الطيب صالح : أغلاط المطابع وزلات القلم (2-2) … بقلم : عبد المنعم عجب الفيا
17 December, 2009
في الحلقة الاولى من هذه المقالة تحدثنا عن بعض ما وصفناه بالزلات التي جرت على قلم الاستاذ الطيب صالح والتي لم تترك اثرا يذكر على استقامة السياقات السردية او الدلالة العامة للنصوص القصصية. وهي على اية حال يمكن ان تدخل من باب "اللمم" الذي لا يكاد يخلو منه مؤلف.
ولا بأس ان نعرض هنا الى ما ظنه البعض اخطاء في بعض المعلومات التاريخية. ففي كتابه المتفرد " الطيب صالح : سيرة كاتب ونص " والذي لا غنى عنه لكل باحث في ادب وحياة الطيب صالح ، يرى الدكتور احمد محمد البدوي ان الطيب صالح أورد في رواية موسم الهجرة واقعة غير صحيحة تاريخيا في حق قائد المهدية الامير محمود ود احمد. إذ يقول :
"ربما جاز للدارس أن يصفح ويغض النظر عن معلومة مثل: أن القطار السائر من الخرطوم الى الابيض يعبر فوق خزان سنار..ولكننا لا نستطيع بحال أن نتغاضى عن المعلومة الواردة في حق محمود ود أحمد في الرواية والتي تقول:(حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الاغلال بعد ان هزمه في موقعة أتبرا قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الارض،وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا )ص 127،128
ومأخذ الدكتور أحمد البدوي على الطيب صالح هنا هو جملة " وصاحب الارض طأطأ راسه ولم يقل شيئا" اذ يرى فيها مطعنا في كرامة وإباء محمود ود احمد ويعتبرها كبوة من كبوات الطيب صالح. فالامير ود أحمد " لم يطاطيء الراس " قدام كتشنر كما جاء وصفه في الرواية وانما وقف أمامه ندا لند مرفوع الراس في عزة ورباطة جأش . ويستعين احمد البدوي ببعض المصادر التاريخية التي تؤكد الموقف البطولي لمحمود ود احمد في مواجهة كتشنر، ومحاججته له الحجة بالحجة.
على إن الراوي هنا لا يهدف الى إعطاء صورة واقعية حرفية للمواجهة بين كتشنر ومحمود ود أحمد كما وردت في المصادر التاريخية ، بقدر ما يطمح الى رسم صورة لتلك المواجهة بحسه الروائي وبما يلائم غرضه الفني. فهو لم ينظر الى تلك المواجهة ولم يتعامل معها بعين المؤرخ وانما بعين الروائي. وذلك من غير ان يرمي الى التقليل من الجسارة والصمود الذي واجه به الامير ود أحمد صلف كتشنر عند استجوابه له على النحو الذي تحدثت عنه الروايات التاريخية التي اوردها الدكتور أحمد البدوي.
فبيت القصيد في ذلك المشهد الميلودرامي الذي استهوى مخيلة الطيب صالح الروائية ، هو قولة كتشنر عند استجوابه لمحمود ود احمد : " لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الارض !!!"
كتشنر هو الذي قال ذلك لمحمود ود احمد . لقد قلبت هذه المفارقة الغليظة ، حقائق الاشياء راسا على عقب وأحالت المحتل الغازي الى مالك للارض، وصاحب الارض الى دخيل وغازي. وازاء هذه (الكوميديا السوداء) ) لا يملك صاحب الارض الا أن يصمت ويطاطيء رأسه لا ذلا او صغارا وانما سخرية وربما مسايرة لهذا الموقف التراجيوكوميدي. !
فالصمت هنا - في تقدير الكاتب - أبلغ من الكلام. كمن يسالك سؤالا سخيفا او يبدي لك ملاحظة متعجرفة فتكتفي في الرد عليه بالنظرة الهازئة او الابتسامة الماكرة او الصمت المتعالي المتغابي.
واللافت للنظر إن أحدى المصادر التاريخية التي استشهد بها الدكتور احمد البدوي يرد فيها ان كتشنر سأل بالفعل محمود ود أحمد :" ماذا أتى بك الى بلدي تقتل وتحرق؟ " فيرد عليه محمود : " مثلك ألبي أمر الخليفة مثلما تلبي أنت أوامر الخديوى!"
ويلاحظ القاريء ان اجابة الامير محمود حسب هذا المصدر التاريخي – لم تكن في مستوى عنجهية كتشنر وافترائه بان البلد بلده ! وأغلب الظن ان الطيب صالح قد أطلع على هذه الرواية التاريخية وأخذ عنها سؤال كتشنر، غير أنه اعرض عن الرد المنسوب لمحمود ود أحمد - حسب ذلك المصدر – واستبدله بالصمت البليغ والطأطاة الساخرة. ومن هنا تاتي القيمة الفنية لاستحضار ذلك المشهد التاريخي في الرواية.
ان قراءة المشهد في سياقه الروائي كاملا يضيء لنا خلفية هذه الصورة ويكشف عن الغرض الفني للمؤلف من توظيف قصة محمود ود أحمد مع كتشنر. فقد وردت تلك العبارات على لسان مصطفى سعيد في سياق مونولوج تتقاطع وتتداخل صوره وتخيلاته أثناء جلوسه، في قفص الاتهام، امامه القضاة والمحامين والمحلفين الذين يقول عنهم :
" .. كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لاول مرة في حياته.وأنا احس تجاههم بنوع من التفوق ، فالاحتفال مقام أصلا بسببي ، وأنا فوق كل شيء مستعمر، انني الدخيل الذي يجب أن يبت في امره. حين جيء لكتشنر بمحمود ود احمد وهو يرسف في الاغلال بعد ان هزمه في موقعة أتبرا قال له : لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ الدخيل قال ذلك لصاحب الارض ، وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا . فليكن أيضا ذلك شأني معهم. " ص 97
لقد أراد مصطفى سعيد ان يلعب دور كتشنر مع محمود ود احمد " فليكن أيضا ذلك شأني معهم." انه يريد ان يقلب المعادلة هو الاخر ليحولهم هم أصحاب الارض ومواطني النساء اللائي قتلن وانتحرن بسببه ، الى متهمين مع انه هو الذي جاءهم غازيا ليحاكمهم في بلدهم .
ألم يقل لهم : " انني جئتكم غازيا في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ " ؟ كانما اراد ان ينتقم بطريقته " الملتوية " لمحمود ود احمد ولالآف الذين فقدوا ارواحهم في معركة اتبرا وكرري وغيرها من المعارك التي خاضها السودانيون مع الانجليز.
فقد قلب مصطفى سعيد "الآية" وصار هو المستعمر( بالكسر) ، وهو الدخيل الذي يجب ان يبت في امره على يد هؤلاء المحلفين الذين " كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لاول مرة في حياته " ليخلصه من حبل المشنقة .فقد حرموه النهاية التي يريد " نهاية الغزاة الفاتحين" واكتفوا بالحكم عليه سبع سنوات سجنا. مثلما حرموا من قبل محمود ود أحمد من الشهادة التي كان يرتجيها وارسلوه اسيرا الى مصر وظل في الاسر الى ان توفي سنة 1906.
الفروة أم عبل:
في الجزء الاول من هذه المقالة وفي سياق رصد الاخطاء الطباعية كنا قد اشرنا الى جملة برواية مريود كتبت : " غروة طويلة ذات عبل " ص27 . وذهبنا الى أن التعبير الصحيح يجب ان يكون " فروة طويلة ذات حبل" لكن صديقي الاستاذ صديق الحسن اشيقر وهو رجل أديب وذو محصول وافر في الثقافة الشعبية قد تكرم مشكورا، بتصحيح ما ذهبنا اليه قائلا أن كلمة " عبل " بالتحريك - لفظة سودانية عربية فصيحة. وكثيرا ما يقال في اللهجة السودانية : فروة أم عبل و بطانية أم عبل وشملة أم عبل الخ.. ويضيف ، يبدو ان المقصود بالعبل الذؤابات أو الشعر الذي في الاطراف والسطح الذي يشبه النبت.
وقد وجدت كل ما ذهب اليه الاستاذ/ صديق الحسن اشيقر صحيحا.فقد جاء في معجم (لسان العرب) وغيره من أمهات المعاجم أن "العبل" بالتحريك –الهدب وهو كل ورق مفتول غير منبسط كورق الارطي والاثل. واعبلت الشجرة اذا نبت ورقها واعبلت الشجرة اذا سقط ورقها فهو من الاضداد . والهدب جمع هدبة وهي الشعرة النابتة في أشفار (أجفان) العين. يقال: أهدب الاشفار : طويل أجفان العين. وهدب الثوب : طرفه.
ومن كل ذلك نستنتج ان "عبل " في اللهجة السودانية هو زوائد الشعر المتدلية او الاهداب البارزة في سطح الشيء او طرفه .اذن( فروة ذات عبل) كثيقة الشعر أو لها زوائد وذيول من شعر. وبذلك يكون الخطأ المطبعي قد لحق كلمة " فروة " بينما سلمت منه لفظة " عبل" .
مصادر :
1- دكتور أحمد محمد البدوي – الطيب صالح سيرة كاتب ونص – الدار الثقافية للنشر – القاهرة – ط 1 2000
2- الطيب صالح - موسم الهجرة الى الشمال- دار العودة – بيروت- ط 13 – 1981 ص 97
abdou alfaya [abdfaya@yahoo.com]