الخاسرون والرابحون في انفصال جنوب السودان -5- .. محمد سعيد محمد الحسن- الخرطوم

 


 

 

جون قرنق: من يريد الانفصال فليقاتل من أجله.. سلفا كير: الوحدة تجعل الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثانية




نقلا عن الشرق الاوسط:
عندما قيل للنائب الأول ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق، إن أصواتا هنا وهناك، أي في الشمال وفي الجنوب تنادي بالانفصال، رد على الفور ومباشرة: «من يرد الانفصال عليه أن يقاتل للحصول عليه»، ولكن خليفته، الفريق سلفا كير الذي أكد في أعقاب أداء القسم الدستوري، السير على طريق مؤسس الحركة الشعبية، وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وأنه لن تكون هناك عودة للحرب مرة أخرى، وأنه سيعمل مع شريكه، المؤتمر الوطني على خيار الوحدة الجاذبة بين الجنوب والشمال، ولكن النائب الأول ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية، الفريق سلفا كير، فاجأ الجميع في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 عندما كشف، وللمرة الأولى، عن رغبته في الانفصال، عندما دعا الجنوبيين إلى التصويت لصالح استقلال جنوب السودان، خلال الاستفتاء عام 2011.

وقال سلفا كير: «إن بقاء السودان موحدا يجعل من الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثانية». وقال الفريق سلفا كير في كلمة ألقاها في ختام قداس أقيم في كاتدرائية القديسة تريزا في مدينة جوبا: «إن مهمتي تقتضي قيادتكم إلى استفتاء 2011، وأن هذا اليوم قريب جدا وإني على ثقة بأننا سنشارك فيه» وتناقلت أجهزة الإعلام الداخلية والإقليمية تصريحات سلفا كير التي حث من خلالها المواطن الجنوبي بالقول: «عندما تصل إلى صندوق الاقتراع سيكون الخيار خيارك، هل تريد التصويت للوحدة لتصبح مواطنا من الدرجة الثانية في بلدك؟»، وتابع قائلا: «إذا أردت التصويت للاستقلال فستصبح عندئذ شخصا حرا في بلد مستقل وسيكون الخيار خيارك وسنحترم خيار الشعب». واتهم رئيس الحركة الشعبية وحكومة الجنوب، المؤتمر الوطني بعرقلة تنفيذ اتفاقية السلام وبالمسؤولية عن الفشل في جعل الوحدة جاذبة بالمعنى الذي افترضته اتفاقية السلام الشامل مما يوحي بأن خيار الانفصال بات الأقرب. وقال سلفا كير: «إن الوحدة هي الخيار الأول في الاتفاقية وإن الانفصال هو البديل وإن شريكهم في الحكم لم يعمل من أجل جعل الوحدة أكثر جاذبية للمواطن الجنوبي»، مؤكدا إجراء الاستفتاء في موعده المقرر يناير (كانون الثاني) 2011. ووقتها اعتبر هذا بمثابة إعلان وتمهيد مبكر لتهيئة الأجواء لانفصال الجنوب عن الشمال، وجاء التذكير بضرورة معالجة القضايا العالقة، قانون الاستفتاء وتشكيل المفوضية وترسيم الحدود، قانون الأمن الوطني ومشكلة أبيي وغيرها، وتسارعت خطى مشتركة باجتماعات رئاسة الجمهورية وقيادات المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.

ثم جاءت مفاجآت أخرى من جانب النائب الأول ورئيس حكومة الجنوب، كير لدى زيارته لجنوب كردفان في مطلع يوليو (تموز) الماضي، وتأتي أهمية الزيارة من وجهة نظر المراقبين آنذاك لكونها تمثل استطلاعا ميدانيا لرقعة جغرافية في الشمال السوداني، وتعدها الحركة الشعبية أحد معاقلها التحالفية، إذا ارتبطت جنوب كردفان بالحركة الشعبية عبر انخراط قياداتها في الحركة الشعبية بشقيها السياسي والعسكري، وحرص الفريق سلفا كير في لقاءاته الجماهيرية على الدعوة إلى الوحدة والعمل على جاذبيتها، وقال بوضوح: «إن الحركة ستضع رهانها على جاذبية الوحدة، وأنه شخصيا سيضع صوته في صندوق الوحدة، وأنه سيعمل من أجل وحدة السودان حتى آخر لحظة، ولكن جاذبية الوحدة يجب ألا تكون عبئا على الحركة الشعبية وحدها، بل يجب أن تشارك فيها كل القوى السياسية، وعلى رأسها الشريك في السلطة، المؤتمر الوطني»، وضرب مثلا بقوله: «إننا سنصبح كمن يريد الرقص ويضرب على النقارة في نفس الوقت». وفي حديثه عن الوحدة والترابط بين القبائل في المنطقة، تصدى بشراسة لمن وصفهم بالانفصاليين الجدد والانتهازيين الذين يتبعون مصالحهم، داعيا المواطنين إلى التوحد ونبذ الخلافات،وطالبهم بتفويت الفرصة على من سماهم دعاة الانفصال الجدد. وحث على التواصل بين قبائل المنطقة، وأنهم في الحركة الشعبية أقسموا ألا يعودوا للحرب ثانية، واعتبرت أقواله بمثابة جرعة كافية من جانبه ضد الانفصال.

باقان أموم وجهة الدعوة للانفصال:

وفيما بدأت جهود واتصالات واجتماعات الشريكين، المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية على معالجة بقايا القضايا التي نصت عليها اتفاقية السلام الشامل، ومع تراجع الخطاب السياسي من جانب النائب الأول ورئيس الحكومة، الفريق سلفا كير، عن الانفصال والدعوة لخيار الوحدة الجاذبة بين الجنوب والشمال، فإن أمين عام الحركة الشعبية باقان أموم امتد نشاطه وأحاديثه وبتعبيرات جادة وقاطعة للتبشير المبكر بانفصال الجنوب عن الشمال، على الرغم من أن هذه الدعوة تخالف وتتجاوز نصوص اتفاقية السلام الشامل والخاصة بالترتيب والتعاون لخيار الوحدة الجاذب لدى إجراء الاستفتاء قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية في يناير 2011. فقد قال في أول حديث له كوزير في حكومة الجنوب لصحيفة سودانية: «إن الانفصال يمثل فرصة جديدة لبناء علاقات جديدة بين الشمال والجنوب بعد انهيار الدولة السودانية». ودعا أهل الشمال لعدم إقامة دولة دينية في الشمال وإقامة دولة علمانية ديمقراطية. وقال أمين عام الحركة الشعبية، باقان أموم: «فات الأوان لجعل الوحدة جاذبة، والانفصال أصبح أمرا واقعا وإن القضية المطروحة حاليا هي إجراء الاستفتاء في مواعيده، وأن يتم استجلاء خيار شعب الجنوب، سواء كان الوحدة أو الانفصال، وفي تقييمنا أنه خلال الفترة الانتقالية (2005 - 2010) لم يتم تبني برنامج لجعل السودان دولة واحدة، وفشلت الحكومة في إدارة التباينات السودانية متعددة الأعراق، ونتيجة لذلك فإن خيار الانفصال هو الأكثر ترجيحا وبالتالي قيام دولتين، أما بالنسبة لاسم هذه الدولة أو عملتها فهو سابق لأوانه وهناك جهات ستعمل ما عليها». وقال: «إن اتفاقية السلام الشامل تنص على إجراء الاستفتاء في التاسع من يناير أو قبل ذلك وإن إعلان النتيجة في فبراير (شباط) 2011، وأن يتم تنفيذ خيار الجنوبيين في التاسع من يوليو (تموز) 2011، وأي مقترحات لتأجيل أي عملية من عمليات الاستفتاء هو خرق للاتفاقية وللقانون، ولن يتم تأجيل قيام الاستفتاء أو تنفيذ نتيجته، ولا لثانية واحدة، لأنه لا يوجد سبب لذلك. الاتجاه العام في الجنوب هو التصويت لصالح الاستقلال عن الشمال بسبب أن الدولة السودانية فشلت في جعل خيار الوحدة جاذبا، كما أن الدولة لم تعد تلبي تطلعات المهمشين، وبالتالي صاروا يتطلعون إلى آفاق أخرى، ليس هناك يأس أو إحباط من فكرة أن يكون السودان دولة واحدة موحدة، ونحن نتعامل مع الوضع بطريقة موضوعية»، أضاف «الانفصال ليس معناه اليأس، وهو فرصة جديدة لبناء علاقات بعد انهيار الدولة السودانية، وعملنا ليس هو ترميم الدولة التي أسسها كتشنر والتي وضع حدودها، ولم نكن في يوم من الأيام من أنصار دولة كتشنر، نحن أنصار محتوى لبناء دولة جديدة قائمة على الإنسانية واحترام كرامة الإنسان».

وفي حوار مع «الشرق الأوسط» قال باقان أموم: «إن حزب الرئيس البشير يريد العمل للوحدة في الساعة الـ25 من اليوم»، «لا أمل في الوحدة إلا إذا قام المؤتمر الوطني باحتلال الجنوب عسكريا»، «أي دعوة لتأجيل الاستفتاء بمثابة دعوة للحرب، ولدى برلمان الجنوب خيارات أخرى بديلة أمام أي عرقلة، وقطار الوحدة ولى ولم تبق (قطرة أمل) واحدة». واعتبر مراقبون أن حواره مع «الشرق الأوسط» هو الأخطر، لأنه أغلق الباب بشكل نهائي أمام أي محاولة لجعل السودان بلدا واحدا ووصوله إلى قناعة بأن السودان سيتحول إلى دولتين.

من أين يستمد باقان أموم قوته؟

وأحدثت مواقف وتصريحات أمين عام الحركة الشعبية ووزير اتفاقية السلام في حكومة الجنوب، باقان أموم، تساؤلات من شاكلة من أين يستمد قوته؟ من موقعه أم أنه يعبر عن قطاع غالب في الحركة الشعبية، أم من خلفيته في الحركة الشعبية، لأنه لا يبدو قريبا من النائب الأول ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية، الفريق سلفا كير، فهو محسوب على أنه من المقربين من الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق. ويقول المحلل السياسي، ضياء الدين بلال: «إن التصريحات التي أطلقها باقان والمواقف التي اتخذها في مواجهة المؤتمر الوطني، بل وحتى داخل الحركة الشعبية عكست قوته التأثيرية وأنه لا يطلق تصريحات غير قابلة للصرف، وأن الحكم التقييمي لا يتعلق بصدقية ما يقول، ولكنه ذو صلة وثيقة بما في يد الرجل من خيوط تجعل كلمته أكثر نفاذا».

صحيح أن هناك ما يؤكد منذ رحيل الدكتور جون قرنق، أن باقان لا يحظى بثقة سلفا كير ومن حوله ممن هم في تصنيف المراقبين خصوم لباقان (بونا ملوال، مستشار رئيس الجمهورية، ولام أكول، وزير الخارجية الأسبق، وتيلار)، ولكن تداعيات الأحداث وتطوراتها ومتغيرات أوزان القوى داخل الحركة الشعبية والجنوب تفيد بأن الرجل الأول في الحركة، سلفا كير ميارديت، يحاول ما وسعته الحيلة أن يتجنب أي اصطدام حاد مع أمين عام الحركة، إن لم يكن يسعى لكسب وده ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فقد بدأ سلفا كير يبتعد شيئا فشيئا عن أصدقائه القدامى. بل أبعد قادة إلى تشكيل الحركة الشعبية فلم يعد بونا ملوال يحظى باهتمام واحترام سلفا، إن لم يكن قد انتقلت العلاقة بينهما إلى مربع مغاير، وتيلار الذي كان على مقربة من أذن وعين سلفا في القصر الجمهوري، عصفت به التعديلات الأخيرة، ودكتور لام أخرج من الخارجية. كل ما حدث لا يبتعد عن أصابع باقان السياسي الذي تزدحم على ملامحه كثير من الانفعالات والمواقف، ولا يبدي لسانه سوى القليل منها، وإن كان ما يبديه عبر صوته الهادئ وأنفاسه الباردة يثير كثيرا من الجدل، ولا غرابة في ذلك، فالرجل له علاقة جيدة بالأدب وكتابة الشعر، لذا يستطيع أن يحشد في عباراته القلائل كثيرا من الانفعالات.

ربما باقان قد اكتسب في الشمال كثيرا من العداوات عبر تلك العبارات التي يطلقها في المنابر الإعلامية والخطابية. وبالمتابعة والرصد يتضح أن باقان يستمد قوته الأساسية داخل الحركة الشعبية من عدة مصادر:

1 - بعض هذه القوة يستمدها من تاريخه داخل الحركة، فقد التحق بالغابة قبل جون قرنق، وظل مقربا للأخير حتى رحيله.

3 - في فترة قرنق أسند إليه كثير من الملفات المهمة ومع عامل الزمن انتقلت الأهمية من الملفات إلى رصيد شخصي.

4 - لباقان علاقات مباشرة مع أطراف دولية مؤثرة، وهذا المصدر يضاعف من قوة الرجل داخل الحركة في ظل احتياجها الملح للسند الدولي، ماليا وسياسيا، وهي تشارك وتنافس حزبا لا تستهين بإمكانياته الاقتصادية ومقدراته السياسية، كما أنها تقدر خبرته في ميدان القتال.

5 - وباقان يعتبر أكثر قيادي، إضافة لعرمان، له علاقات بالقوى السياسية الشمالية، فهو ظل أمين عام التجمع من بداياته إلى الآن.. يضاف إلى ذلك أن الرجل من قبيلة تعتبر الأقرب للشمال من كل قبائل الجنوب وهي قبيلة الشلك، وقد درس باقان في مدن شمالية (كوستي وبورتسودان والخرطوم) وهو يجيد العربية، قراءة وكتابة. وإن تفوق عليه غريمه وابن قبيلته، لام أكول بجمال الخط.. وباقان ولام أكول يتمتعان بذكاء شخصي لا تخطئه عين مراقب. يضاف إلى كل ذلك أن لام استطاع عبر منصبه الأخير أن يؤسس لعلاقات مميزة مع أهم رموز الوطن العربي، أما باقان فلا يزال يحتفظ بأغلب أوراقه في الغرب.

6 - باقان بحكم منصب الأمين العام يمسك بكل الخيوط التنظيمية داخل الحركة، ويده نافذة داخل الجيش، وليس مصدر ذلك سنده القبلي، فهو من رتب للمظاهرات التي أعقبت قرارات المكتب السياسي. وقادت سلفا كير إلى التحدث للمتظاهرين في جوبا على مقربة من قبر الراحل جون قرنق وفي ذلك رسالة لا تغيب عن ذكاء باقان.

نعم.. المؤتمر الوطني والإسلاميون عموما يرون في باقان عدوا استراتيجيا، ويسعدهم غيابه إن لم يكن لهم مساع لإضعافه، وجزء من المعاداة العلنية للرجل مصدرها خلفيته اليسارية المستمدة من عضويته في الجبهة الديمقراطية التابعة للحزب الشيوعي في المرحلة الثانوية، كما هو رائج وتلقيه دورات مكثفة في كوبا، فكثير من الإسلاميين لا يزالوا يرون أصابع الشيوعيين تحرك نحوهم كثيرا من المؤامرات وتنصب لهم كثيرا من الأشراك، ومن هنا يشتعل الغيظ ضد كل من له خلفية يسارية داخل الحركة، وهم كل الشماليين.
 

 

آراء