الإيقاع الصوفي السوداني

 


 

د. عمر بادي
26 December, 2009

 

ombaday@yahoo.com

بما أن الهيكل العظمي هو الأساس الذي ينبني عليه الجسم , فإن الإيقاع هو الأساس الذي تنبني عليه الموسيقي . الملحن القدير يبدأ بقراءة نص القصيدة المراد تلحينها و يتقمص معاني الكلمات فرحا أو حزنا , ثم يعيد قراءتها بوتيرة سريعة في حالة الفرح , و بوتيرة بطيئة في حالة الحزن , و من ثم يحدد لها الإيقاع المناسب , و بعد ذلك يدخل في الجمل الموسيقية . الوتيرة هي التردد الصوتي المصحوب بطول موجات متشابهة . اما الإيقاع خاصة المركب منه فيتكون من ترددات متداخلة , و خير مثال لذلك إيقاع ( السيرة ) السوداني , أو كمثال محسوس أقول إيقاع الجسد من خلال رسم القلب التخطيطي الذي يوضح تردد ضربات القلب و ترددات حركة الشرايين إنفتاحا و إنقباضا ... الحياة كلها مليئة بالترددات , الأشجار تتردد بحفيفها , و الرياح تتردد بصريرها , و المياه تتردد بخريرها , و الرعد يتردد بهزيمه , و البحر يتردد بهديره و الحيوانات تتردد بثقائها و نهيقها و صهيلها و عوائها و نباحها و موائها و نقيقها , و الطيور تتردد بنعيبها و صياحها و هديلها و شقشقتها , حتى الإلكترونات في النواة تتردد في تحركها و دورانها و كذلك الأجرام السماوية . أما الناس فيترددون بالتسبيح و ( مسك ) الإسم و ذكر الله و الدوران ... حقا يسبح لله ما في السموات و ما في الأرض .

من خلال متابعاتي لأجهزة الإعلام العربية , تبين لي أن الإيقاع الطاغي على الأغاني الحديثة هو إيقاع ( نوبة الأذكار ) المعروف في محليتنا و الذي كنت قد كتبت عنه كثيرا قبل هذا , فهو إيقاع الطبل عند الطرق الصوفية , و تحاورت مع بعض المهتمين بالموسيقى من الإخوة العرب ووافقوني إنه الإيقاع الصوفي السوداني , و لكنه قد وصل إلى العالم عن طريق أمريكا ! هذه حقيقة قد كتبت عنها أيضا قبل هذا , و قلت أن فنان الريقي الرائد جيمي كليف الجمايكي الأصل و الذي نشر موسيقى الريقي في أمريكا قبل بوب مارلي كان يؤمن مثل كل سكان جزر البحر الكاريبي أن أصلهم يعود إلى مملكة النوبة في شمال السودان قبل مئات السنين قبل الميلاد , و كلنا يتذكر الأميرة النوبية التي حضرت من تلك الجزر الى السودان قبل أعوام مضت كى تزور أرض أجدادها ! كان جيمي كليف يحضر إلى السودان في فترة السبعينات حاملا معه جهاز تسجيله و كان يقوم بتسجيل إيقاعات الطبل الصوفي في حلقات الأذكار في ضاحية ( حمد النيل ) في ام درمان .

هذا الإيقاع الصوفي السوداني المتميز هو حقا سوداني الجنسية بالميلاد , و قد ولد نتيجة لتلاقح أذكار الصوفية الوافدة مع ثقافة الأهالي الأفريقية , فكانت الدعوة إلى الإسلام بالأذكار الموقعة بالطبول الأفريقية , و قد إنتهج المشايخ هذا الإسلوب ترغيبا في الإسلام و نجحوا في ذلك .

كأمثلة لهذا الإيقاع لمن أراد ان يستبينه أورد الأغنيات الحديثة للفنان المصري عمرو دياب خاصة الأغنية المنتشرة في كل المحطات و التي يقول فيها :

وياه ..

الحياة بتحلى و أنا معاه

هو دا اللي بتمناه

و اللي عيني شايفاه

مثال آخر أورد الأغنيات الحديثة للفنان المصري أيضا تامر حسني , خاصة أغنيته الرائجة التي يقول فيها :

كل اللي فات من عمري

عدّ كأنه ساعات

أول ما شفت عينيك

أيضا قد إستمعت إلى أغنيات لبنانية عدة قد طغى عليها هذا النوع من الإيقاع , لكن ما حفزني لكتابةهذه المقالة وصول هذا الإيقاع إلى الأغاني الخليجية , و كانت البداية الداوية هذه الأيام و التي أستمع إليها بمعدل كل نصف ساعة في إذاعات ال ( إف . إم ) في منطقة الخليج , و هي أغنية الفنان الأماراتي حسين الجسمي الجديدة باللهجة المصرية و التي يقول فيها :

بتقابلني في السكة

إنشاء الله ستة الصبح

أولا لم أسمع أو أقرأ أن أحدا قد قام بإنتقاد هذه الأغنية أو شنّ عليها هجوما بإعتبارها خروجا عن الوجدان المتوارث و عن المإلوف , و رغم لهجتها المصرية فقد إحتضنها المستمعون الخليجيون بل و نشروها و إعتبروها خطوة للأمام في مسيرة الفن الخليجي . مساكين عندنا الفنانون الشباب الذين يُحبطون من النقد الهادم كلما أتوا بما هو جديد في مسيرة الفن السوداني . منذ متى كان لنا وجدان متوارث ثابت الملامح , و نحن لم يكن لنا في بداية القرن الماضي سوى الطنبرة بالحلوق و التصفيق و التي تشبه في موسيقاها بدائية و رتابة آلة ( أم كيكي ) الموسيقية , و لكن كان التأثر بالفن الوافد من دول الجوار فكان دخول الآلات الموسيقية و الجمل الموسيقية التي لم يسعها السلم الخماسي فتحولت إلى مزج بالسباعي كما في أغنيات الفنانين شرحبيل أحمد و عبد القادر سالم و محمد الأمين , و لا زال التطوير مستمرا و التأثير و التأثر مستمرين . أما الوجدان فهو قابل للتنوع مع القبول و الدليل على ذلك ما نتجاوب معه من فن في كل ربوع السودان .

رغم سودانية هذا الإيقاع الصوفي السوداني , إلا أنني لم أستمع حتى الآن إلى أغنية سودانية تنحو في منحاها إلى الأغنيات الثلاث آنفات الذكر , اللهم إلا أغنية للفنان الشاب خالد حسن إستمعت إليها في فيديو كليب باللهجة المصرية و لكن لم ألاحظ لها أي صدى في أجهزة الإعلام و كأن هذا موقف منها باعتبارها نوع من التجريب فقط . هذا الإيقاع الذي أدعو إليه قد إستمعت إليه في قناة (ساهور) و لكن كدعاية ترويجية لجهاز ( سوداني ون ) في أغنية / مدحة دعائية بهذا الإيقاع الصوفي السوداني ! ربما كان أسلوب الدعاية في قناة ( ساهور ) الدينية قد حتم ذلك لتعودهم على هذا الإيقاع كما في مدائح المادحين الجيلي الصافي و فيحاء محمد علي  , و على العموم فهذه أعتبرها بداية . إن علاقة المدائح الدينية بالأغاني هي علاقة أزلية منذ أغنية الشيخ الورع محمد الجلبابي في العهد التركي : ( غنيتا للستات , و أنا قصدي الإنبساط , يا خلّي مع البنات ) و إلى أغنية شيخ مكناس : ( شويخ من أرض مكناس وسط الأسواق يغني , إيش على من الناس و إيش على الناس مني ) ! المدايح كانت قبل الأغاني , و على ذلك أُقتبست موسيقى المدايح و أدخلت للأغاني , و الآن حصل العكس , فقد أُقتبست موسيقى الأغاني و أدخلت للمدايح , فهي بضاعتهم قد رُدت إليهم !

على ذكر البضاعة و ردها أتذكر في ندوة كانت في الرياض في المملكة العربية السعودية قبل اشهر قلائل مضت كانت عبارة عن لقاء مع وفد الشعراء و الكتاب السعوديين القادمين من السودان بعد زيارة ثقافية على شرف معرض الكتاب العالمي بالخرطوم . في تلك الندوة كال الأدباء السعوديون المدح و التقريظ للأدباء السودانيين و لشخصية ( الزول ) السوداني حتى أخجلوا تواضعنا , فنهض البروفيسير عز الدين عمر موسى المتخصص في التاريخ و قال لهم في مداخلته : (( إنها بضاعتكم رُدت إليكم ! )) , ثم أردف أنه يداعب أصدقاءه السعوديين بأنه ينتمي إلى الذين إستجابوا لنداء الله فهاجروا و جاهدوا في سبيل الله , بينما هم أحفاد الخوالف ! و ضج الجميع بالضحك و التصفيق .

أخيرا , إن الملحنين و المطربين في السودان لم يدخلوا حتى الآن هذا الإيقاع الصوفي السوداني في أغانيهم رغم إنتشاره عالميا , لماذا يا ترى ؟ لأنهم يتحرجون من ذلك بإعتباره إيقاع خاص بالطرق الصوفية , لكن نسبة لما أوردته من تداخل بين المديح و الغناء فلا أرى حرجا في ذلك , و بذلك أتمنى أن أستمع قريبا إلى الإيقاع الصوفي السوداني في أغنياتنا العاطفية و أنا أضمن لذلك القبول لأنه يمس وجداننا القومي .

 

آراء