فصل الانفصال: دروس في الالتئام … د عبدالرحيم عبدالحليم محمد
28 December, 2009
بريد الكتروني :Abdelrmohd@hotmail.com
موقع الكتروني : http://anab1987.blogspot.com/
أتأمل من بعيد حال هذا الوطن الغالي وفي الذهن خارطته الجميلة تلك التي ثبتها في أذهاننا مدرسونا العظام سابقا فمن حلفا الى نمولي ومن أقصى الغرب الى ساحل البحر الأحمر شرقا يتمدد وطن عزيز حبيب فأصبحت خارطته لا تعنى بالنسبة لنا كتلاميذ صغار ساعتئذ ناتجا جيولوجيا أو جغرافيا تمددت حيث شاء له القدر هناك في وسط القارة محترقا بعذابات الشمس الاستوائية وهاطلا مليئا بالرياح حين تعبس فصوله . ان جيلنا ذاك هو الذي عرف من هو منقو زمبيري منذ الصغر وترنم بأناشيد أنت سوداني وسوداني أنا ضمنا الوادي فمن يفصلنا . ان الجيل يعرف أن تلك الخارطة هي صورة ذهنية ووجدانية ومنحة من منح جماليات الانتماء الى الحياة وأناشيد الانتساب الى العالم ، ذاك جيل كان فيه طالب الجغرافيا والتاريخ المبتدئ يعرف كيف يمارس فن رسم خارطة الوطن بلا قلم أو أوراق ويسافر عبر مزامير الرعاة ورحلات البدو ومناجل المزارعين عبر صحاريه ونجوده وأوديته.
ولئن شاء قدر استعماري لهذا الوطن أن يدس له السم في دسمه الوطني بقانون المناطق المقفولة ذات يوم كقانون لقفل منابع الصفاء والتراحم والتوادد بين شطرى الوطن ، فقد ظل النيل القادم من هناك ناصعا كسيف صقيل يقف مثبتا في رحلته الأزلية نحو الشمال حقيقة أنه ليس ظاهرة جغرافية فحسب ولكنه سرة تنبت الأواصر من عم أو خال مثلما ظل الأثير النابع من أم در يحمل الى رموش الحبيبة هناك أغنيات وصال لا يبددها انفعال ولا تعصف بها شكوك ولا تغيرها أحلام قدماء الساسة أو أوهام وجهاء الحظ التاريخي أو الحظوة العارضة أو الحظ الكاذب :
يا جوبا مالك عليا
قطار شلتا عينيا!!
وقف ابراهيم دينج بطنبوره الذي تزينه ألوان الجنوب متغنيا بالزول الوسيم للنعام آدم وحتى الطيف رحل خلاني لمحمد كرم الله. وتنداح الذاكرة في تمددها الفوضوي الحنون فأذكر منقة كدوك الحلوة الكبيرة الحجم يأتي بها الينا من هناك الخال عبدالغني الطيب وكيل بوستة رومبيك يومها مواصلا رحلة النيل الى الشمال على سفري كريمة دنقلا . كنت عبر مكتب بوستة صغير في القرية التي أدرس بها –كورتي _ أراسله من هناك طالبا تدخله لدى الوالد الشيخ الذاكر للسماح لي بالسفر الى الخرطوم في عطلة المدرسة . كان البريد راقيا وفاعلا فكان يتلقى رسائلي التي لم أكن أدفع في الرسالة الواحدة منها سوى قرش ونصف فيرد على بأنها استلمها وتلاها على زملائه وكنت في رسالة لي إليه مركزا على كيف أن الشاعر ذاك قدم الخال على الأب :
اذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزّني خال ولا ضمني أب
كان البريد راقيا ولا زالت آثاره في العاصمة باقية في شكل صناديق البريد الشخصية كالتي رأيناها بعد ذلك بعقود في مدن الغرب الأمريكي ونرى آثارها اليوم بالخرطوم كآثار لأطلال حضارة دارسة !!!زمن رومبيك قدّم عبد الغني الطيب مثالا نادرا لحب الجنوب متصاهرا مع الأهل هناك ومن أبنائه وبناته من هم شركاء معنا في النخل شمالا بكافة أنواعه ..التمودة والبركاوي والمشرق والجاو ، وفي دار عبدالغني الطيب بالسجانة شارع النص كنت آتي من الشمال في منتصف الستينات على قطار كريمة الخرطوم فأجدها حافلة ثرة بشباب من الجنوب متحدثين عن شئونه وقضاياه وحتمية مصيره كمآل ومنقلب وكان عبدالغني الطيب وهو يدير تلك النقاشات وينعشها بفواصل من أسطوانته تلك –قرونديج_ بأغنيات مثل أراك عصي الدمع للكابلي قبل أن ينتقل بهم للاستماع الى دريج زعيما للمعارضة في رده على الهندي بالجمعية . كانت تتمدد على خديه شلوخ أفقية جميلة فيبدو ساحر مدهش حين يتحدث بطلاقة بلهجات الجنوب جميعها .كان هو وأبناؤه يصحون صباحا على صوت الثمار ...ثمار المانجو تتساقط كصواعق صديقة لب .لب على أسقف الزنكي فما الذي حدث من يومها والى حين فيتحول قصف الثمار الجميلة الى كهوف للموت والفرقة والحزن واجترار المرارات؟
الزعامات هناك تحاكم التاريخ وتلوك مرارات ساهمت في صنعها وتفتح جراح يريد لها العاشقون أن تقتصر على حالات العشق والهيام ويردون انتقالها الى جرح رعيب لا يبقي ولا يذر ، وبهذا فانهم يريدون نزع الاسكيرت من على جسد عازة الجميلة فتهرول عارية صائحة تحت المطر الاستوائي ..أستروني ..أستروني ويريدون لعازة أن تبقى بلا اسكيرت جنوبي في زمن التئام العوالم واحتشاد الطاقات في عالم يؤمن بأن البقاء للأصلح والمتوحد هو الأقوى. انهم يحرقون كتب المطالعة التي بها غنائيات منقو زمبيري ويضربون صغار التلاميذ بهراوات الانفصال اللعين ان هم حاولوا الترديد مع واضعي المناهج في بخت الرضا أغاني الألتئام :
منقو قل لا عاش من يفصلنا
قل معي لا عاش من يفصلنا
هاهو النيل الذي أرضعنا
وسقى الوادي بكاسات المنى
أيها الساسة والقادة ان قطع الوطن الى نصفين لا يتناسب مع جماليات ومنطق أن تظل خارطة الوطن بلا كسر أو انكسار فليكن بينا ومنا حكام يؤمنون بأن قدر هذا الوطن هو أن يظل هائلا جبارا لا تفصم عراه أمزجة الساسة وتقلباتها وانما يبنى بأن نجعل من خلافاتنا انفعالا لا انفصالا وننمي بيننا رجاحة وسماحة التقبل وفضيلة التنازل الجميل فبالصدق وحده تحيا الأوطان.
عليكم أيها الساسة فصل الانفصال والبحث عن فيل وطني لا تهلكه نظم الغابة أو تعصف به طيور الأبابيل!!