جدلية السودان القديم و المهجن و الجديد …. بقلم: د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
17 September, 2010

 


لقد إستشعرت في الفترة الأخيرة بعض التغييرات في مواقف الإخوة الجنوبيين ما بين الوحدة و الإنفصال , خاصة عند الأوساط الشعبية و المثقفة غير المتطرفة في عدائها للشماليين . قطعا لهذه التغييرات الحميدة في مواقف الإخوة الجنوبيين أسباب حاولت سبر غورها فتوصلت أو هكذا تراءى لي إلى أسبابها الجذرية , و التي سوف أجملها عليكم في الآتي :
أولا – إنتشار الحقيقة التي كان متكتما عليها لعدة عقود مضت بين الإخوة الجنوبيين و التي كانت قد وردت في بعض كتب علم الإجتماع ( الأنثروبولوجيا ) من أن القبائل النيلية ( الدينكا , الشلك و النوير ) تنحدر من أصول حامية من الشمال و بذلك فهي تختلف عن بقية القبائل الأفريقية في المنطقة الإستوائية . كذلك تفشّى ما كان قد أورده المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي من أن هذه القبائل النيلية هي في الأصل من مملكة        ( كوش ) القديمة في شمال السودان التي كانت قبل سبعة آلاف سنة , و قد نزحوا جنوبا منذ زمان قديم ربما نتيجة لغزوات خارجية من مصر , شأنهم في ذلك كشأن نوبة الجبال في جنوب كردفان الذين نزحوا من مملكة (نوباتيا أو نبتة ) التي ظهرت بعد ( كوش ) . لقد حكم نوبيو شمال السودان مصر و أسسوا الأسرة الخامسة و العشرين الفرعونية و ضموا إلى ملكهم مناطق الفينيقيين في الشام و لكن غزاهم الهكسوس و دحروهم جنوبا ثم أتى الأشوريون إلى مصر ثم اليونانيون ثم الرومان ثم العرب ثم الأتراك , و في كل تلك الحقب تعرضت ممالك النوبة إلى غزوات من شمال الوادي !  إن أمثلة النزوح كثيرة في تاريخ القبائل السودانية , فقد نزح الملك شاويس قائد جيش ملوك الشايقية الأربعة في موقعة كورتي ضد الجيش التركي الغازي بقيادة إسماعيل باشا في عام 1820 هو و الملك صبير , بينما بقي الملكان عمر و عبود برعاياهما في منطقة الشايقية . إتجه الملكان شاويس و صبير جنوبا لدعوة القبائل للتوحد لمواجهة الجيش الغازي فحاولا الجعليين ثم حاولا العبدلاب و عندما لم يجدا آذانا صاغية إضطرا للإقامة في المناطق التي وصلاها فاقتطع الملك شاويس جزءا من الحلفاية إستقر فيه مع عشيرته , و كذا فعل الملك صبير في العيلفون . نفس الشيء قد فعله المك نمر ملك الجعليين بعد مقتلهم لإسماعيل باشا و عند توجه الدفتردار إليهم في حملاته الإنتقامية , نزح المك نمر مع عشيرته إلى الحبشة و هناك إستقر و بنى مدينته المتمة ( الجديدة ) .
لقد أعلن الإخوة الجنوبيون أن دولتهم إذا ما قامت سوف يسمونها ( كوش ) , لكن تنامى بينهم شعور طاغ بأنهم جزء مهم من هذا السودان , فلماذا يتخلون عنه ؟ هم يمثلون السودان القديم كما كان , بينما يمثل سودانيو الشمال السودان المهجن بعد دخول العرب اليه , فهل يتم مع الوحدة الطوعية تكوين السودان الجديد الذي يجمع شكليه القديم و المهجن ؟
ثانيا – رفض حزب المؤتمر الوطني للإقتراح المقدم من د. لوكا بيونق وزير شؤون الرئاسة عن الحركة الشعبية و الخاص بتطبيق منح الحريات الأربعة للمواطنين بين السودان و دولة الجنوب في حالة إنفصاله , كما هو الحال الآن بين السودان و مصر . الحريات الأربعة كما هو معروف هي حرية التنقل و حرية التملك و حرية العمل و حرية الإقامة . هذا الرفض قد جعل الإخوة الجنوبيين المقيمين في الشمال يعيدون حساباتهم في حالة فقدهم  لكل إمتيازاتهم في الشمال عند إنفصال الجنوب , و تحولهم إلى رعايا دولة أجنبية . إنهم هنا يعيدون تجربة ولاية كويبك الكندية ذات الأصول الفرنسية و التي كانت تطالب بالإنفصال عن كندا الإنجليزية الأصل , و لكن نسبة لذات الأسباب لمواطني تلك الولاية الذين يعملون في ولايات كندية أخرى و إحتمال فقدهم لإمتيازاتهم تلك , فقد تراجع مواطنو كويبك و صوتوا ضد إنفصال ولايتهم عن كندا
ثالثا – نجدة الشماليين للجنوبيين متى إستدعي الأمر . كما هو جلي للعيان , من يساعد الجنوبيين عند حدوث الفيضانات و الكوارث في الجنوب ؟ إنهم السودانيون الشماليون . أيضا من يسعى للإستثمار في الجنوب و مساعدته في بنيته التحتية ؟ إنهم العرب . إذن أليس في الوحدة مصلحة للجنوب ؟
رابعا – المعاناة من ألم الفراق الذي قد يأتي . لقد تواصل جل أهل الجنوب نوعا ما مع إخوانهم في الشمال . منهم من قد أوصل التواصل إلى درجة الإندماج الكامل , و منهم من كان تواصله أقل و لكنه كفيل بإعطائه إنطباعا عن المواطن السوداني الشمالي البسيط . لقد اصرت الحركة الشعبية على تضمين تقرير المصير في إتفاقية نيفاشا كنوع من ( الضمان ) لها لتطبيق بنود الإتفاقية , و كنوع من سياسات الترغيب و الترهيب للشماليين و في هذا ذكاء من الحركة الشعبية قد فاق معدل الذكاء عند معظم الحركات و الأحزاب . إن كان الشماليون يتمسكون بإستمرارية الوحدة فعليهم تلبية مطالب الجنوبيين و كفكفة دموعهم و الإعتذار لهم عند تباكيهم و جلد الذات من أجل إرضائهم و القيام بكل أعمال التعمير و البني التحتية في الجنوب ... هكذا يكون ترغيب الشماليين للجنوبيين في الوحدة . أما ترهيب الشماليين من الإستفتاء فيكون من مغبة الإنفصال و مآلاته الغير محمودة , و لذلك لا بد للشماليين من تفاديه و ذلك بجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين عن طريق إعطائهم الكثير و الكثير من المكاسب !
ربما يتمادى الإخوة الجنوبيون في تهجمهم على الشماليين حتى ينالوا الأكثر و ذلك لمعرفتهم بحقيقة الشماليين الذين يبذلون أرواحهم في سبيل وحدة السودان . هذا السلوك الإنساني نراه يحدث أحيانا بين الزوجة و زوجها , فهي متأكدة من حب زوجها لها و لكنها تريده ان يتنازل عن عاداته السيئة و ان يلبي لها طلباتها الخاصة و من أجل ذلك تهدده بأن يطلقها . في هذه الحالة إن حصل الإنفصال بينهما فسوف يصيبها ألم الفراق و لن يفيدها البكاء ! التعود و العشرة لا يمكن التخلي عنهما , و لذلك إستشعرت المعاناة من الم الفراق الذي قد يأتي , منذ الآن والذي سوف تزيد آلامه حتى موعد الإستفتاء , و سوف تكون نتيجتها في صالح الوحدة .

omar baday [ombaday@yahoo.com]

 

آراء