في حضرة: عبد الله الطيب المجذوب … بقلم: عبدالله الشقليني

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

 

أهي  ( الكرامة الصوفية ) أم أنها محض الصدفة ؟

 

(1)

" لحظاتنا كلها كرامات ، و ليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العلم "

 تلك مقولة للشيخ محمد الطيب الحساني .

 

(2)

" لقد بات واضحاً في مجال المعرفة أن المنتج غير العقلاني يلعب دوراً كبيراً في صنع التاريخ"

  تلك مقولة الدكتور محمد أبو الفضل بدران ، في مقدمة سِفره

" أدبيات الكرامة الصوفيةــ دراسة في الشكل و المضمون “.

 

  أهي  " الكرامة الصوفية " أم أنها محض الصدفة ؟ .

    أدرت المفتاح وفق اتجاه عقارب الساعة ، السيارة من صناعة اليابان ، إنها من أول النماذج التي  ارتأت بها منافسة العالم الأول في صناعة السيارات ، " كارينا 76 " .على يميني شمسٌ ،هي زوجتي . في المقعد الخلفي  قمرٌ ، هي شقيقتها . هممت بمغادرة الإدارة الهندسية- جامعة الخرطوم ، حيث كنت أعمل أوائل التسعينات . الوقت قبل الثانية و النصف بقليل  من بعد الظهيرة . أراه من البُعد يُهرول رافعاً يده : ـ

ـــ عبد الله ... انتظر .

  توقفت عن القرار ، فالقادم إلي ، فوق كل القادمين في منزلة الأب و سيد من سادات اللغة ، أحنت البطحاء ظهرها للريح ، و له         إكراماً و عرفاناً . انه  الذي ساد نفسه ، و سيَّده علمه على غيره : عبد الله الطيب المجذوب .

ــ أهلاً بالبروفيسور  .

  هممت بإدارة المقبض ، و من ثم النزول .

رد السلام ، وأردف :

ــ لن تتأخر ، دقيقتان  ثم ينتهي الأمر، أعدُك بذلك  .

   ضحكت ، و حسبت الأمر من المزاح ، و قلت في نفسي  ساعة أو أقل . إن الزمن يتراخى من تلقاء نفسه ، فقد هجرنا ضبط المواقيت منذ رحيل المستعمر، خطوة بعد خطوة حتى غلب الطبع التطبع  . نحنُ نقدر المُربِي  حق قدره  ، نُلبي  النداء، و نسترخص كل غالٍ . إنه معلم الأجيال  ، و المبجّل الذي  لن نُحصي  محاسنه ولا  فضله ولا طيب أريحيته . الزمن دون شك بضاعة  رخيصة في حضرته المتألقة .

ــ كلها دقيقتان ، سيبقى الجميع في السيارة .

أردف مؤكداً مقالته تلك . قلت لنفسي ، سنطيب خاطره ، ونعمل بالنصيحة . تركت من بالسيارة  كما طلب ، و رافقته إلى داخل مباني الإدارة الهندسية .  نحنُ نُطّل في ذلك الزمان على شارع الجمهورية ، و هو يجاورنا  رئيساً لمجمع اللغة العربية في السودان .

قال :

ــ نرغب أن يحضر رأس الدولة  افتتاح مجمع اللغة ، و عند صياغة الدعوة  لم أتذكر رقم قطعة الأرض الممنوحة لنا بالقرار الجمهوري ، فقلت في نفسي ، أنتم المصممون  و المشرفون على التنفيذ ، عندكم القول الفصل .

 

  الصوت المفخّم ، و النبرة الفريدة . ضحكت ، و دخلنا سوياً  مكتب السكرتارية : السيدة فاطمة ، و الآنسة عوضيه ، ثم الباشكاتب . عبرت إلى قائمـة الأرفف حيث الأرشيف. هنا رقــم الملـــف المختـــص " ـ 52 ـ مجمع اللغة العربية ". إنه بسُمك بوصتين ، لكثرة الأوراق  و وثائق المناقصة و المواصفات العامة والخاصة  و ما يشبه من المستندات الرسمية و الكتب المتبادلة.

 حملت الملف، قبل  الجلوس على مقعد الباشكاتب ،  و أنزلته بعجلة على سطح المكتب ، و تركت الثِقل يفعل فعله ، كمن يريد أن يبدأ البحث من مُطلق الصدفة ، ربما. وقف هو  قُبالتي ، وانفتح الملف ، وذهلتْ .....، فالدفتين فُتحتا . كفان يقرآن الفاتحة . وجدتُ عينيّ إلى منتصف الكتاب مُتجهة  و أنا أقرأ رقم قطعة الأرض المدون رغما عني و بصوتٍ مسموع  ! . أمنيته وقد تحققت....  .لحظة سحرية بحق . لم أتمالك نفسي ، تصببت عرقاً ، و حاولت الوقوف و أنا في سكرة الفجاءة  ، ووجدته يهُم الانطــلاق  ، فخاطبته  مرتبكاً :

ــ هل أكتب لك الرقم ...؟

ــ لا ، لقد حفظته  شُكراً لك .

   عندها غادر مُسرعاً كمن صُعِق .  قبل الصحو من تلك الغيبوبة  المدهشة ، كنت قد وصلت السيارة ، منحدراً من علو المدخل ، و كان هو قد اختفى عن الأنظار. الوعـد الذي قطعه على نفسه  و قد استوفـــــــــــاه ، " دقيقتين " لا غير . لم أنبس ببنت شفة ، و استغرقني الحدث . أهي  الكرامة الصوفية أم أنها محض الصُدفة ؟ . نحن في احتمال واحد في وجه اثني عشر ألف احتمال . أين العلة وأين أحرفها، بل مَنْ  العليل و مَنْ الصحيح  ؟.

 أين البداية وقد صرت إلى  الخاتمة ؟ .

 أين اللُب من خلف تلك القشرة السميكة ؟ .

 حاولت صياغة الحدث ، و إلباسه لباس الواقع ، و لم أجد مفراً من الركض سريعاً إلي الذاكرة المدجّجة بأسلحة الخُرافة .  فأنا ابن الزمن القديم  و النشأة التي تستنجد بحكاوي التراث وأعاجيب الغيبيات  عند الملمات . تختلط عندنا  الخُرافة دائماً بالواقع الملموس . تمسح برفق على صفحة الذاكرة ، فتقفز في وجهك النبوءات القديمة ، عندها تستريح فقـــــد و جدت ضالتك . انفتحت الأرض ومن أثقالها خرج رجل  من بئر التاريخ ، بدأت كمن لا أعرفه .

 من يا ترى هذا الرجل ؟

   من يحرك المزلاج عند بوابة المجد العتيقة ؟ .

. من يتجرع كأس الوجود، داني القطوف حتى الثمالة ؟ .

 أهذا هو الشيخ العملاق الذي يسكن هذا  الجسد الذي أرى  ! .

 أهذه هي المِشية ، التي  يتخفى في جلدتها  " التمُساح العُشاري ".                     كأني به ، يلتحِف بُردة من شَعر الماعز ، و نِعالاً من جلدها . طيفٌ من الزمن الغابر ، يعبُر أمامك ، و تهُمّ الإمساك به ولا تقبُض إلا الريح .

     كان حفيد المجذوب جنة نعبُر رياحينها عند كل غروب ، مع الشيخ الصديق نتسمّع شروح الذكر الحكيم من المذياع . يغرف    " سيدنا" من مائه العذب و يسقي العامة من الناس .... ألا قد نَعُم بمرقده الثرى..زكل النعيم . أضاءت ثُريّاته الأرض الفسيحة ، فضمّته إلى  صدرها الأبدي عشقاً .

 من يفلح الأرض من بعده و يزرعها ... يقطُف ثمرة " المجذوب"  الدانية ؟  .

 

                         عبد الله الشقليني

 

آراء