الجنوب.. ومستقبل السُّودان من خلال الماضي (8 من 15) … الدكتور عمر مصطفى شركيان
16 September, 2009
ombill.ajang@googlemail.com
التجمع الوطني الديمقراطي.. حساب الربح والخسارة
على مر الدهور تعاملت الحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة مع مشكل الحرب الأهليَّة في السُّودان من منطلق أمني بحت؛ أو بصورة أخرى ظلت حكومات السُّودان المركزيَّة تصوِّر الأمور دوماً على أنَّها مشكل متمرِّدين خارجين على القانون ضد حكومات شرعيَّة مهما يكن من أمرها، ولم تكن هذه الحكومات تنظر بعين موضوعيَّة إلى الأبعاد السياسيَّة والدينيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة لمثل هذه التمردات. هكذا طغى الفكر المركزي، الذي طبع الدولة العربيَّة-الإسلاميَّة منذ نشوئها، في التحكم على جميع حكام الخرطوم، ولم يكن لديهم أي استعداد للتفكر والتفاكر في قيام دولة سودانيَّة جديدة مبنيَّة على التعدديَّة والعدالة والمساواة، أي دولة تأخذ في الاعتبار والاهتمام هموم المهمَّشين في مختلف أنحاء السُّودان.(109) وقد استدعى الأمر "هدم الأنموذج القديم للدولة السُّودانيَّة وإعادة بنائها على أسس جديدة لتحقيق العدالة والمساواة عبر عقد اجتماعي سياسي ثقافي جديد." وهذا ما ظلَّت تنادي به الحركة الشعبيَّة عبر مسارها النضالي الطويل. ولا ريب في أنَّ الأحزاب السياسيَّة السُّودانيَّة، وبخاصة تلك التي اشتركت في حكم البلاد من خلال انتخاب ديمقراطي أو انقلاب عسكري، قد ساهمت في تكريس هذه الأمراض السياسيَّة المزمنة. وبرغم من ذلك ظلَّت هذه الأحزاب السياسيَّة الشماليَّة تردِّد أنَّ علاج أمراض السُّودان السياسيَّة يكمن في إسقاط نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وكأنَّما جسم السُّودان المريض قد أمسى سقيماً بقدوم هذا النظام اللعين إلى السلطة. وكان للدكتور جون قرنق رأي آخر في هذا التهافت على إسقاط النظام الحاكم المتحكِّم دون التبصر في كيفيَّة حكم السُّودان بعد إحلال السَّلام. لذلك رد عليهم قرنق: "إنَّ المنطق السليم يملي علينا عدم البدء بالتساؤل عن سبل إسقاط "نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة"، لأنَّ ذلك سؤال خاطئ، فالأجدر بنا طرح السؤال الصحيح وهو كيف نحقق السلام والعدالة في السُّودان؟ ونبحث عن إجابة صحيحة له."(110) وقد حدَّد قرنق برنامج الحركة الشعبيَّة للسَّلام في البنود التالية:
(1) إنَّ وحدة السُّودان لا تفرض بالقوة، بل بالإرادة الحرة لشعوبه.
(2) في السُّودان الدين ليس قاعدة للحكم والتفرقة، بقدر ما هو شأن فردي، بخلاف الدَّولة التي هي شأن عام.
(3) الإقرار بحق تقرير المصير لشعب جنوب السُّودان ولبقيَّة المناطق المهمَّشة، على أن يتم ذلك عقب سقوط نظام الفريق عمر البشير، وعلى أثر انتهاء المرحلة الانتقاليَّة في "السُّودان الجديد".
كان هذا هو الجو الذي انعقد فيه مؤتمر اسمرا - حاضرة إريتريا – للقضايا المصيريَّة في الفترة ما بين 15-23 حزيران (يونيو) 1995م.(111) ففي هذه الأثناء أخذ بعض الأحزاب السياسيَّة شيئاً من أدبيات الحركة الشعبيَّة في سبيل التقرب إلى الشعب السُّوداني زلفى. هذه الشعارات التي رفعتها الحركة الشعبيَّة وطالبت أصحاب السلطان بتطبيقها عمليَّاً لم تجد أذناً صاغية ولا أدنى اهتمام؛ وما التفاف بعض أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي حولها وترديدها، إلا استعطافاً للشعب وتسايراً للواقع السياسي الجديد. وإذا كانت هذه الحقوق الأساسيَّة قديمة وجديدة، وإذا كانت التنمية غير المتوازية بائنة للرائي، وإذا كان التعدد الثقافي والأثني والديني معلوم لدي الكثرة المطلقة إلا من طغى وتجبر، إذن نحن نتساءل ما الجديد هنا؟ إنَّ الجديد هنا لهو عدم اتخاذ خطوات فعليَّة لرد الحقوق لأصحابها، وبسط العدل والمساواة، وتطبيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية أفقيَّاً في البلاد لا رأسيَّاً في مثلث كوستي-مدني-الخرطوم، والذي اتسع قليلاً ليشمل "مثلث عبد الرحيم حمدي" في نظرته الفكريَّة لجماعة المؤتمر الوطني. لذلك كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما شرع يقوله أصحاب السلطان المخلوعين من رجال التجمع الوطني الديمقراطي. ومع ذلك دعنا نسمع ما قاله قائلهم عملاً بديمقراطيَّة الرأي. ففي الجلسة الافتتاحيَّة لمؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي بأسمرا في يوم السبت 17 حزيران (يونيو) 1995م قال الأمين العام لحزب الأمة – الدكتور عمر نور الدائم: "إنَّ هناك لحظات تأريخيَّة معيَّنة تجد الأمم والشعوب نفسها فيها أمام مواقف مصيريَّة حاسمة، حيث لا بد لها من وقفة أمام ذاتها تحاسب فيها نفسها على خطاها الماضية وتحسب فيها وقع خطواتها القادمة." وأضاف الدكتور نور الدائم – وزير الزراعة والمالية في حكومة السيد الصَّادق المهدي (1986-1989م) - أنَّ الماضي له أهميَّة خاصة لأنَّه يبصرنا بأربعة دروس لا غنى عنها:
(1) إنَّ في السُّودان تنوعاً دينيَّاً وعرقيَّاً وثقافيَّاً ينبغي الاعتراف به والتعامل معه على أساس التعايش السلمي، لأنَّ ذلك لا يمكن إخضاعه لمنطق القوة.
(2) إنَّ المجموعات الوطنيَّة المختلفة المكوِّنة لذلك التنوع تتطلَّع إلى العدل في كل المجالات، ولن تقبل نظاماً لا يقوم على العدل، بل إنَّ الظلم ليحرضها لتقويض الاستقرار والأمن والنظام.
(3) إنَّ أهل السُّودان دفعوا ثمناً غالياً لما خاضوه من حرب.. ثمناً إنسانيَّاً جرَّد كثيراً منهم من مشاعر الإخاء، وغرس مكانها العداوة والبغضاء، وهي مشاعر مردها مليون مصاب ما بين قتيل وجريح؛ وثمناً اجتماعيَّاً شرَّد الأسر والقبائل، وزعزع الأجيال زعزعة شرَّدت مليوني شخص ما بين لاجئ ونازح وطريد؛ وثمناً اقتصاديَّاً أفشل برامج الإصلاح الاقتصادي وعطَّل التنمية وأهدر ما لا يقدَّر من ثروات البلاد الطبيعيَّة، وأودى بسمعة السُّودان وعرضه للتدخل الأجنبي.
(4) إنَّه لا يمكن لأحد، ولا تملك مجموعة وطنيَّة حقاً خاصاً لتحكم الآخرين، بل ينطلق الحكم من قاعدة تأمين حقوق المواطنة لجميع السُّودانيين، وكفالة حقوقهم الديمقراطيَّة في انتخاب ومساءلة حكامهم، لوضع حد لمعاناة أهل السُّودان وإشباع تطلعاتهم للسَّلام والاستقرار والحريَّة.
على أيَّة حال، فقد أجاز المؤتمرون مجموعة قرارات حول القضايا التي ناقشوها.(112) ففي هذا المؤتمر أصرَّ ممثِّلو الحركة الشَّعبيَّة على أن يتضمن الإشارة إلى "حق تقرير المصير" تحديد مناطق الجنوب، وجبال النُّوبة، وأبيي، والأنقسنا، بينما قاد حزب الأمة حملة شعواء ضد هذا التحديد. وقد "اقترح البعض أن يتضمَّن الاقتراح إعطاء حق تقرير المصير لكل أجزاء السُّودان، ولكل من يرغب فيه دون تحديد." وفي نهاية الأمر كان أبرز قرار خرج به المؤتمر هو مشروع "حق تقرير المصير" بالنسبة لجنوب السُّودان، واستخدام إجراءات يمكنها أن تفضي في نهاية الأمر إلى "حق تقرير المصير" بالنسبة إلى سكان أبيي، وجبال النُّوبة، والأنقسنا (ملحق رقم (10)).(113) أما فيما يختص بجبال النُّوبة والأنقسنا فلماذا قرَّر المؤتمرون أن يعمل التجمع الوطني الديمقراطي على إيجاد حل سياسي لمظالم تلك المناطق وبعد ذلك يتم استفتائهم قبل نهاية الفترة الانتقاليَّة لاستطلاع آرائهم حول مستقبل المنطقتين السياسي والإداري؟ أي بعبارة أخرى لماذا اقترن "حق تقرير المصير" لتلك المناطق بعمر الفترة الانتقاليَّة؟ ولِمَ لم تُعامل هاتين المنطقتين أُسوة بالجنوب؟ والمرء يندهش في أكثر ما تكون الدهشة كيف ستفلح الحكومة الانتقاليَّة في إنصاف سكان هذه المناطق المهمَّشة في فترة وجيزة مدتها عامين أو ثلاثة أو أربعة أعوام، هي عمر الحكومة الانتقاليَّة، وذلك بعد أن أخفقت الحكومات المتعاقبة على دست الحكم في فترة مداها أكثر من نصف قرن منذ استقلال السُّودان العام 1956م. فنحن نعلم أنَّ الحكومة الانتقاليَّة غالباً ما تكون لديها مهمة محدَّدة هي الإعداد للانتخابات وتسليم السلطة لحكومة منتخبة؛ ونحن نعلم كذلك أنَّ الأحزاب السياسيَّة تشتغل دوماً ببرامجها الانتخابيَّة في مثل هذه الأثناء، وتركِّز على ترتيب البيت الحزبي لخوض المعركة الانتخابيَّة أكثر منها من الاهتمام بقضايا الهامش والتفكير في وضع تصور لتنمية الأرياف النائية في البلاد، اللهم إلا إذا كان من باب الدعاية الانتخابيَّة في إطار التزيُّد السياسي، الذي قد يصبح سراب بقيعة حينما ينقشع الضباب الانتخابي وتسكن العاصفة السياسيَّة. أيَّاً كان الأمر فقد علَّل حزب الأمة رفضه على قرار حق تقرير المصير بالنِّسبة لمناطق أبيي والنُّوبة والأنقسنا قائلاً: "إنَّ منطقة أبيي لتتبع لجنوب كردفان، كما أنَّ أبناء مناطق جبال النُّوبة والأنقسنا، لم يطالبوا بهذا الحق." إنَّ حزب الأمة كان يدري تماماً أنَّ ممثلي المناطق إياها كانوا يطالبون بحق تقرير المصير أسوة بأهل الجنوب؛ وإنَّ حزب الأمة كان يعلم في دخيلة نفسه أنَّه وقف ضد رغبات وطموحات سكان جبال النُّوبة والأنقسنا وأبيي في شقدوم العام 1994م؛ وإنَّ أعضاء وفد حزب الأمة الذين وقَّعوا على إعلان شقدوم ليتذكَّرون حديث القائد يوسف كوة لهم بأنَّ إصرارهم على رفض حق تقرير المصير للنُّوبة يعني أنَّ على الأخير الاستمرار في الحرب لفترة أطول حتى ينالوا ما يطالبون به، ويسعون إليه، ويلحون في طلبه من حق تقرير المصير؛ وإنَّ أبناء النُّوبة في الخارج ظلوا يطالبون بهذا الحق، ويقودون حملة مسعورة في سبيل نيل هذا الحق الإنساني. ثم إذا لم يكن حق تقرير المصير من طلباتهم فعلام حارب أبناء هذه المناطق؟ وفيم ضحوا بأرواحهم وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم؟ ومتى نصب حزب الأمة نفسه ناطقاً رسميَّاً أو شعبيَّاً لسكان المناطق المهمَّشة الذين لا يألون جهداً في المطالبة بحق تقرير المصير! ومع ذلك فإنَّ العذر الذي لم يقبله المنطق هو قول حزب الأمة: "إنَّ بعضاً من أبناء المسيريَّة ليقطنون بأبيي، كما توجد في مناطق جبال النُّوبة قبائل عربيَّة مثل الحوازمة، وربما وقعت حوادث عنف واقتتال أهلي إذا سمعوا بمسألة تقرير المصير لهذه المناطق."(114) إنَّ تعلُّل حزب الأمة بمسألة الاقتتال الأهلي يجعل المرء يظن أن المنطقة كانت آمنة وتنعم بالسَّلام حينئذٍ! وحينما عزم التجمع الوطني الديمقراطي أن يناقش قضيَّة حق تقرير المصير للجنوب والمناطق المهمَّشة الأخرى، كان عليه أن يضم كل قادة المعارضة في الجنوب والمناطق المهمَّشة الأخرى والذين نظَّموا أنفسهم منذ عهد بعيد واختاروا أن يكون سلاحهم الكلمة والحوار والحجة مثل جبهة نهضة دارفور، اتحاد عام جبال الأنقسنا، واتحاد عام جبال النُّوبة والحزب القومي السُّوداني، والتحالف الفيديرالي الديمقراطي السُّوداني، وحركة القوي السودانيَّة الحديثة وغيرها.(115)
وفي هذه الأثناء كان يزعم بعض قادة المعارضة من أحزاب الشمال أنَّ أيَّة تسوية سياسيَّة تتم بين الحكومة السُّودانيَّة من ناحية، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من ناحية أخرى سوف لا يكتب لها الاستمرار. يا ترى ما الذي جعل بعض السياسيين في هذه الأحزاب يعلنون أنَّ أية اتفاقية سلام تبرم بين الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبية، بمعزل عن الفعاليات السياسيَّة الأخرى، لا يمكن أن تدوم؟ بالطبع لم تكن تريد الأحزاب الشماليَّة في المعارضة أن تصل الحركة الشعبيَّة إلى أيَّة صيغة للسَّلام مع الحكومة السُّودانيَّة بمعزل عنها، لأنَّ تلك التسوية لسوف تؤدِّي إلى انتحارهم سياسيَّاً، حيث كانت هذه الأحزاب تراهن على القوة العسكريَّة لدي الحركة الشعبيَّة ونفوذها السياسي في الداخل، وعلاقاتها الديبلوماسيَّة والسياسيَّة بالمنظمات والهيئات الدوليَّة والحكومات الأجنبيَّة. أما فيما يختص بمسألة الإيفاء بالمواثيق والعهود عند أهل الحكم في السُّودان فلنا فيها ألف حكاية؛ إذ لم تكن الديكتاتوريَّة العسكريَّة، أو الإيديولوجيَّة الفكريَّة، وحدها هي المسؤولة عن نقض المواثيق والعهود في السُّودان. أفلم يتربَّص قادة المعارضة الشماليَّة باتفاقيَّة أديس أبابا التي أوقفت الحرب الأهليَّة الأولى في السُّودان العام 1972م، بحيث اشترطوا على الرئيس الأسبق نميري مراجعة بعض بنودها الرئيسة كشرط أساس لمصالحة النظام العام 1977م؟ بلى! إذن للمسألة أبعاد أخرى، وهي النظرة العنصريَّة والدونيَّة والدينيَّة لفئة من الشعب شاءت الأقدار أن يكون موطنها جنوب السُّودان.
أيَّاً كان أمرهم، فما الذي دفع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان دفعاً ذاتياً للجلوس حول طاولة المفاوضات مع الحكومة السُّودانيَّة القائمة يومذاك وقبلذاك؟ لا ريب في أنَّ العمل العسكري كان أحد الوسائل المتاحة لتعزيز الحل السلمي للمشكل السُّوداني. إذ أن ذلك كان كفيلاً بحفظ الأرواح في حال الوصول إلى سلام، وتقليل معاناة الشَّعب الذي كانت الحركة الشَّعبيَّة تسعى لتحريره من جميع صنوف الاضطهاد. كما أنَّ النضال الذي كانت تقوم به المعارضة السياسية، وبخاصة ما كان يسمَّى ب"القيادة الشرعية للقوات المسلحة"، كان نضالاً هامشيَّاً لم يرتق إلى مصاف التضحيات الجسيمة التي كان يقدِّمها أفراد الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. كذلك اتخذت القيادات السياسية وأحزابها موقف المتفرج في بادئ الأمر، وأصبحت الحركة الشعبية وجماهيرها هم الوحيدون الذين يكتوون بنيران القتال وأتون الحرب الأهليَّة. إذ أنَّ الوحدة الوطنية التي ظل القادة الشماليون يعزفون عليها لا يمكن أن تتأتى عن طريق الأماني العذبة والأغاني الوطنيَّة، بل كان ينبغي أن تترجم هذه الأماني العظيمة في شكل برنامج تطبيقي. ومع تغيُّب النضال المسلَّح من قبل التَّجمع الوطني الديمقراطي في بادئ الأمر، كادت أهداف القتال في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة والأنقسنا أن تتحوَّر من سعي لإنصاف مجموعات نالها الظلم من ذات السياسيين الذين يضمهم التَّجمع الوطني الديمقراطي إلى مجرد مطية تنقلهم إلى قصر الشَّعب في الخرطوم مرة أخرى وبأي ثمن.
وفي نهاية الأمر خرج المعارضون من مؤتمر القضايا المصيريَّة بتصور معتمد هو: "إنَّ السبيل الوحيد لحماية البلاد مما يحدق بها ويهدِّد مصيرها لهو نظام ديمقراطي قائم على التعدديَّة السياسيَّة، واحترام حقوق الإنسان، وتنفيذ كل ما اتفقت عليه قوى الشعب السُّوداني في ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي ومقررات مؤتمره الذي عالج القضايا المصيريَّة للبلاد، وهي:
(1) فترة انتقاليَّة محددة تكون على سدة الحكم فيها حكومة وطنيَّة مجمع عليها، وعلى رأس مهامها التحضير لعقد المؤتمر الدستوري (القومي) المعني بقضايا السلم ونظام الحكم.
(2) انتهاء الفترة الانتقاليَّة بإجراء انتخابات ديمقراطيَّة حرة نزيهة."
ولعل مؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة يعتبر تتويجاً لكافة مؤتمرات التجمع الوطني الديمقراطي السابقة، وحصيلة المناشدات التي وجهها التجمع لحكومة "الإنقاذ" في سبيل الوصول إلى تسوية سلميَّة-سياسيَّة لقضيَّة الحرب والسلم في السُّودان، ومن أجل إسعاف الأزمة الاقتصاديَّة، ودرء المجاعات، وتوقير حقوق الإنسان، وتفعيل الديمقراطيَّة النزيهة وغيرها من القضايا الوطنيَّة الجوهريَّة. لذلك جاءت قرارات وتوصيات المؤتمر شاملة لتشمل ميثاق التجمع، قرارات حول الدِّين والسياسة في السُّودان، قرار حول تقرير المصير، قرار حول شكل الحكم، قرار حول الهيكل التنظيمي للتجمع الوطني الديمقراطي بالخارج. كما اعتمد المؤتمر عدداً من المشاريع بصورة مبدئيَّة في البرنامج الاقتصادي للفترة الانتقاليَّة، برنامج السياسة الخارجيَّة، برنامج إزالة آثار نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، قانون تنظيم الأحزاب السياسيَّة، ميثاق العمل النقابي، قانون الصحافة والمطبوعات، وبرنامج علاج القضايا الإنسانيَّة.
فلا أحد يستطيع أن يماري أنَّ الظروف السياسيَّة والأمنيَّة التي عمل فيها أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل كانت هيِّنة سهلة؛ ولم تكن مساحة تحركهم السياسي واسعة؛ كما لم تكن العيون الحكوميَّة التي باتت تتابع خطواتهم وتحصي أنفاسهم قليلة. وبرغم من ذلك كله بادرت قوى التجمع الوطني الديمقراطي بالداخل في يوم 10 حزيران (يونيو) 1996م برفع مذكرة سياسيَّة إلى الرئيس عمر البشير القائد العام للقوات المسلحة السُّودانيَّة تطالبه فيها "كرئيس لنظام الإنقاذ" بالتنحي عن الحكم فوراً، مفسحاً المجال "لشعبنا لاختيار حكومته الوطنيَّة الانتقاليَّة، وإلا فإنَّ الشعب له خيارات أخرى." هذا، فقد وقَّع أكثر من سبعة ممثلين لفعاليات سياسيَّة ونقابيَّة وقطاعيَّة على هذه المذكرة، التي أوردت في خمس فقرات المثالب الرئيسة والإخفاقات البارزة لنظام الحكم القائم طوال السنوات السبع الماضية. وجاءت هذه المذكرة بعد أن اتجهت الحكومة إلى معالجة الأزمات الاقتصاديَّة عبر إجراءات قاسية جداً، حيث قرَّرت رفع أسعار الوقود وانعكاسها على كل أسعار السلع الضروريَّة الأخرى، وتطبيق إجراءات متعلقة بالضرائب والجمارك وحجم الإنفاق الحكومي كانت لها أثراً سلبيَّاً على حياة الناس في الحاضرة والبادية. وفي هذه الأثناء أظهرت دراسة أكاديميَّة أنَّ 94,8% من سكان السُّودان يعيشون تحت خطر الفقر، وأنَّ حدَّته اشتدَّت في السنوات القليلة الماضية، مما يستوجب اهتمام عاجل من صانعي القرار في الخرطوم. وأشارت الدراسة الصادرة عن مركز الدراسات الإنمائيَّة بجامعة الخرطوم ونشرتها صحيفة "الاتحاد" الأماراتيَّة في يوم الجمعة، الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1999م، أنَّ الزيادة في معدلات الفقر في السُّودان بلغت نسبتها 2,5% وفق مسوغات تمَّت خلال الفترة من (1990-1996م)، وأنَّ هناك اختلافات في معدلات الزيادة في الفقر من ولاية إلى أخرى. وقد سجَّلت ولاية دارفور أعلى معدَّل في نسبة زيادته، حيث بلغت 4,5%، بينما كان أدنى معدل في ولاية الخرطوم هو 0,8%، وأوضحت الدراسة أنَّ المجموعات التي تعاني من الفقر تضم العاملين بالمؤسسات الحكوميَّة والخاصة، والذين يعتمدون في معيشتهم على الدخول الثابتة. وقالت الدراسة إنَّ مجموعات النازحين الذين يعيشون في معسكرات حول المدن الرئيسة في السُّودان، والذين يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين نسمة، تعد أكثر الفئات معاناة للفقر في ظل الظروف المعيشيَّة الصعبة التي يواجهونها من أجل إيجاد وسائل المعيشة والبقاء. وخلصت الدراسة إلى أنَّ معالجة الفقر ليست مسألة سياسات اقتصاديَّة فحسب، وإنَّما هي قضيَّة تنظيم مجتمعي.(116)
ليس هناك من يرتاب في أنَّ التجمع الوطني الديمقراطي قد عقد مؤتمرات هامة في الشأن السُّوداني، ووضع هيكلاً لإدارة العمل السياسي والإنساني، وكان يقوم باجتماعات دوريَّة لمتابعة مجريات الأحوال السياسيَّة وتدهور حقوق الإنسان في السُّودان، وكانت هذه الاجتماعات تُتوَّج دوماً بمؤتمر صحافي يعلن فيه أعضاء التجمع نتائج المباحثات ويصدرون البيانات. ففي ختام اجتماعات هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في العاصمة الإريتريَّة، أسمرا، في 20 آذار (مارس) 1998م، قرَّرت القيادة تصعيد العمل الجماهيري بكافة الوسائل للوصول إلى الانتفاضة الشعبيَّة، وتصعيد النضال المسلَّح على كافة الجبهات، واعتبار الشركات العاملة في مجال التنقيب واستخراج البترول والذهب أهدافاً عسكريَّة مشروعة. كما أنَّها رفضت أيَّة مبادرات سلميَّة خارجة في السُّودان ما لم تقم على الأسس التالية:(117)
(1) معالجة المشكل السُّوداني بصورة شاملة، ورفض الصلح بين النظام والمعارضة.
(2) إنهاء الحرب الأهليَّة وفق المبادئ التي جرى التراضي عليها في مؤتمر القضايا المصيريَّة.
(3) إرساء حكم ديمقراطي تعددي بالمعنى المتعارف للديمقراطيَّة.
(4) الالتزام الكامل بكافة مواثيق حقوق الإنسان الدوليَّة والإقليميَّة.
(5) إقامة لامركزيَّة حقيقيَّة تنهي عبرها هيمنة المركز على الأقاليم، وتوزع السلطة والثروة توزيعاً عادلاً.
(6) عدم قيام أحزاب سياسيَّة على أساس ديني أو عرقي.
(7) الاحتكام للشعب (الانتخابات وحق تقرير المصير) في ظل رقابة إقليميَّة أو دوليَّة.
(8) تفكيك كل مؤسسات القمع والهيمنة، وإلغاء جميع المراسيم والقوانين التي تمكِّن ذلك.
(9) محاسبة كل من اقترف جرماً في حق الشعب والمواطنين، وبخاصة جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان.
وفي يوم 29 كانون الأول (ديسمبر) 1998م قدَّمت القوى السياسيَّة المعارضة والشخصيات الوطنيَّة في السُّودان مذكرة أخرى إلى حكومة البشير، وطالبت المذكرة – فيما طالبت – بتكوين حكومة قوميَّة انتقاليَّة يرتضيها الشعب، ويكون من مهامها عقد المؤتمر الدستوري القومي لإقرار السلام العادل والشامل، وترسيخ الديمقراطيَّة، ومساءلة ومحاسبة من أجرموا في حق الشعب، وتمتين علاقات السُّودان الخارجيَّة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة. وتضمَّنت المذكرة وجهة نظر ورؤى التجمع الوطني الديمقراطي حول الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالبلاد يومئذٍ، والتي نتجت عن سياسة النظام، وأدَّت إلى دمار شامل شمل السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعيَّة والأخلاق. إذ لم يستطع أهل النظام أن يقرِّروا سياسة واضحة تجاه كيفيَّة التعامل مع المذكرة والأجواء التي أفرزتها؛ وهم كانوا مع ذلك مختلفين: فمنهم من رأى ضرورة القمع، وهناك من رأى المراوغة والالتفاف على مضمونها وتفويت فرص التصعيد، ثم كان هناك صوت غير مرجح خافت بينهم يقول بأنَّ هذا صوت عقل ويجب أن تسمعوا له.(118)
وفي العام 1999م تقدَّم أبيل ألير بمشروع للطرفين المتحاربين، أي الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة، لحل النِّزاع المسلَّح في البلاد. فما هو جوهر هذا المشروع؟ أو ما الجديد الذي جاءت به الورقة التي عُرِفت يومئذٍ باسم مشروع أبيل ألير؟ إنَّ المشروع في ذاته ليمثِّل وجهة نظر اتحاد الأحزاب السُّودانيَّة الإفريقيَّة "يوساب"، وكان ألير مستشاراً له، ويقضي المشروع – فيما يقضي - بإنشاء كونفيديراليَّة بين الشمال والجنوب، على أن تؤسس كل دولة قواتها المسلحة، وحين تنشأ الحاجة تشكِّل القوات المسلحة للدولتين الكونفيديراليَّتين قوات مسلحة مشتركة. ولكن سرعان ما تعثَّر هذا المشروع بعدما وجه قياديُّون في الحكم السُّوداني انتقادات عنيفة له (ملحق رقم (11)).(119) وفي يوم 4 أيار (مايو) 1999م ورد في "انطباعات واعتراضات" الحكومة السُّودانيَّة على هذا المشروع – في اجتماعات متقطعة وطويلة دامت 14 ساعة – أنَّ مشروع ألير يحتوي على سلطات كونفيديراليَّة، وإنَّه لأشد تطرفاً من الأوراق التي قدَّمتها الحركة الشعبيَّة في محادثات سابقة، وإنَّه لصامت عن مسألة وحدة البلاد، وإنَّه ليتجاهل الدستور والترتيبات الدستوريَّة، وإنَّه لساكت عن العلاقة السياسيَّة بين الحكومة والإدارة الانتقاليَّة، ثمَّ إنَّ الحكومة لا تعترف ب"حق تقرير المصير" كحق أساس، بل كملاءمة سياسيَّة. وجاء في اعتراضات الحكومة السُّودانيَّة على الورقة تضمين أبيي داخل حدود جنوب السُّودان، وأصرَّت الحكومة على أنَّ حدود جنوب السُّودان هي كما كانت عليها المديريات الجنوبيَّة في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1956م، وكذلك اعترضت الحكومة على الإشارة إلى الأنقسنا وجبال النُّوبة والتجمع الوطني الديمقراطي في المقترح، وعلى مشروع كيانين منفصلين في البلاد، وترك مهام الإدارة في الجنوب للحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان وحدها فقط خلال الفترة الانتقاليَّة، وتحديد الفترة الانتقاليَّة بعامين لأنَّها فترة قصيرة، وإنشاء السلطة العليا من الرئيس وقائد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، ونقاط أخرى وردت في صحيفة الاعتراضات لتشمل الجهاز القضائي في الجنوب، الإجراءات الماليَّة للدولتين الكونفيديراليَّتين، بعض سلطات الإدارة الانتقاليَّة في مجالات السياسات الاقتصاديَّة، المساحة، الإحصاء، المراجعة، الأراضي، تشكيل لجنة الاستفتاء، استبعاد الميليشيات وقوات الفصائل الأخرى من تعريف القوات المتحاربة، إضافة المراقبين العسكريين الدوليين في لجنة وقف إطلاق النار، ومراجعة اتفاقيات النفط بين حكومة السُّودان والشركات الأجنبيَّة العاملة في مجال النفط في السُّودان. أي باختصار شديد رفضت الحكومة ورقة ألير جملة وتفصيلاً.
ومن جانب آخر، اجتمعت الحركة الشعبيَّة في نيروبي – حاضرة كينيا - لمدة يومين بوفد يوساب القادم من الخرطوم للتفاكر حول ورقة الأخير لحل النِّزاع السُّوداني. وفي نهاية الحوار في يوم 14 أيار (مايو) 1999م أبدت الحركة الشعبيَّة الملاحظات الآتية حول مقترح يوساب:(120)
(1) إنَّ الحركة الشعبيَّة لترحِّب وتعترف بجهود وهموم يوساب في سبيل السَّلام في السُّودان، إلا أنَّ الحركة الشعبيَّة لا ترى يوساب كوسيط في الصِّراع، بل كميسِّر غير رسمي لعمليَّة السَّلام الجارية تحت وساطة "الإيقاد".
(2) على العموم، إنَّ الحركة الشعبيَّة لتعتبر مقترح يوساب للحل السياسي للنِّزاع في السُّودان أنَّه يحتوي على نقاط إيجابيَّة يمكن أن تعطي قوة دافعة لوساطة "الإيقاد"، ونحن نشجع يوساب على الاستمرار في الحوار مع حكومة السُّودان. وفي هذه الأثناء، نحن متلهفون إلى عودة اجتماعات "الإيقاد" لمحادثات السَّلام التي كانت محددة لها يوم 20 نيسان (أبريل) 1999م، ولكنها أُجِّلت بواسطة حكومة السُّودان.
فبدلاً من أن ينخرط النظام في الجلوس والحوار بموضوعيَّة مع قيادة المعارضة، أصرَّ قادته بأنَّهم لم يتفاوضون إلا مع حاملي السلاح تارة، وطفقوا يذيعون في الناس أنَّ هؤلاء المعارضين عملاء لقوى أجنبيَّة تارة أخرى، ثم أخذوا يستكثرون في الحديث عن "نظريَّة المؤامرة" (Conspiracy theory) القائلة بأنَّ "السُّودان مستهدف" من قبل دول الاستكبار تارة ثالثة. وفي هذا الشأن يقول الدكتور باتريك ليمان – أخصائي علم النفس بجامعة رويال هولوي، ورائد في مجال دراسة "نظريات المؤامرة" – إنَّ هناك عاملين رئيسين يجعلان الناس يصدِّقون ما لا يمكن تصديقه. فالعامل الأول هو أنَّهم يرون "فجوة تفسيريَّة" في استيعابهم، ويملأون هذه الفجوة بالتباس بدلاً من الإتيان بتفسير صدوق. ويعود ذلك إلى حاجة الرغبة الإنسانيَّة في اقتران الأحداث العظيمة بمسببات عظيمة. والعامل الثاني هو إنَّ الذين يؤمنون بنظريَّة المؤامرة هم تلك الطائفة من الناس الذين يعيشون على هامش المجتمع، لأنَّ الذين لا يشكلون فصيلاً رئيساً في المجتمع يستخدمون نظريات المؤامرة كأسلوب من أساليب الانتماء إلى الكل. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّه كانت لدي السُّودانيين فرصة طيبة في سبيل الوصول إلى حل سياسي لقضيَّتهم بأيديهم عبر حوار مباشر بين الحكومة السُّودانيَّة والتجمع الوطني الديمقراطي المعارض في النصف الأول من التسعينيَّات من القرن الماضي، حيث أقعدهم قصور النظر لغلبة التيارات الإقصائيَّة في أجهزة الحكم، والتي لم تكن ترى السُّودان إلا عبر منظورها الخاص. بيد أنَّ هؤلاء الأقوام المتزمِّتين هم الذين يقدِّمون للناس المشير (م) عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب للوفاق بين الرِّفاق السُّودانيين، وكأنَّما سوار الدهب هذا محايداً كان ثمَّ سياسيَّاً بدون لون حزبي. ففي يوم 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2000م عُقِد "الملتقى التحضيري للوفاق الوطني" في الخرطوم برئاسة سوار الدهب وبمشاركة مقرر المؤتمر السفير أحمد عبد الحليم – سفير السُّودان بالقاهرة يومذاك. وقد أكَّد البيان الختامي للملتقى بأنَّ الحرب ليست الحل، والتمسك بخيار الوحدة والسَّلام، ونظام الحكم والديمقراطيَّة، والتنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الشاملة، والتوزيع العادل للثروة هي الحلول الناجعة. وقد شملت توصيات الملتقى بنوداً كثيرة، وتفاصيل عديدة من بينها ما يلي:
(1) إيقاف الحرب تمهيداً للحوار الجامع المفضي إلى الوفاق الوطني والسَّلام.
(2) إعادة إعمار ما دمَّرته الحرب في جنوب الوطن.
(3) تحقيق التنمية المتوازنة لتعم كل المناطق، بما في ذلك الجنوب.
(4) مناشدة الحكومة لاتخاذ التدابير العمليَّة لإنقاذ اتفاقيَّة سلام النيل الأزرق عبر آليَّة خاصة.
(5) إلزام جميع الأطراف بتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين كل منها والحكومة، والمتمثلة في:
1) اتفاقيَّة الخرطوم للسَّلام.
2) اتفاقيَّة جبال النُّوبة للسَّلام.
3) اتفاقيَّة الملامح العامة للبرنامج الوطني.
4) نداء الوطن.
وقد تضمَّن بيان الملتقى تفاصيل خاصة بالتنمية الاقتصاديَّة، منها تنفيذ البنود الخاصة باقتسام الثروة، والإسراع بتنفيذ إنشاء الصندوق القومي لتنمية الولايات الجنوبيَّة والولايات المتأثرة بالحرب، وإعادة تأهيل المشروعات القوميَّة الكبرى، ومنح الأولويَّة للقضاء على الفقر، واستعادة دور الدولة كاملاً، والسعي إلى توفير الموارد اللازمة لتحقيق أهداف التنمية. وفي شأن العلاقات الخارجيَّة قرَّر ملتقى الحوار مواصلة سياسة حسن الجوار على أساس رعاية المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة واحترام السيادة الوطنيَّة لكل بلد، ومواصلة الانفتاح على كافة دول العالم بما في ذلك الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكيَّة. هكذا واصل سوار الدهب مسعاه تحت مسمى "هيئة جمع الصف الوطني". وقبل أن يصل سوار الدهب إلى خاتمة المطاف بمبادرته طرحت هيئة الأحزاب والتنظيمات السياسيَّة "مبادرة للتصالح الوطني وتوحيد الجهود السياسيَّة" لاستقرار السُّودان. وارتكزت مبادرة الهيئة – وفقاً لرئيس الهيئة، عبود جابر – على نبذ العنف السياسي، وسرعة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين بجميع الأحزاب، وقيام المصالحة على قاعدة التراضي الوطني، والجلوس للتفاوض دون شروط مسبقة مع احترام الدستور والاتفاقيَّة والشراكة القائمة، وسيادة السُّودان، وتفعيلة الدوائر العاملة في عمليَّة المصالحة، على أن يكون الحوار مفتوحاً ويشمل قبول وساطة الكيانات السياسيَّة للشخصيات الوطنيَّة. واستطرد جابر أنَّ مبادرة الهيئة تهدف إلى دعم المصالحة الوطنيَّة، وتحقيق الأمن والاستقرار والتحوُّل الديمقراطي، وبخاصة أنَّ الخلافات السياسيَّة السُّودانيَّة ظلَّت تؤرِّق السُّودانيين لأكثر من تصف قرن.(121) وقد سبق أن أعلن الفريق عمر البشير – بعد أدائه القسم أمام المجلس الوطني (البرلمان) – أنَّ للوفاق الوطني مبادئ كليَّة تقوم على استجماع الإرادة الوطنيَّة وحشدها، وحدَّد هذه المبادئ على النحو التالي:
(1) تأسيس الاعتراف المتبادل، والتجافي عن نزعة الاستئصال للآخر أو الإقصاء.
(2) الالتزام بالحل السياسي السلمي دون خيار المواجهة والاحتراب.
(3) التواثق على ممارسة سياسيَّة رشيدة قائمة على التعدديَّة، وكافلة لحقوق الإنسان الأساسيَّة، وضامنة للحريَّات العامة والخاصة، وراعية لحكم القانون واستقلال القضاء.
(4) التلاقي حول ثوابت القيم العليا للأمة، وجوامع المصالح الكبرى للبلاد، وقواسم الموجهات الأساسيَّة للدولة، مع الاختلاف المشروع حول مناهج العمل ووسائل الأداء.
(5) تحقيق شمول المشاركة في الشأن العام، والتداول السلمي للسلطة عبر الإرادة الشعبيَّة الانتخابيَّة الحرة.
فلا شك في أنَّ المبادئ إياها، التي أعلنها الرئيس عمر البشير، هي في الأساس شروط النظام لأيَّة عمليَّة تفاوضيَّة مع المعارضين. وخلاصة القول إنَّ تداعيات هذه الثوابت باسم الإسلام والعروبة قد خلقت سلسلة من السدود المانعة للوفاق السياسي بين أبناء الوطن الواحد. وإن بذور الاحتقانات، التي غرسها فقهاء السلطة، وغزلوا خيوط الفرقة والشتات، ونسجوا لها أردية التلفيق، هي التي شكَّلت تلك العوائق حتى استحال معها الوصول إلى توافق سلمي، واستعصى أمر تطوير النظام السياسي، وبلوغ المصالحة الوطنيَّة المرجوة. مخطئ من ظن يوماً أنَّ المبادرات التي كانت تخرج من الخرطوم وعلى رأسها قيادات وُصِفت بأنَّها شخصيات وطنيَّة كانت محايدة. وأيَّة مبادرة تنطلق من الخرطوم دون أن تنال رضا أهل الحكم! وأي مشروع للمصالحة يقوم به ملتقى أو منبر أو طائفة من الناس دون أن تكون حكومة "الإنقاذ" قد ارتضته، أو تولَّته، أو نفخت فيه من روحها! وكيف يمكن أن تكون هذه المبادرات محايدة وهي نابعة من الخرطوم، حيث الحجر على الحريات وتكميم الأفواه والرقابة الأمنيَّة على كل التحركات والتجمعات السياسيَّة والنقابيَّة والفئويَّة وغيرها! ومع ذلك فإنك تجد في هذه المبادرات اللعب بالألفاظ، واختيار العبارات الغامضة والعائمة التي لا تفضي إلى شيء، وتغليب الإنشاء الوصفي المجرد عليها أكثر منه إلى الحقائق الدامغة.
ومع ذلك، أي عقب توقيع اتفاق القاهرة بين الحكومة السُّودانيَّة والتجمع الوطني الديمقراطي في 18 حزيران (يونيو) 2005م، تكوَّنت لجنة خماسيَّة من التجمع لمناقشة القضيتين اللتين لم يتم التوصل حولهما إلى أي اتفاق، وهما: قوات التجمع الوطني الديمقراطي، وزيادة نسبة تمثيل التجمع في السلطة التنفيذيَّة والتشريعيَّة. ونسبة للظروف التي فيها دخل التجمع الوطني الديمقراطي إلى هذا الحوار مع النظام "الإنقاذي" لم يكن أحد يتوقَّع أن تستجيب الحكومة إلى هاتين القضيَّتين، وهذا ما حدث.(122)
بنظرة سريعة إلى مستهل التسعينيَّات فإذا الحركة الشعبيَّة تقود حواراً مع أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي بما فيهم أعداء الأمس لكي يتفقوا على مبادئ عامة في إطار حل مشكل السُّودان القومي، وليس مشكل جنوب السُّودان؛ وإذا بنا نجد أنَّ القضايا المحوريَّة في هذا الحوار اشتملت – فيما اشتملت – على قضيَّة الوحدة الوطنيَّة وشروطها، الدِّين والدولة، الديمقراطيَّة والشفافيَّة السياسيَّة، حقوق الإنسان، المواطنة والعدالة، التنمية الاقتصاديَّة المتوازية، المشاركة في السلطة، وتوزيع الثروة القوميَّة؛ ثمَّ إذا الحركة الشعبيَّة تسعى مع هذه الفعاليات السياسيَّة السُّودانيَّة سعياً حثيثاً حتى توصلوا في نهاية الأمر إلى صيغة مقبولة لديهم في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة العام 1995م كأساس للمعارضة السياسيَّة والعسكريَّة، وحكم السُّودان بعد سقوط حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة. هذا، فلم يكن هذا الحوار الذي دار في دور التجمع الوطني الديمقراطي هيِّناً سهلاً، حيث كانت هناك أحزاب خرجت لتوها من السلطة وفيها ما فيها من بقايا صلف وازدراء أهل السلطان، وكان هناك من غدا يحلم أنَّ اندحار سلطة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بات وشيكاً ولسوف يعود إلى السلطة لممارسة اللعبة القديمة مكراً وخبثاً. وهذا الأخير أمسى يراوغ، ولم يول الأمر أيَّة جديَّة فاعلة؛ ثمَّ لم تخل مخيَّلتهم من رواسب الماضي، والعنجهيَّة العنصريَّة، ومع ذلك كانوا يحلمون بالعودة إلى كراسي السلطة على ظهور جياد الجيش الشعبي لتحرير السُّودان.
إذ أنَّ هناك ثمة تساؤل غدا يدور في مخيَّلتنا دوماً، ألا وهو لِمَ استطاعت الجبهة الوطنيَّة المتحدة المعارضة لنظام الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري في إنشاء وتدريب وتسليح جيش قوي أغارت به على العاصمة في 2 تموز (يوليو) 1976م، بحيث أمست العاصمة تحت سيطرته لمدة ثلاثة أيام على الأقل قبل اندحاره مهما يكن من الأمر؟ ولِمَ فشل التجمع الوطني الديمقراطي في القيام بنفس الشيء، حيث توفَّرت له نفس الفرص – كما توفَّرت لمعارضي نميري في السبعينيَّات – بل وأكثر. فالتجمع كانت لديها أراضي تحت سيطرة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جنوب السُّودان وجنوب كردفان (جبال النُّوبة) وجنوب النيل الأزرق (الأنقسنا) وشرق السُّودان، والتجمع كان له تحرك سياسي في كل دول شرق إفريقيا (يوغندا، كينيا، إثيوبيا، وبخاصة إريتريا التي منحته مبني السفارة السُّودانيَّة في أسمرا مقراً له) وشمال إفريقيا (مصر وليبيا). وفوق ذلك كله كان لنظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة سجل مروع في انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق المنكوبة بالحرب الأهليَّة، والتنكيل بالمعارضين السياسيين وتعذيبهم وتصفيتهم في الشمال؛ وكان النظام قد حظر حريَّة الرأي والتعبير والتجمع والنشر، بحيث فضح النظام نفسه بنفسه.(123) ومع ذلك كله لم ينجح التجمع في مقاومة النظام عسكريَّاً بقدر يهز أركانه ويزحزح سلطانه. يا تُرى ماذا كانت الأسباب؟ إنَّ الذين ناضلوا عسكريَّاً في صفوف الجبهة الوطنية المتحدة في السبعينيَّات وبقي على قيد الحياة بعد سقوط حكومة نميري العام 1985م لم تتم مكافأتهم أو الاهتمام بذويهم أسوة بآل المهدي، وقد ترك هذا الإهمال المتعمد – ولئلا نقول العنصري – جروحاً غائرة في أولئك المناضلين الذين كان جلهم من غرب السُّودان؛ الأمر الذي لم يشجع هؤلاء وغيرهم على تكرار تلك التجربة مع نفس الأحزاب (الأمة والاتحادي الديمقراطي) ونفس القيادات في عهد "الإنقاذ". والأسوأ في الأمر كله هو أنَّ العسكر في المعارضة الشماليَّة عانوا كثيراً من تصرفات قادتهم السياسيين، وعدم تقدير لمؤهلاتهم وخبراتهم العسكريَّة في بعض الأحايين، وبخاصة في حال جيش الأمة لحزب الأمة والذي جاء السيد الصَّادق المهدي بابنه الملازم عبد الرحمن الصَّادق المهدي ونصبه قائداً على قواته بما فيها عمداء وعقداء وغيرهم، ضرباً بعرض وطول الحائط كل الأعراف العسكريَّة، مما جعل كثراً من أصحاب الرتب العسكريَّة العليا هجران النضال المسلح والهجرة إلى الخارج. بيد أنَّ كل الذين شاءوا أن يتحدَّثوا في هذا الأمر كانوا يردِّدون دوماً أنَّهم ليس بوسعهم التضحية بأنفسهم في سبيل عودة أهل الأحزاب القدامى إلى السلطة. غير أنَّ الحركة الوحيدة التي ربما رأى فيها أهل الشمال ضالتهم المنشودة هي قوات التحالف السُّودانيَّة بقيادة العميد عبد العزيز خالد عثمان، والذي اعتبره البعض بمثابة "جون قرنق أهل الشمال"، على الأقل في أول عهده بالنضال العسكري. وقد شهدنا له ندوتين سياسيتين في التسعينيَّات من القرن المنقضي، أولهما في لندن، حيث كان الحضور كبيراً، والجمهور شغوفاً، والمشهد مهيباً؛ وثانيهما في مدينة مانشستر، حيث قل عدد الحضور شديداً. ومن هنا ترى كيف بدأ اليأس يدبُّ في نفوس المعارضين ضد ممثليهم السياسيين والعسكريين من أهل الشمال. وفي نهاية الأمر خفت أضواء العميد عبد العزيز خالد عثمان بعد عودته إلى الخرطوم بالطريقة التي عاد بها مهما يكن من الأمر، والانشقاق الذي حدث في حركته.
فإذا كان التجمع الوطني الديمقراطي لم يع الدروس والعبر من تأريخ السُّودان القديم والمعاصر، وإذا كان التجمع لم يستفد من تجارب الأمم والشعوب التي حل بها واستقرّ في بعض منها، وإذا كان التجمع لم ينفق الأموال التي مُنِحت إليه من أجل العمل السياسي والعسكري المعارض بالكفاءة المطلوبة، وإذا كان التجمع قد أخفق في تفعيل الانتفاضة المسلحة (المحميَّة) للإطاحة بالنظام "الإنقاذي"، وإذا كان التجمع قد فشل في حشد السُّودانيين عسكريَّاً لمواجهة النظام العسكري الذي صرّح في كل الأحايين بأنَّه لم يتفاوض إلا مع حاملي السِّلاح. وإذا كان كل هذا وغيره هو حصيلة التجمع الوطني الديمقراطي، فلا غرابة إذن إن أتى اتفاقه مع النظام السُّوداني على هذا النحو الهزيل، بعد أن مكث رجال التجمع سنيناً عدداً في الخارج، وظلوا يردِّدون ترداداً وتسياراً أنَّ هذا النظام "الخرطومي" سوف نقتلعه من جذوره، و"سنسمه على الخرطوم"(القلم 68/16). وقد أحدثت عودة بعض قيادات التجمع إلى الخرطوم - تسالماً أو تصالحاً مع النظام - شرخاً في التجمع، أكان ذلك من أعضاء القيادة الشرعيَّة للقوات المسلحة، أو قوات التحالف السُّودانيَّة، أو الحزب الاتحادي الديمقراطي، أو حزب الأمة. وكان السيد الصَّادق المهدي، إمام الأنصار ورئيس حزب الأمة، أكثر الناس جدلاً في هذا كله، كما سنبين بعد حين. هكذا أدرك النظام اعتماد التجمع على الأخر في صورة أشبه بالتواكل على الجماهير في سبيل التغيير، وكان النَّاس في الخارج يجادلون في هذا الإطار: أننتفض لكي تعود الأحزاب الطائفيَّة إلى السلطة؟ وهل أفلح التجمع حقاً في تعريَّة النظام وإظهار سوءاته، أم فضح النظام نفسه بنفسه بتصرفاته الرعناء في اعتقال وتعذيب واغتيال المعارضين، وانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق العمليات العسكريَّة ضد المدنيين العزل، وكان الضحايا في هذه التجاوزات الإنسانيَّة يُحصون فيبلغون عشرات الآلاف؟ ومع ذلك، كانوا يقولون قد أفلح التجمع في عقد مؤتمرات سياسيَّة ناجحة، وأطَّر العمل السياسي، لكنه كان يفتقد التنفيذ العملي، وبخاصة في الجوانب العسكريَّة. ولعلّ حديث الناس هذا عن التجمع والعجز الذي أصابه إلا ما رأوا وتكلَّموا فيه في المجالس؛ وكثيراً ما نتمثَّل قول المتلمس:
وما النَّاس إلا ما رأوا وتحدَّثوا وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا