سياسات تطبيع الفقر وخيارات الخروج من النفق
أعطت الأزمة المالية العالمية ذريعة وأوجدت مبررا أخلاقيا لقوي النظام الرأسمالي العالمي- رغم عدم حاجته للمبررات – لتطبيع الفقر بشكل غير مسبوق في العالم وتوطينه في اماكن جديدة ضربت العديد من المواقع الجديدة في الدول الراسمالية المتقدمة نفسها ووسعت من الطبقات المحرومة لدرجة وصلت المظاهرات المناوئة للسياسات الجديدة الي رقام مليونية كما حدث في فرنسا واليونان واسبانيا. اصبح الفقر ظاهرة طبيعية يومية في حياة الناس وكأنه مصير وقدر محتوم لا مفر منه. كان اثر الازمة المالية علي اثرياء العالم كبيرا فقد هزت تقتهم في المستثمرين والاسواق المالية كما زادت من مخاطر الاستثمار وزعزعت ثقة المستثمرين من الجهة الاخري. في هذا الوضع هبت الحكومات لطمأنة الأسواق وعمدت الي دعم الشركات ومؤسسات التمويل الكبري خصما علي الموازنات العامة وانتقاصا من رفاهية غالبية شعوبها. ساعد ذلك في السيطرة علي الازمة المالية ووضع الاقتصاديات الراسمالية الكبري في خط النمو رغم الثمن الباهظ والتكلفة الاجتماعية العالية.جدد ذلك ثقة راس المال و المستثمرين واصبحت مؤشرات التعافي الاقتصادي تسيطر علي الاداء الاقتصادي في كبري اقتصاديات العالم. بالرغم من كل تلك الإجراءات الا ان سلوك الحكومات في الدول الراسمالية ومجموعة العشرين لم يخرج عن نطاق تجميل النظام الرأسمالي وليس إصلاحه. فالرقابة علي الأسواق والضرائب المقترحة علي المعاملات المالية والمشتقات وارباح المصارف وتعاملاتها إضافة لكبح جماح جشع المدراء التنفيذيين لكبري الشركات والمؤسسات المالية لم يحدث اختراق في آليات العمل ولم يحد من عمل ماكينة الاستغلال الرأسمالي. بمجرد تعافي الاقتصاد الرأسمالي تبعه تعافي اعلي في عائدات أثرياء العالم بينما لم تنقص معاناة الطبقات الوسطي بتناسب مماثل اما الفقراء فقد ازدادوا فقرا، دولا وشعوبا وإفرادا.
مع كل ذلك والحق يقال فان الدول الرأسمالية ألكبري والدول الصاعدة لم تهمل بالكامل رفاهية شعوبها او وضع حساب ليوم الاحتكام لصناديق الاقتراع، بالرغم من المحافظة علي النظام المصمم بنظامين، الأول يعمل لصالح الأثرياء والثاني لبقية أفراد المجتمع. اتخذت الحكومات الرأسمالية مجموعة من الإجراءات التي تحد من معاناة شعوبها فقد تصاحبت إجراءات الانعاش الاقتصادي ببرامج الضمان الاجتماعي ومن ابرز أمثلتها قانون التامين الصحي المتزامن مع قانون إصلاح وول ستريت اللذان أجيزا في الولايات المتحدة بعد صراع الجبابرة بين إدارة اوباما وسدنة رأس المال في الكونغرس الامريكي في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. اما في اوربا ففي غمار المعركة المحتدمة من اجل السيطرة علي تداعيات الازمة المالية التي استدعت اتخاذ إجراءات مؤلمة مثل تقليص الدخول وزيادة سن التقاعد، الا ان ضمانات البطالة ومحدودية الدخول قد ارتفعت. لكن كل ذلك لم يكن مقنعا لقطاعات واسعة من السكان فكان ان اشتعلت موجة غير مسبوقة من الإضرابات والاحتجاجات المنظمة التي أخرجت مسيرات مليونية كما حدث في فرنسا، اسبانيا واليونان ولا زالت المعركة دائرة بين قوي العمل ورئس المال في طول القارة العجوز وعرضها.
انعكست الازمة المالية في واحد من جوانبها علي العطاء الخيري من جهة تأثيرها علي الأغنياء و الحكومات.تغير السلوك نحو المنح والإنفاق الخيري وكبر السؤال حول اتجاه الاموال الممنوحة وتوظيفها ، الي أين تذهب الأموال ومن يستفيد منها؟ ومن الان فصاعدا فان المنح والإعانات ستأخذ شكلا اكثر صرامة وتدقيقا وحسابا للنتائج والمردود.
في هذا الواقع تظهر حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وهي ان الازمة المالية العالمية قد ادت الي تزايد معدلات الفقر العالمي وفاقمت من ازمة الغذاء وارتفاع أسعاره. الا ان حكومات العالم حتي في الدول الرأسمالية الكبري والدول الغنية لم تقف متفرجة علي كل ذلك. فمثلا لم تعمد تلك الدول لزيادة الضرائب غير المباشرة والرسوم التي تفاقم من الركود الاقتصادي وتقلص من القدرة الاستهلاكية لمحدودى الدخل وبالتالي تقلل من مكاسب المنتجين. بذلك فان دعم الغذاء لم يتوقف وإنما اعتمد علي قدرة الدولة والموازنة العامة في القيام بذلك الدور. الخبز والقوت الرئيس لغالبية السكان لا يترك لقوي السوق في أي بلد يضع اعتبارا لردة الفعل الشعبية او لاتجاهات الرأي العام لذلك نجد أكثر القطاعات التي تحظي بالدعم هي القطاع الزراعي وتعتبر اغني دولة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية هي اكثر الدول دعما لقطاعها الزراعي دون ان تقدم أي تنازلات رغم الاحتجاجات والقضايا المرفوعة لمنظمة التجارة العالمية.
في هذا الإطار انعقدت قمة الألفية للبحث في سبل انجاز ما تم الاتفاق عليه في مطلع العام 2000م عندما تم تحديد الاهداف التنموية الثمانية. اعترفت الدول الرأسمالية بتقصيرها نحو ما التزمت به لتحقيق تلك الأهداف حتي العام 2015م وأقرت بان ذلك لم يحدث. بالنتيجة تم اتخاذ عدد من الإجراءات المكملة كان من نتائجها المباشرة انعقاد قمة لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة( FAO) للبحث في مسألة ارتفاع أسعار الغذاء باعتبار ان هذا مرتبط بتحقيق الهدف الاول للألفية وليس بعيدا عن بقية الأهداف المعروفة. إذن العالم لم يكتفي بالتفرج كما لم يهرب الي الأمام نحو مفاقمة الأزمة والتضييق علي معيشة الناس والعمل علي ارتفاع الأسعار بشكل اكبر وصب المزيد من الزيت علي نيران الفقر المشتعلة. إلا أن الوقود يصب علي نيران المعاناة في السودان.
هنا في بلادنا وبعد توطين الغلاء وتمكين الفقر جاءت الإجراءات المالية الأخيرة بزيادة الرسوم والتعريفات الجمركية وغيرها من جبايات إضافية، جاءت لإحكام حالة الضنك التي يعيشها الشعب السوداني. حدث ذلك في بلد يعاني من ركود شديد وكساد في الاقتصاد الحقيقي وإعسار في الزراعة وتدني مريع في صادرات قطاعات الإنتاج الحقيقي وفي ظل اقتصاد يعاني من ارتفاع مستمر في الأسعار مع تدني الدخول وانخفاض قيمة الجنيه ويعيش في حالة عميقة من التضخم الركودي. هذا هو السير بشكل منهجي نحو تعميق الأزمة الاقتصادية والوصول بمستويات المعيشة الي درك سحيق يجبر الإنسان علي توفير أعضاء جسمه واستخدامها بالتقسيط او نظام الورديات. اعني ان يمشي الإنسان برجل واحدة بدلا عن اثنتين وان يستخدم يد واحدة وينظر بعين واحدة ويسمع بأذن دون الاخري ويقتصد في الكلام حتي يمكنه ان يدخر طاقته ويعيش بدخله المتاح وان يشبع بما يسمي برغيف الخبز الذي تنتجه المخابز هذه الأيام. بهذا الشكل فان الفقر سيصبح في حياتنا "شيء طبيعي " ، هل يا تري هذا هو ما تريده الحكومة وتسعي إليه؟ اذا كانت الإجابة بالنفي فما هو إذن مبرر هذه السياسات التي تعمل علي تمكين الفقر وإدخال الناس في لجج لا نهاية لها من المعاناة وضنك العيش؟
إننا نعلم ان الحكومة في ضائقة من امرها وتبحث عن مخرج من انفصال الجنوب الذي تم إعلانه بشكل رسمي من داخل منبر الأمم المتحدة بحضور كبير لزعماء العالم وعلي مرأي ومسمع من العالم وبحضور كثيف من ممثلي حكومة الشمال علي رأسهم شخصية محورية في النظام بوزن كبير ممثلة في الأستاذ علي عثمان محمد طه، الذي يمكن ان نطلق عليه انه النائب الأول لرئيس الجمهورية بحكم ان الفريق أول سلفا كير ميارديت قد أصبح رئيسا لدولة الجنوب المستقلة وينأي بنفسه تمام عن الخوض في شأن السودان الموحد. اذا كان المبرر هو تهيئة الأجواء لما سيحدث من نقص في الموارد الحكومية بسبب فقدان نسبة كبيرة من عائدات البترول بسبب الانفصال فان هذا النهج من وجهة نظرنا خطا كبير. الحل ليس في زيادة تأزيم الموقف ووضع العصي في الدواليب المحركة للاقتصاد السوداني وإنما الحل في البحث عن خيارات أخري غير المغالاة في فرض الضرائب والرسوم، ونهج تحميل المواطن أعباء السياسات الخاطئة واختلال الأولويات وسوء الحساب والنوم الطويل والاستيقاظ في وقت متأخر جدا. لماذا دائما تخطيء الحكومة ويدفع الشعب الثمن من قوته؟ إنما المسألة لا تتوقف فقط عند قوت الشعب الذي يبدو ان الحكومة استمرأت صمته وأخرجته من حساباتها، إنما الأمر اكبر، اذ ستنعكس تلك السياسات علي الأداء الاقتصادي مؤثرة علي الإنتاج والاستهلاك، علي الدخول والاستثمار وبالتالي الدوران في حلقة مفرغة ستؤدي الي حالة تامة من الانهيار الاقتصادي اذا لم يتم تدارك الوضع.
كل ما يمكن ان يحدث بسبب انفصال الجنوب تم التنبؤ الاقتصادي به والتنبيه الي آثاره ، منذ خمس سنوات وبشكل متصل حتي اليوم. تم تسويد الكتاب والمختصون للصحائف وملأوا البحوث والوسائط الإعلامية والمنتديات والورش المنعقدة في هذا الشأن حديثا و تحليلا وتنبيها وتوصيات، الا ان شيئا منها لم يؤخذ به في الوقت المناسب الي حين وقوع الفأس علي الرأس. كان من الممكن التحسب لما سيحدث بتكثيف الاستثمار في القطاعات المنتجة بالاستفادة من عائدات البترول في الإنتاج الحقيقي واستقطاب استثمارات ذات جدوي اقتصادية حقيقية تحسب المصالح الإستراتيجية للبلاد وتؤمن لها احتياجاتها الأساسية لتجاوز صدمة الانفصال. بما ان ذلك لم يحدث فيجب البحث في خيارات أفضل من نهج الجباية الذي لا يضع اعتبارا للحساب الاقتصادي والآثار الاجتماعية.
السؤال هو هل توجد خيارات أصلا في الحالة التي يمر بها السودان والتي ستصاحب الانفصال؟ الإجابة نعم ، توجد العيد من الخيارات وحتي ان انفصال الجنوب لن يشكل نهاية العالم للسودان ولن يهلك شعبه كما تصور العديد من التحليلات. الا أن ذلك الأمر ليس ببساطة شربة ماء او إطلاق تصريح ولن ياتي بالنوايا الحسنة ناهيك عن العنتريات التي نري نتائجها الان ، انما يحتاج للعقلانية والحكمة والسياسة بمعناها الايجابي والعملي. الخيارات كثيرة وغيرنا يمكن ان يتقدم بما لديه لكننا نري ان منها: توفير المناخ الملائم للإنتاج الزراعي ابتدأ من حصاد هذا الموسم والموسم الشتوي القادم، وإعطاء التمويل الزراعي أهمية قصوى ودعم المنتجين لهذا الموسم ورصد التمويل الكافي للاحتياطي الاستراتيجي للغذاء وتجنيب المنتج الزراعي شر المرابين والسماسرة وتجار الحرب. من الخيارات الشروع في استقطاب استثمار اجنبي حقيقي في الصناعة والتعدين معتمدين علي المعايير الاقتصادية الحقيقية والميزة النسبية للإنتاج بعيدا عن الاستقطاب السياسي او الايدولوجي للاستثمار ووضع حد للتجاوزات وجميع مظاهر الفساد. يمكن لهذه الجوانب ان تؤمن مخزون كاف للأمن الغذائي علي المدي القصير والمتوسط وان توفر بدائل لعائدات البترول خاصة بدعم الصناعات الغذائية وغيرها من السلع الأساسية، التي تستهلك فاتورة كبيرة من النقد الاجنبي وكذلك التعدين في مجالي الذهب والكروم. من الخيارات والبدائل تقليل الصرف علي الجهاز الحكومي التنفيذي و التشريعي وتوابعه والتخلص من انعدام الكفاءة الذي يهدر الكثير من الموارد والوقت. هذا الجهاز متضخم في المركز والأطراف بلا داعي ولا فائدة غير صيد الغنائم ودواعي الولاء السياسي والمحسوبيات وبالتالي أصبح يشكل بؤرة للبطالة المقنعة واستنزاف الموارد. كما يمكن التخلص من الشركات الحكومية التي تقتات علي الموازنة العامة وإخضاعها كلية لنظام السوق. من الخيارات تقليل الصرف الأمني ليصبح في الحدود المناسبة لحالات الدول المماثلة للسودان من حيث الوضع الاقتصادي نسبة لانحرافها الان بشكل خطير عن معايير التخصيص الاقتصادي. يوصلنا ذلك الي لب الموضوع وهو ضرورة معالجة المشاكل السياسية والأمنية العالقة والتي تشكل أس البلاء للسودان. من ذلك تنفيذ اتفاقيات السلام بشكل تام وعقلاني لان أي خيار اخر سيكون مرتفع التكاليف دون نتائج ايجابية ترجي منه. حل مشكلة دارفور، ذلك باستغلال والاستفادة من العروض المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية التي تستدعي الطرق عليها وهي ساخنة دون ان يتم تبريدها في مطابخ جماعات الضغط. بالالتقاء مع المجتمع الدولي في منتصف الطريق يمكن الوصول الي حل للنزاع في دارفور الذي توجد معظم خيوطه لدي الدول الكبري في الغرب وليس كما يعتقد علي المستوي المحلي والإقليمي فقط. في هذا الإطار لا بد من استبعاد جيوش الارتزاق وأمراء الحرب وصائدي الجوائز من كل نوع، محليا وإفريقيا وإقليميا الذين يتكسبون من الصراع والدماء التي تسيل في دارفور. معظم تلك الأطراف ذات تشابكات دولية ولا تستطيع ان تشب فوق طوق القوي الحقيقية التي تسير العالم اليوم، وإذا جاءت نداءات ايجابية من قوي فاعلة مثل الولايات المتحدة التي وصلت في جديتها الي طرح رواها داخل الأمم المتحدة، فلماذا لا يتم توظيف هذه الفرصة في الحل؟
اخيرا لابد من التوافق مع قوي المعارضة الوطنية السودانية فهذه المعرضة لم تأتي مع المبعوثين الاجانب والمفوضين ولم تأتي علي ظهور الدبابات او تسقطها مظلات العدو. التوافق مع المعارضة بشكل جاد علي القضايا المصيرية سيؤدي الي المصالحة مع قطاعات واسعة من الشعب السوداني الصامت الذي من غير المعروف ماذا سيقول عندما يتكلم؟ هذا الطريق يؤدي الي الاستقرار السياسي والأمني ويجنب البلاد شر (الصوملة واللبننة والبلقنة). تذكرون جميعا انه لم تكن هناك مليشيات مسلحة مدربة علي القتال في تلك البلدان(الصومال،لبنان، يوغسلافيا السابقة) قبل اندلاع النزاع والحروب الأهلية، لكن بمجرد ان اشتعلت الفتنة وجدت وقودها الذي لم تنطفي نيرانه حتي اليوم. هذا ما يسمي بالاستفادة من دروس التاريخ واخذ العبر منها.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]