إنقلاب واشنطن تجاه السودان.. صورة عن قرب … بقلم: عبد الفتاح عرمان

 


 

 

 

من واشنطن للخرطوم

عبد الفتاح عرمان

fataharman@yahoo.com

 

إدارة بوش.. الراكبين ما صعبا

 

حتى نعطي صورة متكاملة عن الإنقلاب الذى حدث فى السياسة الامريكية  تجاه السودان عند تسلم الرئيس، باراك اوباما لمقاليد الحكم فى البيت الابيض لابد لنا نعطي لمحة عن السياسة التي اعتمدها إدارة بوش السابقة تجاه السودان.

كانت إدارة الرئيس السابق، جورج بوش –الابن- الراعي الرئيسي لإتفاقية السلام الشامل التى تم التوقيع عليها ما بين  حكومة السودان ممثلة فى المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان فى نيفاشا 2005م. وكان هدف الولايات المتحدة من وراء هذه الإتفاقية غير الهدف المباشر والآني الذى تمثل فى وقف الحرب وحقن الدماء، هو تغيير بنية الحكم بإشراك الحركة الشعبية فى الحكومة المركزية ومنح الجنوب الحكم الذاتي ثم الإجهاز على المؤتمر الوطني عبر إنتخابات عامة على كافة المستويات تجرى فى منتصف الفترة الإنتقالية. وربما تكون مفأجاة للبعض أن إدارة بوش كانت مع السودان الموحد على اسس جديدة يحكمه حزب يُعتبر صديقاً للولايات المتحدة –الحركة الشعبية- مع الإعتراف بدولة الجنوب الوليدة اذا إختار جنوب السودان الإستقلال عن الدولة الام عبر الإستفتاء على حق تقرير المصير المزمع إجراؤه يوم الاحد 9 يناير 2011م القادم.

 اعتمدت سياسة الإدارة السابقة على اربعة اعمدة رئيسية، وهي:

اولاً: أن لا يصبح السودان ملاذاً امناً وقبلة للإرهاب.

ثانياً: الإنتخابات، التى سوف تؤدى الي إزاحة المؤتمر الوطني عن السلطة سلمياً

ثالثاً: إجراء الاستفتاء على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بغض النظر عما يسفر عنه هذا الإستفتاء.

رابعاً: حل الازمة فى دارفور-هذا البند اضيف لاحقاً-.

 

من خلال عدة لقاءات لي بصقور فى الإدارة السابقة –بعضها نشر وبعضها لم يكن للنشر- كانت رؤية وزيرة الخارجية السابقة، د. كونزليزا رايس، ونائبها جون نغروبونتي –رئيس جهاز المخابرات الامريكيىة السي آى إيه سابقاً- ومبعوث الرئيس بوش للسودان –وقتها- السفير، ريتشارد وليامسون والسفيرة، جينداى فرايزر، مساعدة وزيرة الخارجية الامريكية للشؤون الافريقية –السابقة- وهي بالإضافة لكونها مساعدة وزيرة الخارجية للشؤون الافريقية كانت ممسكة بـ(ديسك السودان/Sudan Desk) فى الخارجية الامريكية، كانوا يؤمنون برؤية الحركة فى خلق سودان جديد. هذا الامر لم يحدث حباً فى الحركة الشعبية بل لان صقور الإدارة الامريكية كانوا يرون ان حكم الحركة الشعبية مع احزاب المعارضة الشمالية للسودان يؤمن وحدة البلد على اسس جديدة فى الوقت الذى يحقق مصالح الولايات المتحدة بتحقيق الاهداف الاربعة بعاليه. لان السودان حينها لن يكون ملاذاً للإهاب، اذا تولت الحركة الشعبية حكم السودان عبر فوزها بالإنتخابات العامة، الذى بدوره سوف يعطي الفرصة لوحدة السودان، وتلك الحكومة بالطبع سوف تكون حليفة للولايات المتحدة عبر العلاقة المتميزة للحركة بصناع القرار الامريكي –بناءاً على تلك السياسة-. وكانت ترى الإدارة الامريكية ان الحركة قادرة على حل الازمة فى دارفور عبر علاقتها الوطيدة بحركة تحرير السودان حينئذ، لاسيما انها خرجت من تحت عباءة الحركة الشعبية ووجدت الدعم بمختلف انواعه منها. كما راى صقور الإدارة الامريكية أن حكم الحركة الشعبية للسودان سوف ينهي دور الصين حليفة المؤتمر الوطني، خصوصاً بانها تسيطر على صناعة النفط فى السودان، وبلغت إستثمارتها فى مجال صناعة النفط السودانية حوالي 4.5 بليون دولار.

 

عند زيارة النائب الاول لرئيس الجمهورية و رئيس حكومة الجنوب، سلفاكير ميارديت لواشنطن فى ديسمبر 2008م لوداع الرئيس بوش، كنت مرافقاً للقائد سلفاكير ضمن الوفد الإعلامي، حيث اعرب بوش عن تمنياته للآخير بتغيير بنية الحكم فى السودان وحكمه عبر رؤية السودان الجديد، وتم هذا الامر بحضور فرايزر ووليامسون وعشرة من قيادات الصف الاول فى الحركة الشعبية بالإضافة الى كير. وتم عزل مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية، د. مصطفي عثمان بأمر من البيت الابيض على الرغم من حضوره فى وفد النائب الاول!. وهذا المنع تفسره طبيعة الإجتماع الذى لم يشأ البيت الابيض لاحد قادة المؤتمر الوطني حضوره.

 

وفى إجتماع آخر فى الخارجية الامريكية بوفد الحركة الشعبية برئاسة كير، جدد صقور الإدارة الامريكية دعمهم الكامل للحركة الشعبية وإستعدادهم لدعم الحركة وكافة الاحزاب التي سوف تتحالف معها فى الإنتخابات العامة بكل الوسائل، وسوف يتركون هذه التوصيات للإدارة الجديدة. هذه الرؤية كانت مطابقة لرؤية رئيس لجنة افريقيا فى الكونغرس، دونالد بين الذى ما زالت مواقفة ثابتة عند تلك النقطة الى يومنا هذا.

 

إدارة اوباما.. من وجد البحر إستقل السواقيا

 

عند تعيين الرئيس اوباما لمبعوثه الشخصي للسودان، الجنرال –متقاعد- سكوت غرايشون، قام المبعوث بإنقلاب ابيض فى الخارجية الامريكية حيث طالب ان لا يكون (ديسك السودان) فى يد مساعد وزيرة الخارجية الامريكية، السفير جوني كارسون الذى كان يعمل سفيراً للولايات المتحدة فى كل من كينيا ويوغندا وتربطه علاقة جيدة بالحركة الشعبية. وافق اوباما على طلب غرايشون، وصار الآخير مسؤولاً عن (ديسك السودان) الذى تدار منه السياسة الامريكية تجاه السودان فى الخارجية الامريكية  بما فيها تقديم العون والمساعدات الإنسانية للسودان.

 

وتم إعتماد سياسة مغايرة تجاه السودان تتكون من ثلاثة اضلاع:

 

اولاً: ان لا يصبح السودان سماءً آمنة للإرهاب والإرهابيين.

ثانياً: تنفيذ اتفاقية السلام الشامل كاولوية قصوى.

ثالثاً: حل الازمة فى دارفور

 

هذه الأجندة فى طبيعتها لا تختلف كثيراً على اجندة الرئيس الاسبق بوش، لكن الإنقلاب حدث عندما تم ترتيب اولويات الولايات المتحدة التى تحقق لها مصالحها العليا وامنها القومي وإغفال تركبية السودان الجيوسياسية المعقدة.

 

واول من علم بهذا الإنقلاب كانت الحركة الشعبية فى إجتماعات واشنطن فى يوليو من العام الماضي التى شاركت فيه بوفد عالي المستوى ترأسه نائب رئيس الحركة، مالك عقار ومن جانب المؤتمر الوطني، د.غازى صلاح الدين. فى ذلك اللقاء التقي غرايشون بوفد الحركة وقال لهم: اعلم ان لديكم علاقة متميزة معنا، لكن سوف اقوم بمعاملتكم على قدم المساواة مع المؤتمر الوطني/ On an equal footing، الامر الذى اغضب عقار للدرجة التى جعلت غرايشون يحاول شرح حديثه لاكثر من مرة –حسب مصادر حضرت اللقاء-، هذا الامر كان مفاجاة غير سارة للحركة الشعبية التى كانت تأمل فى توثيق علاقتها مع الإدارة الامريكية اكثر مما كانت عليه فى الماضي.

 

هنالك من يعتقد أن هذا الامر يعد تقارباً مع المؤتمر الوطني، بالنظرة لظاهر الاشياء هذا الامر صحيح لكن اذا نظرنا الى هذا الامر بعمق سوف نرى أن هذا التقارب من اجل إضعاف المؤتمر الوطني نفسه لتقديم مزيداً من التنازلات المتستفيد الاول والاخير منها هي الولايات المتحدة نفسها. طال عمرك، ربما يدور سؤال فى ذهنك، كيف هذا؟ فى لقاء حضرته يوم الاحد الماضي فى واشنطن، قال فيه غرايشون ان إدراته على علم بان الإنتخابات السودانية مزورة لكنهم سوف يقبلون بها للوصول لإستقلال جنوب السودان، كأنه حسم الإجابة سلفاً بان شعب جنوب السودان سوف يصوت للإنفصال –اعلم انفصال الجنوب غاب قوسين او ادني- لكن كيف لإدارة اوباما ان تدعو للوحدة داخلياً وتقوم بتكرسيها خارجياً؟ تقوم سياسة هذه الإدارة على أن ما للجنوب للجنوب وما للشمال للشمال، ليس لمصلحة اى من الاطراف المتصارعة لكن من اجل المصلحة الامريكية فى المقام الاول و الاخير.

 

ترى الولايات المتحدة ان إنفصال الجنوب سوف يحقق لها السيطرة على صناعة النفظ  عند ميلاد دولة الجنوب الجديدة التي سوف تكون فى حِل من تعاقدات حكومة (الشمال) مع رصيفتها الصينية. والآن تجرى مفاوضات مع الصين من اجل إقناعها بفرض عقوبات على إيران لتقض الولايات المتحدة  الطرف عن بعض إستثمارتها فى السودان خصوصاً ان غرايشون قال فى ذلك اللقاء أن الصين تأخذ البترول السوداني وتعطي الحكومة مقابله سلاح حتى لا تدفع للسودان بالعملة الصعبة الامر الذى يأجج الحرب فى دارفور –على حد تعبيره-. وكشف غرايشون للحضور أنه حث حث المؤتمر على  الموافقة على إعطاء الجنوب اربعين مقعداً اضافياً فى البرلمان القومي –وهو ما تم بالفعل-  لتجاوز عقبة الإحصاء وللتحسب لرفض البرلمان السوداني الموافقة على نتيجة الإستفتاء الذى سوف يقود لميلاد دولة جديدة بنسبة 90% -على حد قوله-.

 

 وفيما يتعلق بشمال السودان، سوف تعمل الولايات المتحدة على إبتزاز الحكومة الحالية تارة عبر محكمة الجنايات الدولية وتارة اخرى عبر ملفات دعم الإرهاب مما يعني عملياً إنهاك دولة (الشمال) لاقصي درجة، وبذلك تكون الإدارة الامريكية قد ضربت اكثر من عصفور بحجر واحد.

 

كما ذكر غرايشون فى ندوة يوم الاحد الماضي فى واشنطن –كنت حاضراً لها-، انه عاد لتوه  من زيارة لروسيا لإقناعها بالعمل مع إدارته من اجل التحضير للإستقلال المرتقب ومساعدة الشريكين فى عدم الوصول الى طلاق فوضوى بل الى طلاق متحضر يصب فى مصلحة الدولتين.

 

صحيح أن ميشيل جيفي، مستشارة اوباما فى مجلس الامن القومي فيما يتعلق بأفريقيا ود.سوزان رايس، سفيرة الولايات المتحدة لدى الامم المتحدة لديهما رؤية مختلفة لهذا الامر، لكن السياسة التي ينفذها غرايشون هي سياسة الرئيس التي أجازها بالتوقيع عليها مما يعني عملياً ان سياسة غرايشون سوف تمضي مثل القافلة لا يثنيها صراخ الآخرين حتي تصل الى نهايتها المنطقية.

 

فى وجة نظرى، هذه رؤية كارثية، لن تؤدى الى تقسيم السودان الى جزئين بل سوف تحيله الى لا شىء، لاسيما ان الشمال ليس كتلة صماء كما هو الحال فى الجنوب. وذهاب الجنوب والنار مشتعلة فى ثوب الشمال –دارفور- سوف يشعل النيران فى الجنوب والعكس صحيح ايضاً.  وغرايشون الان  مثل (البصيرة ام حمد)، حيث تقول القصة ان البصيرة ام حمد  طلب منها اهل القرية ان تساعدهم فى تخليص ثور علق رأسه داخل (زير) او قلة ماء شرب حينما ادخل رأسه فى الزير ليشرب ولم يستطع إخراجه بعد ان فرغ من الشرب. طلبت البصيرة ام حمد ذبح الثور وقطع رأسه لتخليصه، وعندما ذبح اهل القرية الثور بقي رأسه عالقاً داخل الزير، سألوها: ماذا نفعل الان ورأس الثور ما زال داخل الزير؟ قالت لهم اكسروا الزير!. قتلوا ثورهم وكسروا زيرهم، فلا ارضاً قطعوا ولا ظهراً ابقوا.

 

ونشدد على اننا لسنا ضد حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وإن إختاروا الإنفصال، فهذا حقهم الذى كفلته لهم الإتفاقية بموافقة القوى السياسية السودانية المعارضة والحاكمة، لكننا ضد نهج البصيرة ام حمد الذى سوف يحيل وطننا الى لا شىء.

 

آراء