبيين الذين استوطنوا في شمال السُّودان لهم أولئك الذين يتحدَّث عنهم أهل الشمال بشيء من السُخف كثير.  فقد ذهب الأستاذ الصحافي إدريس حسن - رئيس تحرير صحيفة "الرأي العام" الخرطوميَّة اليوميَّة – زاعماً طيبة نوايا أهل الشمال تجاه أهل الجنوب والوحدة الوطنيَّة قائلاً: "إنَّ هناك عدداً كبيراً من أبناء الجنوب قد اضطرَّتهم ظروف الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان إلى النُّزوح والعيش في الشمال، حيث تعايش الجميع بسلام."  ويستطرد الأستاذ إدريس حسن: "لو كانت لأهل الشمال نوايا سيئة لما استخرجوا البترول من الجنوب، فذلك يؤكِّد رغبتنا في وحدة البلاد."(50)  فما هو السخيف الكثير في هذا الحديث؟  وأين تكمن مواطن الاستغفال في هذا كله؟  ومن هنا نظن أنَّ من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف، ولكن لا بد من الوقوف عنده وتفتيته، لأنَّ المجادلين من أهل الشمال قد ذهبوا في هذا النوع من الجدل مذاهب لا تخلو من غرابة نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز.

ما من شك في أنَّه حين يخطط رجال الأحزاب، أو تسطِّر أقلام رجال الإعلام أو يكتب الأكاديميُّون في شمال السُّودان يحاولون كلهم أجمعون أبتعون إلباس الباطل على الحق وهم على علم بذلك، والعبث بعقول الناس، وتناسي الماضي، والتنكر على التأريخ.  وفي تخطيطهم السياسي، أو تدوينهم للتأريخ، أو تصريحاتهم لوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيَّة، تسيطر عليهم العواطف النفسيَّة، وتأخذهم حمية الجاهليَّة الأولى، وتصدهم العنصريَّة العرقيَّة والمحاباة الدينيَّة والعشائريَّة عن قول الحق وهم كذلك يعلمون؛ ومع ذلك، لتجدنَّهم قد أصدروا الأوامر إلى أنفسهم ليجرؤوا على المعرفة وواقع الحال ومنتهى المآل.  أفلم يسمع أو يقرأ الكاتب الصحافي عن مذابح الدينكا بواسطة العرب البقارة العام 1964م؟!  ففي أيلول (سبتمبر) 1964م شاعت شائعة مفادها أنَّ الأنيانيا سيهاجمون منطقة أبيي، فانطلق الناظر دينج مجوك إلى مدينة الأبيض – حاضرة مديريَّة كردفان حينئذٍ – طالباً قوة عسكريَّة لحماية المنطقة.  وعندما وصلت هذه القوة العسكريَّة إلى مدينة المجلد، وهي في سبيلها إلى أبيي، التحقت بها مجموعة من عرب البقارة على ظهور الجياد الذين زعموا أنَّهم ماضون مع جند الوطن للحرب في صفوفهم ضد المتمرِّدين، ودفاعاً عن أبيي.  ففي الأثناء التي فيها واصل الجيش طريقه إلى أبيي، انحرف العرب إلى قرية من قرى الدينكا شمال أبيي تسمى "فكر"، ونهبوا ماشية الدينكا، وعندما اعترض أحد أفراد الدينكا الرعاة على ذلك الفعل، أطلقوا عليه النار وجرحوه في فخذه.  إذ استطاع الدينكا – بعد سماعهم بالخبر – مطاردة العرب واسترداد أبقارهم المنهوبة دون أن يحدث اشتباك بين الجانبين.  كان هذا الحدث هو بداية التوتر بين العرب والدينكا، حيث تلت ذلك الحدث أحداث أخرى ناجمة عن احتكاكات حول حقول الرعي ومناطق الزراعة أو عن استباق إلى موارد المياه، وإساءة العرب للدينكا بألفاظ نابية كالعبيد وغيرها.

ثمَّ جاءت الطامة الكبرى في شباط (فبراير) 1965م.  وما يدريك بالطامة الكبرى!  ففي منطقة "وونميت" – على بعد 10 أميال شمال أبيي – كان يعسكر دينكا ريك بقطعانهم من الماشية، حيث هاجمهم العرب البقارة وقتلوا اثنين منهم رمياً بالرصاص.  وبعد القتل قُطِعت أياديهم للاستخدام كمضارب للطبول، وهكذا سار بها رجل منحرف منهم من قرية إلى أخرى للتفاخر بشجاعة العرب، وليُري الناس من آيات بسالتهم في هذه الأيدي المبتورة.  وفي الحق لم يتوقف عدوان البقارة عند هذا الحد.  ففي 18 شباط (فبراير) 1965م قتل البقارة بعضاً من الدينكا في قرية "مابيك" التي يقطنها الدينكا، ثم تلت ذلك الحدث أحداث "دبلوي" التي راح ضحيتها عدد من الجانبين كثير.  وبعد أحداث "دبلوي" أخذ العرب يغيرون على كل دينكاوي في مدينة بابنوسة، لذلك أخذت السلطات الحكوميَّة بعض الإجراءات لحماية الدينكا من هجمات المسيريَّة في كل من بابنوسة، المجلد، الفولة وغيرها.  وقد جمعت الشرطة في بابنوسة الدينكا وبعض أهل الجنوب الذين كانوا يعملون في خطوط السكك الحديديَّة في مركز الشرطة، ومكثوا فيه ثلاثة أيام حسوماً دون مشارب أو مطاعم، ولكن بعد 21 شباط (فبراير) 1965م تجمع عرب بابنوسة وأغاروا على المركز وقتلوهم طعناً بالحراب وأشعلوا النيران حول المركز لمنع أي واحد منهم من الهروب، وقد اشترك في هذه الجريمة البشعة أحد أفراد شرطة المركز نفسه برتبة ضابط صف.  وقد وقعت واقعة مثيلة في المجلد في نفس اليوم وبلغت حصيلة الضحايا في كل من بابنوسة والمجلد 400 و70 قتيلاً، على التوالي.  أفلم يكن هذا العدوان والتقتيل والتخريب في شمال السُّودان؟  بلى!  ثم ماذا يقول الكاتب الصحافي عن مقتل 6 من دينكا روينق على أيدي العرب الذين نهبوا أبقارهم، وحينما طاردهم الدينكا مروا بقوة من الجيش الذي أمرهم بتسليم حرابهم.  إذ لم يتم تجريد العرب من السلاح مثلما فعلوا بالدينكا، مما استطاع العرب قتل هؤلاء المواطنين دون أن يتدخَّل الجيش الذي وقف متفرجاً، باستثناء الرقيب النوباوي الذي حاول الفرار بالعربة وعلى متنها أفراد من الدينكا، وذلك لإنقاذ ما تبقى منهم على قيد الحياة، إلا أنَّ العرب أطلقوا النار على إطارات العربة، وقتلوا اثنين آخرين منهم.  ثم من بعد حدثت حوادث أخرى في قرية "أثوني" التي فيها قُتِل الدينكا على أيدي العرب وغيرها من أحداث متتالية متفرِّقة، حتى فقد الدينكا الثقة في رجل الشرطة الشمالي والجندي الشمالي.(51)

وماذا يقول الكاتب الصحافي عن أحداث يوم الأحد الدامي في الخرطوم العام 1964م؟!  وما يدريك لعلَّه يتذكَّر، ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون.  ففي يوم الأحد 6 كانون الأول (ديسمبر) 1964م تجمَّعت أعداد غفيرة من الجنوبيين واتجهوا إلى مطار الخرطوم لاستقبال وزير الداخليَّة كليمنت أمبورو، حيث تأخَّرت الطائرة عن موعد وصولها، وحدثت بعض أعمال عنف كانت يمكن تجاوزها بقليل من الحكمة، إلا أنَّ شرطة الخرطوم وأهل الشمال قاموا بقتل أعداد كبيرة من المواطنين الجنوبيين، وبدأوا يطاردونهم في شوارع العاصمة وأحيائها السكنيَّة، حتى اضطرَّت السلطات إلى تجميعهم بإستادي أم درمان والخرطوم في اليوم التالي ولمدة أسبوع، حفاظاً على أرواحهم من العصابة القتلة (The army of mobsters).  وقد قال قائلهم إنَّ جهات في السلطة نفسها قد أفرغت عتاة المجرمين من سجن كوبر، وتم تسليحهم بأسلحة "بيضاء"، وأطلقوهم على أهل الجنوب في مدن العاصمة الثلاثة، يطاردونهم ويصطادونهم كالحمر المستنفرة، فكانوا شداداً عليهم، نحس عليهم "في يوم نحس مستمر" (القمر 54/19).  وقد خلفت هذه الأحداث "في أيام نحسات" (فصلت 41/16) عدداً غير قليل من القتلى والجرحى وسط أبناء الجنوب، والتي لا شك في أن مبعثها كان عنصريَّاً مقيتاً.(52)  إذ غادر بعض من هؤلاء الجنوبيين إلى أدغال الجنوب للانخراط في حركة التمرُّد تحت قيادة "الأنيانيا" في الستينيَّات.  أفلم تقع هذه الواقعة في الخرطوم مركز أهل الشمال، الذي يصفهم الكاتب الصحافي بأنَّهم أهل رحمة ومودة لإخوتهم الجنوبيين؟  بلى!

وماذا يقول الكاتب الصحافي عن حملات "الكشة" – أو التهجير القسري - لأهل الجنوب خاصة، بل وأهل الغرب وجبال النُّوبة عامة في أحياء العاصمة، وإرغامهم في التجنيد القسري، وإرسالهم إلى أتون الحرب الأهليَّة ليقتلوا أهليهم، أو ليصطلون بنار حرب ضروس ويُقتلوا.  أفلم تقم – وما تزال تقوم - سلطات الخرطوم، وهي السلطات الحاكمة من أهل الشمال منذ العام 1983م بهدم بيوت هؤلاء الجنوبيين وغيرهم من أهل النوبة ودارفور، والإلقاء بهم في الصحاري الجرداء حول العاصمة، حيث لا مآكل ومشارب فيها ولا حياة ولا صحة ولا خدمات تعليميَّة أو اجتماعيَّة أو غيرها؟  بلى!  أولئك وهؤلاء هم الذين يصفهم البُحاث بمواطني الخفاء وجلَّهم من نازحي الحرب الأهليَّة في السُّودان، ويتعرَّضون لسياسات منظَّمة تشمل – فيما تشمل – سوء المعاملة، والتفرقة العنصريَّة، والاحتقار والاستعلاء الثقافي، والحرمان من الحقوق القانونيَّة، والخدمات الصحيَّة، وفرص التعليم لأبنائهم، والخدمات الاجتماعيَّة وغيرها.(53)  ولعلَّك لاحظ المضايقات التي يتعرَّض لها أبناء الجنوب في المركبات العامة في الخرطوم، وشاهد السجون المكتظة بهم وبغيرهم من أبناء أهل الهامش.  إنَّ إهمال الدولة إيَّاهم – أو لنقل اضطهاد السلطات لهم – قد اضطرَّهم إلى أن يلتحقوا بالحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان ويتخذوا من السلاح وسيلة للتعبير عن حقوقهم المدنيَّة.  ومع هذا يحدُّثنا الكاتب الصحافي عن طيبة أهل الشمال حكومة وشعباً؟!

ففي مستهل العام 1987م ادَّعت منظمة مناهضة الرق البريطانيَّة أنَّه تم عرض أطفال للبيع في قرية تقع بالقرب من مدينة المجلد، وكانت أسعارهم تتراوح بين 200 – 300 دولار أمريكي، وبعد تضخم عدد الأرقاء في بداية العام 1988م بلغ متوسط سعر الطفل 100 دولاراً.  وفي آذار (مارس) من ذلكم العام وصل السعر إلى 50 دولاراً، ولكنه سرعان ما بلغ 20 دولاراً.  إذ كان من الممكن شراء ستة أو سبعة أطفال بما يعادل سعر قطعة واحدة من السلاح الأوتوماتيكي.  وبنهاية العام 1987م ظهرت حالات عدة عن الاسترقاق، لكن أصرَّت سلطات الخرطوم على نفيها؛ إذ رفضت حكومة السيد الصَّادق المهدي (1986-1989م) حتى الإقرار أو تكوين لجنة للتحقيق فيما أعلنه أحد أعضاء حكومته – ألدو أجو دينج – الذي أذاع في الناس أنَّ 400 طفلاً قد تم استرقاقهم من قريته التي تقع جنوب بحر العرب.  ومع هذا وذاك، أفلم يتم القتل حرقاً وضرباً لأكثر من ألف من نساء وأطفال ورجال الدينكا في مدينة الضعين في آذار (مارس) 1987م؟  بلى!  ففي مساء يوم الجمعة الموافق 27 آذار (مارس) 1987م قامت مجموعة مسلَّحة من عرب الرزيقات بالهجوم على كنيسة التجأ إليها 25 من الدينكا بعد صلوات المساء، ثم واصل المهاجمون اعتداءهم على منازل الدينكا وأحرقوها، وقتلوا خمسة أشخاص.  ثمَّ كانت الطامة الكبرى في ليلة السبت، وفي هذه الليلة الليلاء لم ينج حتى الذين لجأوا إلى مركز الشرطة طلباً للحماية، ولا أولئك الذين لاذوا بأحياء الضعين فراراً من الموت، ولا أولئك الذين ألقت بهم السلطات في فناء المدرسة الابتدائيَّة، ولا أولئك الذين تسلَّقوا القطار هرباً من الموت الذي بدا وبدأ يحيط بهم يمنة ويسرة، ومن أمامهم ومن خلفهم، وهم ينظرون.  وقد انقض على القطار المكوَّن من 8 عربات صبية الرزيقات قتلاً وطعناً لأولئك المستغيثين، حتى بلغت حصيلة المذبحة إياها في خلال ثلاثة أيام (الجمعة إلى الأحد) أكثر من 10,000 من أهل الدينكا، حيث تمَّ حرق جزء منهم أحياءاً، وتمَّ اختطاف الأطفال، وهرب من استطاع الهروب بالقطار إلى نيالا.(54)  وقد أعادت هذه المجزرة عملية الاسترقاق في أقبح ما تكون العمليَّة. وكان بعض من أسماء القتلة معروفاً لدي الذين نجوا من المذبحة، وهناك مجموعة من شهود عيان، ومع ذلك لم تُتَّخذ الإجراءات القانونيَّة ضد الجناة.

والحال كذلك، أولم تقم الميليشيات العربيَّة بمذبحة ما لا يقل عن 600 فرداً من قبيل الشلك في مدينة الجبلين في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1989م؟  بلى!  فماذا جرى في الجبلين في أعقاب أعياد ميلاد المسيح العام 1989م؟  لقد عاشت أثنية الشلك في الجبلين منذ الخمسينيَّات من القرن المنصرم – ولئلا نقول إنَّ مناطق النيل الأبيض جنوب الخرطوم أصلاً هي الموطن الأصلي لأهالي الشلك.  مهما يكن من شيء، فقد نزحت مجموعة من الشلك إلى هذه المدينة بسبب الحرب الدائرة في جنوب السُّودان، وعاشت مع سكان المدينة الذين هم من التعايشة، الذين تعود أصولهم إلى جنوب دارفور.  كما أنَّه لم تكن هناك نشاطات للجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في هذه المنطقة.  إذ أنَّ الميليشيات التي قامت بهذه المذبحة هي من عرب سفاهة.  ففي صباح 28 كانون الأول (ديسمبر) 1989م حضر أحد المزارعين إلى الجبلين قادماً من قرية "أم كويكة" لاصطحاب 11 من العمال الشلك لحصاد محصول الذرة، ولكن رفض العمال العودة إلى العمل تحت إصرارهم أنَّهم ما زالوا يحتفلون بأعياد ميلاد المسيح.  وما كان من المزارع إلا أن أساء لهم قولاً: "ومتى كان العبيد يحتفلون بأعياد ميلاد المسيح؟!"  ومن ثَمَّ وقع الشجار بينهم، وطُعِن المزارع وقُتِل، واعتقلت الشرطة العمال رهن التحقيق.  أما سائق المزارع فقد هرب سراعاً بعربته إلى أهله وأخبر عشيرة المزارع القتيل بما جرى، فتسلَّح أفراد القبيلة بأسلحة آليَّة، وجاءوا في ثمانية لواري، وحاصروا أحياء الشلك في المدينة، يقتلون رجالهم، ويذبحون نساءهم وأطفالهم، ويشعلون النيران على منازلهم.  وقد التجأ نحو 91 شخصاً منهم إلى مركز الشرطة، حيث لاحقتهم العرب وقتلتهم شر قتلة.  إذ قُتِل نحو 35 شخصاً في قرية "إدريسة"، و50 في جزيرة "مصران" على النيل الأبيض، واستمرَّت عمليات القتل في اليوم التالي خارج الجبلين وفي المزارع المجاورة.  فقد حاول البعض الفرار بالعوم، لكنَّهم ماتوا غرقاً، وأصبحت الجثث طافية على النيل لأكثر من أسبوع بعد المذبحة.  وفي يوم 29 كانون الأول (ديسمبر) استطاع الجيش المستقدم من كوستي والشرطة من مدينة الرنك أن يسيطروا على الأوضاع، واُعتقل 17 شخصاَ، بما فيهم 11 من الشلك الذين كانوا في المعتقل في الأساس.  وقد أوردت تقارير مستقلَّة أنَّ جملة الضحايا بلغت 700 قتيل، وكان من بين الضحايا – إضافة إلى الشلك – الدينكا والنوير والبورون.  فقد أقرَّت حكومة "الإنقاذ" في بادئ الأمر أنَّ عدد الضحايا بلغ 181 قتيلاًً و34 جريحاً، لكنها عادت واعترفت بمقتل 214 شخصاً؛ إذ قُتِل 3 من العرب فقط، إضافة إلى المزارع المقتول في المبتدأ.  والجدير بالذكر أنَّه قد "تمليشت" قبيلة سفاهة منذ عهد حكومة السيد الصًّادق المهدي (1986-1989م)، ولم تكن للقبيلة أيَّة عداءات تأريخيَّة مع الشلك، وفي اللجنة التي كوَّنتها الحكومة في التحقيق عن أسباب المجزرة لم تشمل هذه اللجنة شلكاويَّاً واحداً، وقد سبقت أن وصفت الحكومة هذه المذبحة بأنَّها "قتال قبلي" حتى قبل أن تنتظر نتائج لجنة التحقيق.(55)  على أي، فقد جرت هذه المذبحة في الشمال الذي لجأ إليه بعض أهالي الجنوب فراراً من الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان.  ففي هذا الشمال الذي وصفه الكاتب الصحافي – وغيره من طائفته – بالرأفة والرفقة بأهل الجنوب حدث لهم ما جرى في الجبلين وبعض مدن الشمال المختلفة كما شهدنا من صنوف العذاب والتنكيل والتقتيل.

وحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة فإنَّ ميليشيات عربيَّة تدعى "المراحيل" وقوات الدفاع الشعبي – وكلتاهما كانت تتبع للحكومة – كانت تقوم "بالإغارة على قرى الدينكا بهدف سرقة قطعان الماشية.  غير أنَّها لا تكتفي بذلك، بل تأسر المئات من الناس الذين تستخدمهم في الإشراف على القطعان، فضلاً عن عمليَّات الطبخ والزراعة وجمع الحطب وغسل الملابس وغير ذلك من الأعمال المنزليَّة."(56)  فقد كتب إيان فيشر في صحيفة "نيويورك تايمز" يقول: "فقد رأيت عن كثب مئات النساء والأطفال الذين جلسوا تحت ظلال الأشجار يروون قصصاً عن عمليات الاختطاف والاغتصاب التي تعرَّضت لها النسوة، فضلاً عن إرغامهن على العناية بقطعان الماعز على سبيل السخرة."(57)  وكان من بين هؤلاء المختطفين أطفال صغار نسوا لغة أمهاتهم – أي الدينكا – بعد فديتهم وعودتهم إلى أهليهم.  وعلى سبيل المثال، جلست أكول نونج نيان، وهي امرأة من الدينكا وكانت تبلغ من العمر وقتذاك 27 عاماً، جلست على الأرض وهي تحمل طفلة وجهها أقلّ سواداً من وجه أمها، وقالت أكول إنَّ هذه الطفلة لهي ثمرة اغتصاب سيِّدها إسماعيل.  وأوضحت أنَّها أُسِرت قبل عام تقريباً في بلدة "واروار"، حيث اقتحم البلدة رجال يلبسون زيَّاً رسميَّاً ويمتطون خيلاً.  ونتيجة لذلك تمّ ترحيل 250 شخصاً إلى الشمال، ولاقى عشرة أشخاص حتفهم في الطريق من شدة العطش.  كما أنَّ عشرين شخصاً قُتلوا رمياً بالرصاص، وفي إحدى الليالي اغتصبتُ من قبل 10 رجال.  وبعد أن قضت بعض الوقت في أحد المعسكرات جنباً إلى جنب مع العبيد الآخرين، توجهت من بلدة المجلد لتعيش مع إسماعيل، حيث كانت تنام في المطبخ وتغسل الملابس وتحضر الماء، فضلاً عن أنَّها كانت تُرغم على ممارسة الجنس.  كذلك يقول ثيك أنون ثيك، وهو كان طفلاً في الحادية عشرة من العمر، إنَّه أُسِر بدوره في غارة شُنَّت قبل عام، وإنَّه اختطف مع والدته وخمسة من الأقرباء من قرية تدعى "كييل".  وقد عاش في الشمال داخل معسكر يضم عبيداً آخرين، حيث كان يرعى شؤون قطيع من الماعز.  ويقول إنَّه كثيراً ما تعرّض للضرب.  وقد ساعده أحد الحرس على الهرب قبل أن يسلمه إلى عدد من التجار الذين كانوا يتعاملون مع جون إيبنر، والذين كلفوا بزيارة بيوت ومعسكرات التجار العرب في الشمال، حيث يعرضون عليهم الأموال مقابل إطلاق سراح العبيد.(58)  وفي العام 1993م دخلت القوات الحكوميَّة قرية "بانكويل" في جنوب السُّودان، حيث نهب أفرادها ممتلكات البيوت، وسرقوا المواد الغذائيَّة، والماشيَّة والماعز والأطفال.  وكان من بين هؤلاء الأطفال المختطفين أبيو ماجوك (12 عاماً) وشقيقتها أكوير (9 أعوام)، اللذين اقتادوهما أمام أعين والديهما وإخوتهما المهلوعين، إلى القطار المتوجه نحو الشمال، حيث افترقتا في موقع ما في الطريق.  وبعد شهور، عثرت الشرطة على أكوير في مدينة أويل، وأطلقت سراحها.  أما أبيو فلم يتم العثور عليها برغم من الجهود المضنية التي بذلها والديها للتعرف على مكان تواجدها.

وفي يوم 25 آذار (مارس) 1995م هاجم العرب قرية "مانييل"، حيث نهبوا الممتلكات وحرقوا المنازل واختطفوا الأطفال والنساء والفتيات واتجهوا بهم إلى الشمال، وخلفوا وراءهم 30 من القتلى.  أما الذين بقوا على قيد الحياة وأخذوا يساعدون الجرحى باتوا ينتظرون العرب تحت ظلال الشجرة ليعودوا ويقتلوهم، كما عبَّرت عن حالهم أدوت وول نقور.  وحين سألها الصحافي الأجنبي عن تعداد أفراد الميليشيا، ردَّت: "إنَّ الذي ليرغب أن ينقذ حياته لا يضيع وقته في تعداد الخيول، وإنَّ الأطفال الذين رفضوا الذهاب معهم تمَّ قتلهم، أما الذين أذعنوا لهم تمَّ عقلهم بالحبال وأمسوا يجرونهم وراء خيولهم كالماشية."  أما أشويل قرنق فقد تعرَّضت لإطلاق النار، حيث جرحتها رصاصة في جانبها، ومن بعد طُعِنت بالحربة، وحُرق اثنين من أطفالها حتى الموت، أما ثالثهم – والذي كان يبلغ من العمر ست سنوات – فقد تم استرقاقه.  وإنَّ هؤلاء المسترقين هم ممن استرعوا انتباه الصحافيين الأمريكيين جيلبيرت ليوثويت وقريقوري كين، حتى سافرا إلى المنطقة للتأكد عن أقاصيص عودة الرق في السُّودان والتي ملأت الدنيا ولم تقعدها.  ثمَّ إنَّ حالهم لهي التي أجبرت البارونة كارولين كوكس أن تحث حكومة رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور (من حزب المحافظين) على فرض عقوبات على السُّودان في مجالي النفط والسِّلاح وقطع العلاقات الديبلوماسيَّة معه، حتى تسمح الحكومة السُّودانية بالقيام بانتخابات ديمقراطيَّة حرة ونزيهة، وفتح البلاد لمراقبي حقوق الإنسان ووكالات الإغاثة الدوليَّة التابعة للأمم المتحدة وغيرها، مثل: اليونسيف، والمفوضيَّة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، واللجنة الدوليَّة للصليب الأحمر.  ولم تكن هذه المرأة المسترقة حرة، محتفظة بكرامتها الشخصيَّة، حريصة على أن تكون لها منزلة السيدة، وإنَّما كانت مبتذلة ممتهنة.  وبما أنَّ هؤلاء المختطفين من النساء والأطفال لا يتمتَّعون بحريَّة اختيار من يرغبون زواجهم، أو معاشرتهم من بني جنسهم، فضلاً عن أنَّهم يعملون لساعات طويلة ودون أجر، فإنَّ معاملتهم لترقى إلى وصفها بالعبوديَّة.  وإنَّ جهلهم بحقوقهم المدنيَّة والقانونيَّة، وخوفهم من إعادة القبض عليهم – وبالتالي تعذيبهم – ليجعلانهم يتردَّدون في أكثر ما يكون التردُّد في الهروب.  وبرغم من ذلك كله، يقول أولو السلطة في الخرطوم إنَّ هذه الممارسات ما هي إلا مجرَّد "خطف واسترهان"، وهي – كما يزعمون – سلوك قبلي قديم تعرفه كل القبائل والتركيبات الاجتماعيَّة والتقليديَّة.  وقد استنكر البروفسير محمد إبراهيم خليل – وزير خارجيَّة السُّودان الأسبق ورئيس الجمعيَّة التأسيسيَّة العام 1986م – في أشدّ ما يكون الاستنكار تهاون الأنظمة "الخرطوميَّة" في هذا الأمر، وأكد أنَّه "ليس صحيحاً أنَّ الذين يتحدَّثون عن الرِّق (في السُّودان) صليبيُّون وصهاينة."(59)  والبروفسير خليل قانوني ضليع يُشار إليه بالبنان، شأنه في ذلك شأن كل جهبذ قانوني لم يلق الكلام على عواهنه، ولم يأخذ الحوادث بظواهرها، بل استند إلى كل الحقائق القانونيَّة التي تجرم هذه الممارسات ومثلها، ولو أنسنها رجال الحكم.

بيد أنَّ هناك إخوة من أهل الجنوب الذين استمالتهم الحكومة إلى نحوها، وأمسوا مشدودين إلى السلطات الحكوميَّة، وباتوا يعزفون لها، ويرقصون على أنغامها، ويردِّدون شعاراتها لدرء الحق بالباطل وهم يعلمون.  وكان أنجلو بيدا واحداً من هؤلاء المسيحيين الجنوبيين الذين تلاحقت مصالحهم وتلاقت مع الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، فعيَّنوه عضواً في المجلس الوطني (البرلمان).  فقد قال بيدا – الذي كان يتحدَّث في مؤتمر دعمه معهد شيلر في واشنطن دي سي في 20 نيسان (أبريل) 1996م – إنَّهم لا يرغبون في الإطاحة بالحكومة، لأنَّ ليس هناك أحداً منهم يود أن يحكم السُّودان.  وعزا أسباب الاضطرابات في السُّودان إلى "القوى الأجنبيَّة التي ترغب في تدمير سيادة السُّودان (...) وإنَّه لمن الأمر المخجل أن نقول إنَّ هناك رقاً في السُّودان، فبالعكس هناك نسبة عالية من البطالة.  وإنَّ هؤلاء العاطلين لمستعدون أن يعملوا دون أجر.  ولا أحتاج إلى عبد، ولي أسرة كبيرة، حيث هناك أناس يقيمون في بيتي، وليس هناك سوقاً للرق في أي مكان في إفريقيا."(60)  ألم تر كيف بسَّط بيدا المشكل السُّوداني إلى التنافس التقليدي وغياب التنمية، وأقرَّ أنَّه بالإمكان علاج هذه القضيَّة بالاستيطان الزراعي!  وهذه المقولة تعطيك صورة من المداراة السياسيَّة، وحرص الزعماء السياسيين المهرة على استغلال النفاق السياسي، فيقبل أهل السلطة منهم نفاقهم السياسي ويقرونه عليهم،، حتى ولو كانوا يعلمون حق العلم أنَّهم ليسوا صادقين في مدحهم ولا مخلصين في الدفاع عنهم، ومع ذلك يجيزونهم ويقربونهم ويستزيدونهم مدحهم، ويذيعون هذا المدح في الناس دفاعاً لأنفسهم، وليغيظوا به خصومهم السياسيين بنوع خاص.  وهل عجزت أية حكومة من حكومات السُّودان من إيجاد جنوبيين يدارون ويسالمون ما عجزوا عن مناوأتهم وإشهار الحرب عليهم؟  كلا!  ثمَّ أي الأحزاب السياسيَّة، أو حكومة من الحكومات، يستطيع أن يستغنى في أي عصر من العصور عن هؤلاء المنافقين السياسيين الذين أُتيحت لهم ألسنة طوال وأخلاق مرنة، فهم ينتفعون وينفعون.  ومثل هؤلاء الناس متملِّقين متكلِّفين متصنِّعين حين يمدحون أصحاب السلطة؛ لأنَّ ميلهم إليهم لا يكون إلا بمقدار طعمهم فيهم؛ وكأنَّ أهل السلطة يشعرون منهم بذلك، فيحتملونهم احتمالاً، ولا يضمرون لهم حباً صادقاً.

ومع ذلك، فالأسوأ في الأمر كله أنَّ معاييرنا الأخلاقيَّة للتمييز بين الخطأ والصواب قد تأثَّرت كليَّاً بهذه الحرب.  فقد شهدت هذه الحرب عودة الاسترقاق والممارسات التي ترقى إلى الوصف بالرق، وهي اختطاف النساء والأطفال من قراهم في جنوب السُّودان حتى يتم فدية بعضهم بعضاً واختفاء البعض الآخر نهائيَّاً.  برغم من ذلك كانت الدوائر الحكوميَّة والشعبيَّة في شمال السُّودان لا تعترف بوجود تلك التجاوزات الإنسانيَّة، وكانوا يجادلون بأنَّ ما هو ممارس هو ليس بالرِّق التقليدي، بل ممارسات عاداتيَّة في الحروب القبليَّة التي قد تنشأ بين الحين والآخر.  وإذا كان الأمر كذلك فلم يتم هذا الاختطاف من جانب واحد، وفي اتجاه واحد – أي أخذ الأطفال والنساء من أهل الجنوب إلى الشمال؟!  وقد كتب الدكتور فرانسيس دينج يقول: "إنَّ شخصيَّة مرموقة من طائفة دينيَّة سائدة (في السُّودان) قد ذكرت له أنَّهم تلقوا رسائل من أنصارهم ومريديهم يستفسرون ما إذا كان قتل الدينكاوي ممنوع أو مسموح به في الإسلام."(61)  إنَّ كل هذه المؤثرات قد أفضت إلى استقطاب سياسي حاد على أسس عرقيَّة وثقافيَّة ودينيَّة، وباتت السلطة في الخرطوم – بدلاً من أن تسمو فوق الوجود الاجتماعي الذي يفرِّق بين أبناء الوطن الواحد – باتت تمثِّل هُويَّة بعينها، أو فصيلة في حد ذاتها.

ومنذ البداية لعبت العوامل الإقليميَّة والدوليَّة دوراً رائساً لصالح نظام "الإنقاذ" في الحرب الأهليَّة  في جنوب السُّودان.  وفي هذه الأثناء اشتركت مصالح المعارضة الإثيوبيَّة من جهة، والنظام في الخرطوم من جهة أخرى، والحكومة الأمريكيَّة من جهة ثالثة (An alliance of convenience) في اجتثاث نظام منغيستو هايلي ماريام في أديس أبابا في أيار (مايو) 1991م عسكريَّاُ.  وقد استفاد أهل "الإنقاذ" الاستفادة كلها من دعمهم للثوار الإثيوبيين في السماح لعملاء النظام السُّوداني بالتوغل داخل الأراضي الإثيوبيَّة للاستطلاع، وقيام طائرات السلاح الجوي السُّوداني بالهجوم على معسكرات اللاجئين السُّودانيين، قتلاً وجرحاً وترويعاً للأطفال والنساء، الذين فروا تلقاء السُّودان.  وكان من ضمن أولئك النَّازحين الذين تقطَّعت بهم السبل وفرَّقتهم الأسباب من أهليهم 10,000 طفل والذين ظهروا فجاءة في قرية "قوركو" في جنوب السُّودان في تشرين الثاني (نوفمبر) 1991م.  وبعد هجوم القوات الحكوميَّة على هذه القرية نزح هؤلاء الأطفال إلى "ناروس"، ليرتفع العدد إلى 16,000 طفل وصبيَّاً، إضافة إلى 5,000 رجل وامرأة من المعسكرات الأخرى المجاورة.  لقد بدأت مأساة هؤلاء الأطفال، الذين تراوحت أعمارهم بين 7 – 14 عاماً، منذ العام 1987م في جنوب السُّودان، وبعد تجوالهم في غابات ومياه القرن الإفريقي، وصل 12,000 منهم إلى معسكر "كاكوما" في شمال كينيا، وباتوا تحت رعاية مفوضيَّة الأمم المتحدة لرعاية الأطفال واللاجئين، وأمسوا يُعرفون باسم "أطفال السُّودان الضَّائعين" (The Lost Boys of Sudan).  وفي هذه الرحلة الشاقة، ابتداءاً من قرية ببحر الغزال إلى معسكر "بينيودو" بإثيوبيا ثم إلى أقاصى جنوب السُّودان، مات بعضهم بسبب الجوع، وهُلِك البعض الآخر بالعطش، وافترست الأسود اثنين منهم، وغرق أقرانهم في نهر قيلو الذي حاولوا عبوره بُعيد هروبهم المضطرب من معسكر اللاجئين في إثيوبيا، وذلك أثناء الإغارة التي تعرَّض لها المعسكر من قبل قبائل إثيوبيَّة مسلحة مناوئة لنظام العقيد الإثيوبي منغيستو هايلي ماريام، ثمَّ لقي خمسة منهم حتفهم – مع اثنين من أفراد الحرس المكوَّن من قوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان – إثر الهجوم الذي شنَّه عليهم قبيل "التابوسا" بالقرب من قرية ماقوث في ليلة ليلاء.  وبعد وصولهم إلى الملاذ الأخير كان من بينهم من بات يعاني من جروح الحرب، وهناك طفل فقد عينه اليسرى بعدما حاولت الضبع قتله وهو في المنام، وهناك من بُتِرت أطرافه بعد لسع الأفاعي أو بعد إصابته بالغنغرينا، ثمَّ كان من بينهم طفل يئن من ألم أليم بعد أن أطلقت عليه عصابات "التابوسا" رصاصة اخترقت أحشائه واستقرَّت في بطنه.  وقامت منظمة الصليب الأحمر الدوليَّة برعايتهم وعلاجهم.  وفي العام 2000م وافقت الولايات المتحدة الأمريكيَّة على استيطان 3,600 منهم في أمريكا، وبخاصة أولئك الذين فقدوا أولياء أمورهم، وأُخِذوا في مجموعات إلى 10 ولايات أمريكيَّة، حيث شرعت وسائل الإعلام الغربيَّة تتابع تحركاتهم، وتذيع عن نشاطاتهم في التعليم والرياضة والتفاعل مع المجتمع الأمريكي.(62)

فلم يشهد تأريخ الحرب الأهليَّة في السُّودان من قبل نظاماً استخدم الدين والإعلام كما حدث في عصر "الإنقاذ".  أفلم يكن باسم الجهاد في سبيل الله أفلح النظام في أن يجنِّد الشباب، حتى أمسوا يرون القتل مجداً، واستثار فيهم حمية الشهادة في يوم الكريهة، والزواج بالحور العين؟  بلى!  والكريهة من أسماء الحرب، سُمِّيت بها لأنَّ النفوس تكرهها.  أولم يكن باسم الدين استطاع النظام أن يشحذ همم المواطنين للتبرع لأغراض الجهاد، وجمع الضرائب (دمغة الشهيد)، وإقناع الثكالى والأرامل بعدم التأسِّي على موتاهم والتندب في فقدانهم في ساحات الفداء لأنَّهم شهداء عند ربهم، حتى استحالت المآتم إلى دور فيها يندب الناس شجواً بين الحزناء؟  بلى!  لقد تم ذلك كله خلال وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئيَّة، وعبر فترة زمنيَّة ليست بقصيرة.  إنَّ الإعلام المنحاز لطارقي طبول الحرب من جانب الحكومات سيظل يلعب دوراً بارزاً في استمراريَّة الحروب أية حروب، ولا سيَّما حين تُسخَّر كل إمكانيات الدَّولة الهائلة لهذا الغرض.  وقد قال السيِّد لويد جورج للسيِّد سي بي سكوت - رئيس تحرير جريدة "القارديان" البريطانيَّة - والحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) في قمَّتها: "لو أدرك النَّاس حقيقة ما يجري، سوف تتوقَّف الحرب غداً؛ لكنَّهم، بالطَّبع، لا يعلمون ولا يمكنهم أن يعلموا ما يحدث".  وفي سبيل هذا الإعلام التضليلي كتب علي صالح أحمد في الثمانينيَّات يقول: "أنَّ إسرائيل عندما تؤيِّد حركة التمرُّد (الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان)، وتدعمها فإنَّ هذا ليس حباً في سواد أهداب وآهاب قادة حركة التمرُّد، وإنَّما لتهدف من وراء ذلك إلى جعل جنوب السُّودان أرضاً للميعاد، ونشر الديانة اليهوديَّة بها بواسطة يهود الفلاشا الإثيوبيين المهجَّرين بالذات.  فكأنَّما تريد دولة الكيان الصهيوني أن تقول لنا (هذه بضاعتكم رُدَّت إليكم)، بعد أن عرَّت محاكمات يهود الفلاشا الشهيرة النظام المباد، وكشفت توريطه في هذه القضيَّة".(63)  ولسنا ندري ماذا كان يعتزم الكاتب أن يقوله بين الناس، ويذيعه في الصحافة المقروءة في ذلك الحين من الزمان.  ففي خلال التأريخ القديم والجديد، وتأريخ الشرق الأوسط، بل وتأريخ العالم كله، لم نكد نرى أو نقرأ أو نسمع عن مبشِّرين يهود.  ولم نر في حياتنا كلها التوراة مطبوعة باللغة العبريَّة – مع قلة المتحدثين بها – بحيث يتم توزيعها مجاناً، ولأغراض الدعوة اليهوديَّة، كما هي الحال مع الإنجيل أو القرآن.  ومن ذا الذي يستطيع أن يذكر لنا منظمة إغاثة يهوديَّة واحدة تقوم بما تقوم به المنظمات الإغاثيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة؟  فالتبشير الديني ظاهرة اتَّسمت بها الديانتان المسيحيَّة والإسلاميَّة في العهدين التليد والطريف.  فدولة إسرائيل لديها ما لديها من المشكلات الأمنيَّة، والتي تحاول الفكاك منها، وتأمين حدودها وكيانها من المخاطر المحدقة بها من دول الجوار؛ وفوق ذلك كله القضيَّة الفلسطينيَّة.  ولكن قد شغل السُّودانيُّون أنفسهم بالقضيَّة العربيَّة أكثر من العرب ذاتهم، فإذا هم لسانهم السياسي، وإذا هم أشد الناس انتصاراً لهم، وأبلغ الناس دفاعاً عنهم، ثمَّ إذا هم منتفضون فإذا هم عرب أكثر من العرب أنفسهم؛ وإلا ماذا يعني ذلك كله في الحين الذي أخذت الدول العربيَّة تعقد اتفاقات سلام وتطبيع مع إسرائيل، بما فيها السلطة الفلسطينيَّة – أي الشريك الرئيس في القضيَّة نفسها.  أيَّاً كان من الأمر، فقد كان هذا الاستغلال السيئ للدين الإسلامي من خلال الإعلام جديراً بإفساد الأمة اجتماعيَّاً، وفساد المجتمع يرجع دوماً إلى فساد الثلة الحاكمة، وقد قيل: النَّاس على دين ملوكهم؛ فإنَّ الأمة عالة على العلماء وعلى العباد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال النَّاس، كما قال ابن المبارك:

وهل أفسد الدِّين إلاَّ الملوك                 وأحبار سوء ورهبانها

وكما ذكرنا آنفاً، فقد اعتمد نظام "الإنقاذ" سياسة العمل الاستخباراتي وسط قادة الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، مما أسفر عنها ذلكم الانشقاق الذي قاده ثالوث الناصر المكوَّن من الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول أجاوين والرائد غوردون كونق شول في 28 آب (أغسطس) 1991م.  وبنظرة موضوعيَّة للانشقاق الذي قادته مجموعة الناصر نجد أنَّه قد أثَّرت في مسار الحركة النضاليَّة للحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في أربعة محاور.  أما أولها فقد تسبب الانشقاق في خلق كارثة إنسانيَّة تمثَّل في النِّزاع القبلي (دينكا-نوير)، والذي أفرز تجاوزات إنسانيَّة مفزعة ومروعة، وبخاصة ما جرى في مدينة بور والمناطق المجاورة لها العام 1991م.  وأنت تعلم آثار البغض السياسي، وما تحدثه من فتن لمن لم يوفَّق فيها إلى النّصر، وكذلك شأن الانتقام السياسي، يصيب البريء قبل أن يصيب المسيء.  أما ثانيها فقد عرقل تواجد المنشقين في الناصر ومناطق بانتيو بأعالي النيل انسياب الإمداد الحربي إلى مناطق قوات الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في جنوب النيل الأزرق وجبال النُّوبة، على التوالي، مما تسبب في انقطاع الاتصالات والتنسيق بين قيادات الحركة في هذه المناطق ومركز القيادة العليا في توريت.  أما ثالثها فتمثَّل في إضعاف الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان سياسيَّاً وديبلوماسيَّا وعسكريَّاً، مما استطاع نظام "الإنقاذ" أن يحقق بعضاً من الانتصارات العسكريَّة في المعارك التي تلت، فضلاً عن استخراج النفط في الجنوب وتصديره.  أما رابعها فقد دخل شعار "حق تقرير المصير" في أدبيات الحركة الشَّعبيَّة، وبخاصة بعد اتفاقيَّة فرانكفورت – ألمانيا – في كانون الثاني (يناير) 1992م، التي وقعها كل من الدكتور لام أكول أجاوين ممثلاً عن الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان (جناح الناصر) من جهة، والدكتور علي الحاج محمد ممثلاً لحكومة السُّودان من جهة أخرى.  هذا وقد وافقت الاتفاقيَّة – فيما وافقت – على إجراء استفتاء لتقرير المصير بعد فترة انتقاليَّة عمرها خمس سنوات، وذلك لتكريس شقة الخلاف بين الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشعبي لتحرير السُّودان بقيادة الدكتور جون قرنق من جانب، وجماعة الدكتور رياك مشار من جانب آخر.  ومن هذا الباب دخلت مفردة حق تقرير المصير في القاموس السياسي السُّوداني.  هذه هي الأثناء التي فيها اجتمعت قيادة الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في توريت في أيلول (سبتمبر) 1992م، وتوصَّلت إلى قرارات هامة، منها: الوحدة الطوعيَّة المتفق عليها، الكونفيديراليَّة، وأخيراً حق تقرير المصير.  وعندما ارتفعت أصوات المنشقين تنادي بفصل جنوب السُّودان، وتخيير أهل النُّوبة والأنقسنا فيما إذا كانوا يبغون البقاء في دولة شمال السُّودان أو الانضمام لجنوب السُّودان، لم تجد دعوتهم هذه استجابة من أبناء النُّوبة أو الأنقسنا في الحركة الشَّعبيَّة.  فقد كان انخراط أبناء النُّوبة في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بشكل عام مردَّه مناشدة الحركة بتحسين الخدمات الاجتماعية والإصلاحات السياسية وتوفير قدر مطمئن من أي نوع من أنواع الحكم اللامركزي، وبشكل خاص التركيز على المناطق الأقل تنمية وحظاً في المشاركة في السلطة بما فيها جبال النُّوبة.  بل مثَّل أبناء النُّوبة الصوت الراجح داخل الحركة الشَّعبيَّة حرباً وإعلاماً، لأنَّهم أكَّدوا على وجوب التمسك بوحدة السُّودان وفق معايير جديدة تنبني على العدل والمساواة والحرية والدِّيمقراطيَّة واحترام حقوق الإنسان.  ولما تراشقت فصائل الحركة الشَّعبيَّة، بعد الانقسامات التي تلت، شعر أبناء النُّوبة بأنَّهم ليسوا طرفاً في الصراع الدَّامي بين أبناء الجنوب، وأنَّ الزج بهم في أتونه يخالف المبادئ التي التحقوا على ضوئها بالحركة، ولذلك استثمروا جهودهم في مقاومة الحكومة، وأبلوا في هذه المقاومة بلاءاً حسناً.

فقد "جاء انقلاب العام 1991م بقيادة الدكتورين لام أكول ورياك مشار (والرائد غوردون كونق)، الذي لم يقم على دوافع وطنيَّة، (دون أن يراعوا) التضحيات الجسام التي قدَّمها المنتسبون للحركة الشعبيَّة، ولم يراعوا الانتصارات التي حقَّقتها الحركة في البداية، (حيث) كانت قائمة على طرحها الذي يقوم على بناء سودان موحَّد جديد.  حتى الذين لم ينتسبوا للحركة الشعبيَّة كانوا يتعاطفون مع هذا الطرح، لأنَّ خطاب الحركة الشعبيَّة لم يخاطب أبناء الجنوب وحدهم، وإنَّما خاطب مجموع أقوام السُّودان المختلفة.  وبالتَّالي أراد ذلك الانقلاب إرجاع الحركة إلى نقطة البداية برفع شعار الانفصال، الذي قاومته الحركة الشعبيَّة فكريَّاً وسياسيَّاً وعسكريَّاً في بداية تكوينها."(64)

ولعلَّ المعاذير التي رفعها المنشقون لدعم انشقاقهم عن الحركة الشعبيَّة كانت ذاتيَّة لإشباع طموحاتهم الشخصيَّة في السلطة في المقام الأول، وجهويَّة لكسب تأييد أهل الجنوب ضد الحركة الشعبيَّة (الجناح الرئيس) في المقام الثاني، ثمَّ إنَّهم كانوا غير صادقين فيما ذهبوا إليه من الغلو والإسراف في سبيل النضال، وذلك لتعاونهم مع النظام "الإنقاذي" الذي كانوا يدَّعون أنَّهم في حرب ضده في المقام الثالث.  وبذلك مثَّلوا عقليَّة حفنة من غلاة أهل الجنوب الذين كانوا غير صادقين في غلوهم، حيث يستبيحون فيه الكذب ويعتقدون مع ذلك أنَّهم لا يكذبون.  لذلك قال عنهم قرنق: "سنوات قليلة ولسوف نرى كيف ستلتهم الانشقاقات هذا التيار الذي ينقصه الهدف والإستراتيجيَّة."(65)  إذ سرعان ما انشق الدكتور لام أكول أجاوين عنهم، وفصَّل لنفسه "الحركة الشعبيَّة المتحدة"، حيث لم تكن متحدة مع عناصرها المختلفة، ولم تكن تسعى لأمر الوحدة الوطنيَّة في السُّودان بدليل تشدقها بأمر حق تقرير المصير لجنوب السُّودان الذي لو قُيِّض له أن يتم فلربما أفضى إلى الانفصال.  لذلك نجد أنَّ كلمة "المتحدة" كانت قد حُشِرت في الاسم ككلمة زائدة لا محل لها من الإعراب.  وفي الحق، تحقَّقت تنبؤات الدكتور قرنق بانشقاق كل من الدكتور لام أكول، وبعده القادة كاربينو بول كوانين وأروك ثون أروك عن جماعة الدكتور رياك مشار، ثم لحقهم في الانشقاق سيمون موري ديدومو، الذي كان واحداً من هؤلاء المنشقين وليس بآخرهم، وهو ينتمي إلى قبيل أنواك في منطقة "أكوبو" شرق ولاية الاستوائيَّة قرب الحدود مع كينيا.  فبرغم من تحالف الدكتور مشار مع النظام "الإنقاذي"، إلا أنَّ مهندسي النظام نفسه لم يكفوا عن الاستهوان به سراً وعلانيَّة.  وهنا تجدر الإشارة إلى حديث الدكتور حسن عبد الله الترابي في إحدى الدوريَّات العربيَّة التي تصدر في لندن؛ إذ قال عنه: "أما (الدكتور) رياك مشار فليس مهمَّاً، وتستطيع القوات الحكوميَّة أن تستأصل كل أراضيه في لحظات."(66)  وقد قال فيهم السيِّد الصَّادق المهدي: "(إنَّ) هذه الفصائل لتهيمن عليها عوامل الطموح الشخصي، والتنافس القبلي، والتطلع الانفصالي، والتحالف السياسي والعسكري مع نظام الخرطوم ليحميها من القوة العسكريَّة الرئيسة – أي الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بقيادة الدكتور جون قرنق."  وإنَّ تسميتها ب"الفصائل المقاتلة" لتسمية زائفة، والصحيح أن تُسمَّى الفصائل المتحالفة مع النظام.  فهناك تنظيم سياسي غير مسلَّح كان قد وقَّع على اتفاقيَّة الخرطوم للسَّلام باسم اتحاد الأحزاب الإفريقيَّة السُّودانيَّة، فما هو وزنه السياسي؟  علماً بأنَّ اتحاد الأحزاب الإفريقيَّة السُّودانيَّة عضواً فعيلاً كان في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض للنظام يومئذٍ، ثمَّ إنَّه لم يلوِّث نفسه بالاختلاط مع النظام.(67)  وفي 14 آب (أغسطس) 1995م عقد بعض أعضاء حركة وجيش استقلال جنوب السُّودان مؤتمراً صحافيَّاً في قاعة شيستر بنيروبي – حاضرة كينيا – وأعلنوا أنَّهم قاموا بانقلاب ضد الدكتور رياك مشار.  وقالت المجموعة، التي تزعمها جون لوك جوك، إنَّهم حلوا اللجنة التنفيذيَّة الوطنيَّة، وعيَّنوا القائد وليام نيون باني رئيساً للمجلس التنفيذي الانتقالي الجديد.(68) 

وقد زعم هؤلاء القادة القدامى-الجدد أنَّ أهدافهم العاجلة تتمثَّل في الآتي:

(1)     تطبيق توصيات إعلان لافون في 27 نيسان (أبريل) 1995م في السَّلام، والمصالحة ووحدة الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان مع شعب جنوب السُّودان.

(2)     الوقف الفوري للقتال الدائر وسط قوات حركة وجيش استقلال جنوب السُّودان في مناطق لاو وفنجاك، حتى ننقذ اضمحلالها واستسلامها لحكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة.

(3)     إيجاد حلاً سريعاً ومستديماً لنزاع لاو-جيكاني، الذي حصد كثيراً من الأرواح وأضاع كثيراً من الممتلكات.

(4)     توفير الإمداد العسكري لقوات حركة وجيش استقلال جنوب السُّودان قبل موسم الجفاف القادم.

(5)     بناء السَّلام والأمن على مستوى القواعد في كل المناطق التي تقع تحت نفوذ حركة وجيش استقلال السُّودان، ومع القبائل والشعوب المجاورة.

(6)     توفير الأمن والسماح لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكوميَّة الأخرى لتقديم الإغاثة للسكان المحتاجين.

(7)     عقد اجتماع طارئ لمجلس التحرير الوطني لحركة وجيش استقلال جنوب السُّودان لمناقشة الأزمة الحاليَّة.

أما عن الموقف السياسي المبدئي لحركة وجيش استقلال جنوب السُّودان فهو التمسك بحق تقرير المصير لشعب جنوب السُّودان والشعوب المهمَّشة الأخرى التي تحارب مع أهل الجنوب، هكذا أعلنت المجموعة المنشقة.  كذلك أقرَّ هؤلاء القادة التعاون الكامل مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في كل المناحي، وبخاصة في الجبهات العسكريَّة والسياسيَّة والديبلوماسيَّة، كما التزم هؤلاء القادة على تكوين حركة موحَّدة وجيش واحد تحت قيادة موحَّدة بعد حل القضايا الإداريَّة والتنظيميَّة بواسطة جميع الأطراف كما حثَّ على ذلك إعلان لافون.  وكذلك أقرّوا بأنَّهم لسوف يعملون على الحل السلمي لإنهاء الحرب الأهليَّة في السُّودان تحت رعاية منظَّمة "الإيقاد"، وأدانوا أي نوع من التعاون مع حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وأعلنوا تأييدهم لإعلان أسمرا للقضايا المصيريَّة العام 1995م، وبخاصة الاعتراف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السُّودان. 

مهما يكن من شيء، فإنَّ مسألة الحرب الأهليَّة في السُّودان كانت قد أمست من القضايا المحوريَّة التي كان ينبغي على كل حكومة سودانيَّة البت في علاجها بجديَّة حفاظاً للأرواح أولاُ، وانطلاقاً لتحقيق شعارات حقوق الإنسان، والتنمية الاقتصاديَّة، والعدالة الاجتماعيَّة، ونشر التعليم، وتعميم الخدمات وغيرها ثانياً.  فمبعث هذا الاهتمام والقلق يعود إلى الموت الذي كان يحصد أرواح المواطنين السُّودانيين، والأموال التي كانت تبذل لإدارة هذه الحرب، والكوارث الصحيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة التي نجمت عنها، من مجاعات متكرِّرة وأوبئة فتاكة ونزوح داخلي ولجوء خارجي وهلمجرَّاً.  وقد لخَّص أحد السُّودانيين دواعي هذه الحرب في النقاط التالية:

(1)     صاحبت هذه الحرب اللعينة أخطاء إداريَّة وسياسيَّة وسوء تقدير قاتل خلق من الصدف المحضة قضية يعاني السُّودان من آثارها حتى اليوم.

(2)     تغذِّي هذه الحروب والانقسامات أصابع ومصالح ومطامح أجنبيَّة وجدت مناخاً مريحاً وسط الطموحات الشخصيَّة المخيولة للنخب السياسيَّة والعسكريَّة الجنوبيَّة.

(3)     انفراط عقد الانضباط العسكري وبدأ في التلاشي في المؤسسة العسكريَّة، وتلاشت أسس قواعد الاشتباك (The rules of engagement)، بدءاً من عهد اللواء حسن بشير نصر – نائب الفريق إبراهيم عبود، الذي عمل في الجنوب "سياسة الأرض المحروقة" (Scorched-earth policy) لتصب الزيت على نار متقدة، وكان من الممكن تلافي هذا الأمر بقليل من الحكمة والبصيرة والحزم.

فإذا اتفقنا مع وارد هذه النقاط الثلاثة في النقطتين الأولى والأخيرة، إلا أنَّنا لا نتفق معه في الثانية.  فهذه هي ادعاءات أهل الشمال عندما يتحدَّثون عن الصفوة الجنوبيَّة، حيث يصفونهم بالعمالة لجهات أجنبيَّة في محاولة منهم للتقليل من وطنيتهم أولاً، ونعتهم بعدم المقدرة على اتخاذ القرار السياسي بمفردهم دونما تنفيذ مخططات قوى استعماريَّة خفيَّة ثانياً.  فهذا ما ظلَّ يردِّده قادة الشمال من رجال الأحزاب السياسيَّة ورؤساء حكومات على رئيس الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – الدكتور جون قرنق، ومن قبل عن اللواء (م) جوزيف لاقو حين كان يقود حركة الأنيانيا في أحراش الجنوب حتى العام 1972م.  وما أن وقَّع لاقو اتفاق السَّلام مع الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري حتى بات أهل الشمال يغدقون عليه الثنايا والثواب، وكأنَّما "عميل الأمس" قد انقلب وطنيَّاً ثوريَّاً بين عشيَّة وضحاها؟!  وفي شأن العمالة هذه جال بخاطرنا جدال دار بين صديقنا الدكتور الباقر عفيف مختار والسيد الصَّادق المهدي في القاهرة في التسعينيَّات على هامش مؤتمر مركز الدراسات السُّودانيَّة.  وقد سأل الدكتور مختار السيَّد الصادق المهدي لِمَ لم تسع حكومة سيادتكم سعياً جاداً في عمليَّة السَّلام مع الدكتور جون قرنق – قائد الحركة الشعبيَّة؟  فرد السيد الصَّادق المهدي بأن قرنق كان قد ارتهن نفسه وحركته لنظام العقيد الإثيوبي منغيستو هايلي ماريام، وأضاف الصَّادق أنَّ قرنق كان مسلوب الإرادة، أي بمعنى آخر إنَّه كان قد جعل من نفسه عميلاً لقوى أجنبيَّة ضد السيادة الوطنيَّة.  وحين رد الدكتور مختار مستهجناً ذلك القول بالتساؤلات التالية: هل كان معارضتكم ومناقضتكم في ليبيا باسم الجبهة الوطنيَّة المتحدة لنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري في السبعينيَّات عمالة لقوى أجنبيَّة ضد سيادة السُّودان؟  وهل كان هجومكم على الحكومة في الخرطوم في 2 تموز (يوليو) 1976م تنفيذاً لمخططات أجنبيَّة معادية للسُّودان؟  ومع ذلك لم يقل عليكم أحد بأنَّكم ارتهنتم أنفسكم لنظام العقيد الليبي معمر القذافي، بل احتفظتم بوطنيَّتكم!  فما الجديد في أمر الدكتور قرنق، إذن؟!  إذ لم يستطع السيَّد الصَّادق المهدي – الذي أُوتِي فضلاً في الكلام – أن يتفوَّه بكلمة واحدة من بعد هذه التساؤلات الحرجة الدامغة.

وليس إلى الشك سبيل في أنَّ الحرب في جنوب السُّودان – وغيرها من مناطق النِّزاع المسلَّح - وبسبب السياسات الرعناء التي انتهجها النِّظام "الإنقاذي"، أمسى المواطن السُّوداني يعيش عيشة الكفاف بلا غذاء ولا دواء ولا كساء.  وبات النِّظام، الذي كان الناس منه في أمرٍ مريج، لا يسمع صراخ المعذَّبين في الأرض، وعويل الثكالى، وأنين المرضى، ومعاناة الجَّائعين، بل استعدى كل حزب معارض وكل من شجب الوضع المأسوي لمواطني الجنوب، وكأنَّما الرأي المتطوِّر الحضاري المكوَّن خارج شرنقة الأفكار القديمة إثم عظيم.  وكان ذلك كله بسبب العقوبات الاقتصاديَّة تارة، والحال الاجتماعيَّة التي وجد فيها المواطن السُّوداني نفسه من الضرائب الباهظة التي كانت تذهب إلى تمويل الحرب تارة أخرى.  وكان من أشراط المجتمع الدولي والدول المانحة للقروض هو تحقيق تقدم في عمليَّة السلام، واحترام حقوق الإنسان قبل التفكير في رفع أيَّة قيود اقتصاديَّة وسياسيَّة وديبلوماسيَّة عن السُّودان؛ وتتلخَّص هذه القيود الاقتصاديَّة والسياسيَّة والديبلوماسيَّة في الآتي:

(1)     حجبت الحكومة الأمريكيَّة المساعدات الاقتصاديَّة والعسكريَّة عن السُّودان وفق قانون يقول بحجب ذلك عن الحكومات التي تطيح بأنظمة ديمقراطيَّة عن طريق التغيير العسكري، وهو ما يسمى بالقانون الرقم (513).

(2)     وضعت الإدارة الأمريكيَّة السُّودان ضمن لائحة الدول الإرهابيَّة في آب (أغسطس) 1992م.

(3)     تمَّ تعليق عضويَّة السُّودان في صندوق النقد الدولي، وقد ترتَّب على ذلك خطوات أخرى قامت بها مؤسسات التمويل العربيَّة الخاصة والعامة.

(4)     تعليق تعويضات السُّودان المستحقة وفق اتفاق لومي (Lome Agreement of 1975).(69)

(5)     قامت اليابان بحجب مساعداتها الفنيَّة والماليَّة استجابة لضغوط الولايات المتحدة، واستجابة للضوء الأحمر من صندوق النقد الدولي.

(6)     خفَّت كذلك تدفقات الصناديق العربيَّة.

وإنَّ التي شذَّت عن هذا الإجماع الدولي ضد السُّودان لهي فرنسا.  فقد شهدت العلاقات السُّودانيَّة-الفرنسيَّة تعاوناً في مجالات عدة، بما فيها المجال الاستخباراتي، مما دفع النظام إلى استثناء السلع الفرنسيَّة من المقاطعة العربيَّة حسبما جاء في توصيات وقرارات إحدى مؤتمرات "المؤتمر الشَّعبي العربي الإسلامي" في الخرطوم.  إذ أعطت فرنسا حكومة السُّودان صوراً التقطتها أقمارها الصناعيَّة عن مواقع قوات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وقامت فرنسا كذلك بتدريب أعضاء جهاز الأمن السُّوداني، ودعمت موقف السُّودان لدي صندوق النقد الدولي، ومنحت السُّودان قروضاً ذات ضمانات بواسطة البنوك الفرنسيَّة.  إذن، لماذا أقدمت فرنسا على التعاون مع حكومة أجمعت الشعوب المتحضِّرة والمجتمع الدولي أنَّها حكومة سيئة، مسرفة في السوء، ولا تعير أي اعتبار لأرواح مواطنيها، ولا ترغب في إحلال السَّلام في السُّودان؟  أقدمت فرنسا على هذا الفعل لرد الجميل لحكومة السُّودان التي سلَّمتها الإرهابي الفنزويلي إيليش راميريز سانشيز – المعروف بكارلوس – العام 1994م، ولكن هناك شيئاً أخر إذ كانت فرنسا تأمل في أن تتوسَّط الحكومة الإسلاميَّة في الخرطوم في التفاوض بين الجماعات الإسلاميَّة الجزائريَّة (جبهة الإنقاذ الإسلاميَّة والجماعة الإسلاميَّة المسلَّحة) من جهة والحكومة العسكريَّة في الجزائر من جهة أخرى، حيث لم تثمر هذه الجهود بشيء.  أما عن المساعدات العسكريَّة الفنيَّة لحكومة الخرطوم، فقد زعمت باريس تارة أنَّ الخرطوم سوف لا تستطيع تفسير هذه الخرائط التي التقطتها أقمارها الصناعيَّة عن مواقع الجَّيش الشَّعبي، وادَّعى مستشار وزارة الخارجيَّة الفرنسيَّة وخبيرها في الشؤون السُّودانيَّة تارة أخرى أنَّه حينما تصل هذه الصور إلى الخرطوم تكون عديمة الجدوى لأنَّ قوات الحركة الشَّعبيَّة سوف تكون قد تحرَّكت من مواضعها، وكأنَّما هذه الصور سوف تصل إلى الخرطوم "سيراً على الأقدام"!  أما عن دعم فرنسا لموقف السُّودان في المؤسسات المالية الدوليَّة، فزعم الخبير الفرنسي أنَّ هذا ناتج من مبدأ فرنسا الرافض لطرد الدول من هذه المؤسسات الدوليَّة.(70)  أيَّاً كانت ادعاءات الخبير الفرنسي، فقد كان الموقف الفرنسي هذا مخزياً، وبات مؤكَّداً أنَّ فرنسا لم تتعلَّم الدَّرس من مأساة رواندا، حيث دعمت حكومة جوفينال هابياريمانا – الممثلة لأثنيَّة الهوتو – في كيغالي، حاضرة رواندا، والتي أقدمت على مذابح التوتسي العام 1994م، حين بدأت الحكومة تترنح من جراء هجمات المتمرِّدين التوتسي.

هذا، وقد كان أكثر القضايا إيلاماً في هذه الحرب الأهليَّة استخدام الغذاء كسلاح للحرب، حيث كانت الحكومة ترفض في أشدّ ما يكون الرَّفض إيصال المواد الإغاثيَّة من غذاء ودواء وكساء إلى المناطق التي تقبع تحت إدارة الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وذلك تحت دعاوي السيادة الوطنيَّة حيناً، والاعتزاز بالنفس الأمارة بالسوء حيناً آخر.  غير أنَّ الغرض الحقيقي وراء ذلك كله هو تفتيت القاعدة الشعبيَّة المساندة للحركة الشعبيَّة، وبالطبع، لا يخلو هذا الغرض من الهدف العنصري البغيض.  بيد أنَّ التقارير الصحافيَّة التي كانت تتحدَّث عن رفض الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان السماح لمواد الإغاثة بالدخول إلى المدن المحاصرة كانت بمثابة افتئات على الأنباء التي تنشرها أجهزة الإعلام الحكوميَّة.  فلا شك في أنَّ المدن الجنوبيَّة كانت كلها عبارة عن حاميات عسكريَّة لجيش النظام، وكان هذا الجيش المحاصر في حاجة إلى العتاد الحربي والمؤن الغذائيَّة لاستعادة أنفاسه وحيويَّته لمواصلة الاعتداء الأثيم على أهالي الجنوب المدنيين قبل الهجوم على الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.  وكان مبلغ أسانا وحزننا حين علمنا أنَّ عشرات الآلاف من النازحين من ويلات الحرب في الجنوب، والذين تقطَّعت بهم السبل في مدن أبيي والمجلد والميرم، قد لقوا حتفهم جوعاً، وهم خارج نطاق العمليات العسكريَّة، مما يعني أنَّ السلطات الحكوميَّة قد صنَّفتهم مع المتمرِّدين، ووضعتهم في خندق واحد معهم، وبذلك كان شقاؤهم أو موتهم جزءاً من الثمن الذي ينبغي أن يدفعوه بسبب انتمائهم العرقي لعناصر الحركة الشعبيَّة، على أن تدفعه قياداتهم بسبب تعنتهم.  ولم يكن هناك حرص من أصحاب السلطان والعامة على أن تكون هناك ضحايا بريئة أو غير بريئة.  هكذا جاءت التقديرات بأنَّ الذين ماتوا من جراء المجاعة في الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان بلغوا نصف مليون شخص في مستهل العام 1989م.  ومع العلم بأنَّ السُّودان يفتقر إلى إحصاءات رسميَّة، إلا أنَّ معظم الترجيحات تؤكد أنَّ نحو مليون شخص ماتوا في الصراع الذي دار بين الحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة من جهة والحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى، فيما هجر أربعة ملايين شخص من منازلهم.  وفي العديد من المناطق هربت الحيوانات بسبب القصف أو نفق بعضها جراء المرض.  ففي منطقة "كونغور"، بالقرب من مدينة بور، نفق أكثر من 500 ألف بقرة وعدد مماثل من الماعز خلال الصراع العام 1992م.  وفي العام 1998م أنفق نحو مليون دولار أمريكي يوميَّاً لنقل مستلزمات الإغاثة جواً إلى المناطق المتأثِّرة بالنزاع في جنوب السُّودان.(71)

وفي الحق لقد مات كثرٌ من الناس بالجوع أكثر منه بالرصاص في هذه الحرب الأهليَّة.  ففي العام 1998م أعلنت وكالات الإغاثة الدوليَّة أنَّ هناك حوالي 350,000 شخص معرضون لخطر المجاعة في جنوب السُّودان، كما ذكرت منظمة "كريستيان أيد" البريطانيَّة في ندائها أنَّ 500,000 مواطن سوداني يتهدَّده خطر المجاعة في جنوب السُّودان، وأورد بيان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أنَّ 1,2 مليون شخص يواجهون خطر الموت جوعاً في جنوب السُّودان، وبخاصة في بحر الغزال وغرب أعالي النيل.  لذلك وجهت لجنة الأزمات والطوارئ – المؤلفة من 15 منظمة تطوعيَّة، بما فيها "أوكسفام"، "إنقاذ الطفولة"، "ميريلين"، و"أطباء بلا حدود" – نداءاً للشَّعب البريطاني طلباً للمساعدة، وطالب برنامج الغذاء العالمي في ندائه الموجه للحكومات بملبغ 65,8 مليون دولار أمريكي لعمليَّة إنزال المواد الغذائيَّة في جنوب السُّودان.  وفي خلال أسبوعين استطاعت الحملة المشتركة بين "اليونسيف" وصحيفة "الإكسبريس" البريطانيَّة أن تحصل على مبلغ 220,000 جنيه إسترليني من قرائها، حيث ارتفع المبلغ إلى 400,000 جنيه خلال أيَّام.  وفي نهاية الأمر استطاعت منظمات الإغاثة البريطانيَّة أن تحصل على مبلغ 8 مليون جنيه إسترليني في الحملة التي شرعت فيها منذ أيار (مايو) 1998م، واستمرَّت لمدة ثلاثة أسابيع.  كما لبَّت الحكومة البريطانيَّة نداء وكالات الإغاثة بتخصيص مبلغ 4 مليون جنيه إسترليني للإغاثة في السُّودان.  إذ أنَّ "عمليَّة شريان الحياة" كانت في حاجة إلى 2,2 مليون جنيه إسترليني لتغطية احتياجات المواطنين من الإغاثة في منطقة بحر الغزال وحدها، و2 مليون آخر في المناطق الأخرى من البلاد.

ففي مركز الإطعام بقرية "أجِيَب" – التي تقع شمال غرب مدينة واو، في مقاطعة قوقريال – كان يتم إطعام حوالي 2,700 طفل في الأسبوع، حيث ارتفع ذلك العدد إلى 5,000 طفل في أيام لاحقة.  وكانت تعمل في هذا المركز منظمة "أطباء بلا حدود"، حيث بلغ معدَّل الموت 69 لكل 10,000 شخص في اليوم، 133 وفيات لكل 10,000 طفل دون الخامسة، وحالتا موت لكل 10,000 شخص يعتبران حالة طارئة.  وبلغ تعداد الأطفال الذين كانوا يتلقَّون التغذية في المعسكرات التي كانت تديرها منظمة "أطباء بلا حدود" في مناطق الحرب 10,000 طفل، وكان يحدث الموت في المركز بمعدل طفل يوميَّاً.  وفي نهاية الأمر مات حوالي 60,000 شخص من جراء هذه المجاعة.  وفي "أديت" – أحد مراكز الإطعام في بحر الغزال – كانت تعمل منظمة "ميريلين" البريطانيَّة، حيث منحتها الحكومة البريطانيَّة 800,000 جنيه إسترليني لإدارة هذا المعسكر، في الوقت الذي فيه قام برنامج الغذاء العالمي بتمويل المواد الغذائيَّة.  ومع ذلك، فقد أثارت الصور الفوتوغرافيَّة التي التقطها المصوِّرون لوكالات الأنباء العالميَّة، والصحف الغربيَّة، ومجلات التصوير، أسئلة أخلاقيَّة وإنسانيَّة هامة.  فقد رأى البعض أنَّ هذه الصور هي اختراق للخصوصيَّة، والتي ينبغي ألا تُسمح بها، وتساءل البعض الآخر ما الذي يمنع أن تكون هذه اللقطات، الموجهة إلى ضمائر الناس، عبارة عن مسكِّنات قصيرة المدى؟  وهل ثمة هناك وسيلة أفضل للتعامل مع الكارثة الإنسانيَّة – التي خلقها الإنسان – وبخاصة في مثل هذه الحال الحرجة؟  ومن جملة هذه الصور العديدة نودُّ التركيز على لقطتين، وهما: الصورة التي أخذها المصوِّر الجنوب إفريقي – كيفين كارتر – العام 1993م عن طفلة جاثمة على الأرض، وواضعة وجهها على التراب، وبجانبها من الخلف نسر من النسور التي تعيش على الجثث.  إذ لم يفعل كارتر شيئاً لإنقاذ الطفلة وحملها إلى مركز الإطعام في "أيود" على بضع أمتار من موضع الطفلة الجاثمة.  وقد بات ضمير كارتر يؤرِّقه، حتى بعد حصوله على "جائزة بوليتزر" (Pulitzer prize) في التصوير في أيار (مايو) 1994م، حيث انتحر في نهاية الأمر في جنوب إفريقيا بعد عودته من نيويورك واستلامه للجائزة الثمينة التي طالما حلم بها في حياته الفتوغرافيَّة.  والصورة الثانية هي التي التقطها المصوِّر توم ستودارت في مركز الإطعام الذي كانت تديرها منظمة "أطباء بلا حدود" في قرية "أجِيَب"، وذلك ضمن عدة صور نشرتها صحيفة "القارديان" البريطانيَّة.  ففي هذه الصورة يزحف الطفل "الهيكلي" على رجليه ويديه وراء رجل ثري من المواطنين المحليين، والذي انتزع جوال الذرة الشاميَّة منه.  أولم يكن من الأجدر على المصوِّر أن يفعل شيئاً إنسانيَّاً قبل أن يلهث وراء مهمَّته التصويريَّة، أو بعدها؟  بلى!  ولِمَ لم يعترض المصوِّر سبيل التاجر الثري ومحاولة إرغامه على إرجاع الذرة إلى هذا الصبي الجائع شبه العاري، والذي كان لا يقوى حتى على المشي؟  ولِمَ لم يبلِّغ السلطات في المركز بما جرى، حتى يقوم موظفو الإغاثة بمحاولة إرجاع الذرة المسلوبة إلى صاحبها الطفل، أو تعويضه بمثلها مرة أو مرتين؟  إنَّ كل هذه التساؤلات وغيرها لتشي بأنَّ كثراً من رجال الصحافة والإعلام الأجانب قد اتخذوا من كوارث السُّودان الإنسانيَّة والطبيعيَّة وسيلة للتكسب واكتناز الأموال، وآثروا الشهرة على الإنسانيَّة.

بالإضافة إلى الجوع، كان هناك المرض، وبخاصة مرض الكلازار الذي فتك بحياة مئات الآلاف من السُّودانيين في المناطق المنكوبة بالحرب في ولاية غرب أعالي النيل.  وحين انتشر الوباء في الفترة ما بين (1990-1994م) قدَّرت منظَّمة "أطباء بلا حدود" عدد الوفيات بما يساوي 100,000 شخص في غرب أعالي النيل، أي بما يعادل على أقل تقدير ثلث سكان المنطقة.  وبفضل المنظمة بدأ معدَّل العلاج يرتفع.  ففي منطقة "لانكين" كانت نسبة الوفيات العام 1999م تعادل 17,6%، حيث هبطت هذه النسبة إلى 5,6% العام 2003م.  ومع ذلك، كانت الناقلات التي تحمل مواد الإغاثة تتعرَّض لبعض الإغارات من القبائل التي سلَّحتها حكومات السُّودان لمحاربة الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، حيث استخدمت هذه القبائل هذا السلاح لتصفية الصراعات القبليَّة بينها.  فقد تعرَّضت عربة "جيب" تابعة للإغاثة الكنسيَّة النرويجيَّة (Norwegian Church Aid) لكمين، حيث قُتِل على أثره رجل محلي وجُرِح اثنين آخرين.  وقبل أسبوع من هذا الحادث أُوقِفت عربة كانت تنقل المواطنين إلى المستشفى، وأُخِذ أحد الركاب المرضي وأُطلق عليه النار ولقي حتفه، لأنَّه من قبيل آخر، كما تمَّ ضرب آخر ضرباً مبرحاً.  إذ لا يكاد يطمئن أهل "ديدينغا" أن يروا العربات تنقل المرضى من قبيل "لاتوكا" إلى المستشفى في منطقة "ديدينغا"، إذ هم يهاجمون هذه العربات بسبب التناحر القبلي، ولا يهمهم في هذا الأمر كثيراً أو قليلاً إذا كانت هذه الناقلات تابعة للأمم المتحدة أم لا.

مهما يكن من الشأن، فقد باتت قضيَّة الإغاثة تثير أسئلة أخلاقيَّة عدة منها: هناك فريق كان يرى أنَّ الإغاثة تجعل كثيراً من الدول الإفريقيَّة معتمدة كل الاعتماد عليها، كما أنَّها تساعد على نمو ظاهرة الفساد.  وهناك فريق آخر شرع يدعو إلى إعفاء ديون الدول النامية للغرب، حيث بلغ تعداد هذه الدول 50 دولة، وذلك بحلول العام 2000م كما جاءت في حملة جوبيلي 2000م.  وكان جدالهم يدور حول أنَّ التكلفة الإنسانيَّة في تسديد هذه الديون باهظة، حيث تسبَّب عمليَّة تسديد هذه الديون الفقر، الأميَّة، المرض والموت.  ففي حال إلغاء هذه الديون واستثمار هذا المال في برامج الصحة والغذاء، فإنَّه ليمكن إنقاذ حياة 21 مليون طفل.  بيد أنَّ هناك من كان يعارض مبدأ الإعفاء بحجة أنَّ كثراً من الدول النامية تمتلك ترسانة من السِّلاح، وكان يجاهر هذا الفريق الثالث أنَّه في حال إعفاء هذه الدول فإنَّها لسوف تستمر في تسليح نفسها وتتجاهل أزمة مواطنيها، فضلاً عن الفساد المتفشي وسط هذه الدول.  وهناك فريق رابع كان يرى أنَّ المساعدات الإنسانيَّة أمست تطغي على المساعدات التنمويَّة، وأثَّرت كثيراً على مشاريع التنمية طويلة المدى، كمستوى التعليم، ومحاربة الفقر، والارتقاء بالوعي العام.  وكان على رأس هذه الطائفة من الناس وزيرة التنمية الدوليَّة البريطانيَّة – كلير شورت – حيث أضافت أنَّ الشَّعب البريطاني بات مصاباً ب"فتور الرأفة" (Compassion fatigue).  وفي 2 نيسان (أبريل) 1998م صرَّح وزير الخارجيَّة السُّوداني – الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل – أنَّ الحكومة رفعت الحظر على الطيران مؤقَّتاً بشرط حدوث تقدُّم في محادثات السَّلام المتوقعة استئنافها بين الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة في نيروبي.  ألم ترى كيف ربط الوزير حياة المواطنين العاديين الجياع بالقضايا السياسيَّة والعسكريَّة!  ففيما كانت الحكومة السُّودانيَّة تمانع وتعاكس المنظمات غير الحكوميَّة العاملة في إغاثة أهل الجنوب تحت دعاوي "السيادة الوطنيَّة"، كانت لدي الحكومة الأمريكيَّة ودول أخرى سياسات غير معلنة تجاه عمليَّة الإغاثة ذاتها.  إذ كانت هذه الدول تتخوَّف من ازدياد نشاطات الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في جنوب البلاد – بتشجيع من الزيادة الكبيرة في مواد الإغاثة الغذائيَّة – لسوف تقود إلى تفتيت السُّودان، مما قد يتسبب في فوضى جغرافيَّة-سياسيَّة أخرى في المنطقة، هكذا جرى رأي الفريق الخامس من حصيلة الآراء التي أفرزتها قضيَّة الإغاثة.  وهناك فريق سادس كان يزعم أنَّ المساعدات الإنسانيَّة قد ساعدت على إطالة الحرب الأهليَّة، مع العلم أنَّ هذا الزعم قد يكون صائباً من ناحية، وهي أنَّها استطاعت أن تغذِّي جنود الحكومة المحاصرين في حاميات الجنوب، وإلا سقطت هذه الحاميات الواحدة تلو الأخرى، واضطربت الحكومة واضطرَّت إلى التفاوض مع الحركة الشعبيَّة وإنهاء العدائيَّات سياسيَّاً.  أما من ناحية أخرى، فلا سبيل إلى الشك في أنَّ الإغاثة قد استطاعت أن تنقذ حياة بعض المواطنين في الجنوب، ولئن لم تكن حيواتهم كلهم أجمعين أكتعين.

وحسب الأرقام الواردة في سجلات "عمليَّة شريان الحياة" العام 1996م، أنفقت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكوميَّة 566 مليون دولار أمريكي في الفترة ما بين (1993-1995م)، أي بمعدَّل 200 مليون دور في العام.  وجاء في إحدى التقديرات المتواضعة أنَّ التكلفة الكليَّة ل"عمليَّة شريان الحياة" منذ العام 1989م قد بلغت أكثر من 2 بليون دولار أمريكي.  برغم من هذه الأموال الطائلة التي صُرِفت على الإغاثة في الجنوب، لم ينج أهل الجنوب من المجاعة، أو لم يكونوا أحسن وضعاً مما كانت عليه الحال العام 1988م.  إذ ينبغي أن نعلم أنَّ "عمليَّة شريان الحياة" ما هي إلا بيروقراطيَّة تابعة للأمم المتحدة، وإنَّها لغير قادرة على تحدي إملاءات حكومة شموليَّة.  ومتى استطاعت احتجاجات رجال الخدمة المدنيَّة الدوليين أن تؤثِّر في أفعال نظام لديه سجل مثبت في "استخدام الغذاء كسلاح حرب"!  وبما أنَّ معظم المنظَّمات غير الحكوميَّة كانت تعمل مع طرفي النِّزاع – الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة – أمست "عمليَّة شريان الحياة" أداة للمساومة، بدلاً من أن تكون وسيلة "اختراق إنساني" لإنقاذ الفقراء من أهل الجنوب من الحيوات التعيسة التي كانوا يحييونها.  وبذا باتت وكالات الإغاثة حلفاء صامتين للمعتدي الرئيس، ولكي تصل هذه المنظَّمات إلى ضحايا الصِّراع، أصبحت تعقد اتفاقات مع الحكومة السُّودانيَّة.  ولكي تساعد المحتاجين، تورَّطت المنظَّمات الدوليَّة في إطعام حاميات نظام الخرطوم التي كانت تحت الحصار في جنوب السُّودان، والتي بدون حبوب برنامج الغذاء العالمي لسقطت في أيدي التمرُّد منذ سنوات.(72)

أياَ كان الأمر، فإن البشاعة – إن أُبيح هذا التعبير - التي بها أدارت حكومة "الإنقاذ" الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق قد فاقتها فقط الفظائع التي ارتكبها جيش الرب للمقاومة في شمال يوغندا والمتمرِّدون في سيراليون وليبيريا في الكيفيَّة وليست في الكميَّة.  إذ كان يقوم المتمرِّدون في كل من يوغندا وسيراليون وليبيريا باغتصاب الفتيات، وبتر أطراف وأعضاء جسوم المتهمين بتعاونهم مع الأعداء، وممارسة كل صنوف التعذيب ضدهم.  وكان زعيم التمرد السَّابق، الجنرال بت "نيكيد" (General Naked) – في الحرب الأهليَّة الليبيريَّة قد أقرَّ بأنَّه قتل 20,000 شخصاً.  وكان ميلتون بلاهي، الذي اكتسب لقب "نيكيد" - أي العاري من الزي – لأنَّه كان يتجرَّد من ملابسه في حومة الوغى، وقد اعترف بأنَّ رجاله قاموا بهذه المجزرة العام 1995م.  ولكن هناك شيئاً أخر، فإنَّ بلاهي، الذي تحوَّل إلى قسيس في غانا، قد اعترف بهذه الجرائم إلى مفوضيَّة المصالحة، وأضاف أنَّه كان يأكل قلوب الأطفال قبل بداية كل معركة.  وقد استمعت المفوضيَّة إلى كيف أجبر المتمرِّدون أحد المدنيين لممارسة الجنس مع امرأة مسنة في هذه الحرب الأهليَّة التي استغرقت 14 عاماً (1989-2003م)، وقُتِل فيها حوالي 250,000 شخص.

ولعلَّنا لا نخطئ إذا قلنا إنَّه منذ حزيران (يونيو) 1989م، وبفعل التوجهات والسياسات البالغة الخطر لحزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الحاكم، اكتسبت قضيَّة الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان ومناطق جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق أبعاداً وتطورات خطيرة.  ولعل أبرز هذه التطورات إضفاء الطابع الديني عليها لأول مرة منذ نشوب الصِّراع، وهو ما بات جليَّاً من خلال دعوات النِّظام المتزايدة إلى ما سماه "الجهاد في سبيل الله"، حتى انتقل الصِّراع من المحليَّة إلى الإقليميَّة والدوليَّة.  فقد استعانت الحكومة السُّودانيَّة بأطراف خارجيَّة في القتال إلى جانب قواتها المسلَّحة، ومن سُمِّي بمجاهديها من إيرانيين و"أفغان عرب" وخلافهم، وهو أمر غير مسبوق في تأريخ الصِّراع المسلَّح في السُّودان.  ومن هذا المنطلق فرضت قضيَّة الحرب والسِّلم في السُّودان نفسها بقوة في المحافل الإقليميَّة والدوليَّة، فضلاً عن التأزيم العميق على نحو خطير لحجم الكراهيَّة وعدم الثقة بين الأطراف المتقاتلة، وهم في الأساس أبناء الوطن الواحد.  ثم برزت دعوات جديدة لحمل السِّلاح في غرب وشرق السُّودان، وكانت دعوات واضحة وملموسة مهما حاول النظام التهوين من شأنها أو نفيها أو نعتها بالنَّهب المسلح تارة، والصِّراع القبلي تارة أخرى، وغير ذلك من النعوت التي تحجب صفة القوميَّة والسياسيَّة عن المشكل السُّوداني.  وأخيراً كانت هناك إفرازات سلبيَّة خطيرة تمثَّلت في مآسي إنسانيَّة، وتجاوزات للحقوق الأساسيَّة، وخلق أوضاع كارثيَّة تأثَّر من جرائها ملايين المدنيين الأبرياء.  أتظن أنَّا كنا نكتب عن هذه الآثار المحزونة المؤلمة التي خلقتها وخلفتها هذه الحرب الأهليَّة لو لم يحدث قطاع من الشعب السُّوداني هذه الثورة العنيفة التي كانت على روعها وفظاعتها مفعمة بالآمال؟  كلا!  وما كنا لنعير هذا الأمر انتباهاً لو لم تحدث شعوب الهامش هذه الثورة العنيفة التي اضطروا لها اضطراراً لمحاولة تغيير السُّودان القديم وتغيير كل شيء فيه، والتي كانت مملوءة أملاً، والتي استتبعت ألواناً من الفظائع والآثام فيما أحدثت من فتن، وما شنَّت من حروب، والتي انتهت بالقياس إلى هؤلاء المهمَّشين إلى ما وصفتُ لك من هذه الحياة الخشنة الغليظة التي كان يحياها الناس في أدغال الجنوب وجبال النُّوبة وتلال الأنقسنا؛ حينما كان الحكام والوزراء ومن إليهم يستمتعون بالحكم والمجد والثروة وألوان الترف وفنون المتعة.

 

 

آراء