الأسوأ قادم.. أزمة النقد الأجنبي مجرد رأس جبل الجليد …. بقلم: خالد التيجاني النور
tigani60@hotmail.com
الإجراءات الحكومية التي أعلنت أخيراً للحد من الاستيراد كوسيلة للتقليل من نزيف موارد النقد الأجنبي الشحيحة لا تكشف في حقيقتها سوى عن جانب من رأس جبل الجليد، فالقادم الذي ينتظر الوضع الاقتصادي للبلاد أسوأ بكثير مما هو واقع الآن، ولن تنزلق الأمور إلى وضع أكثر كارثية لأن ذلك سيحدث حتماًَ على أي حال، بل لأن الحزب الحاكم وفريقه الاقتصادي لا يزال مصراً على التمسك بالنهج والسياسات ذاتها التي يدير بها الشأن الاقتصادي والتي أفضت إلى هذا المأزق الخطير الذي ينذر بعواقب وخيمة، والله تعالى وحده يعلم كيف ستكون مآلاتها وإلى أين ستقود البلاد والعباد.
لقد بددت الحكومة وقتاً ثميناً وفرصاً ذهبية إبان سنوات رخاء العائدات النفطية على مدار العقد الماضي، وقد أطلت السنوات العجاف بلا تحسب لها، وما كان الأمر ليحتاج إلى عباقرة في علم الاقتصاد لاكتشاف هذه الحقيقة العلمية البسيطة التي جرت قبل آلاف السنين على لسان وزير مالية العزيز، يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وأوردها القرآن الكريم « قال تزرعون سَبْعَ سِنِيْنَ دَأْباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوْهُ فِيْ سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيْلاًَ مِمَّا تَأْكُلُوْنَ٭ ثُمَّ يَأْتِيْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّا تَحْصِنوْنَ»
وثمة أمران يستحقان التعليق بشأن هذه الإجراءات المقتصرة على قطاع الاستيراد والتي تستهدف تخفيف الضغط على موارد النقد الأجنبي التي باتت محدودة حتى قبل الاستفتاء المنذر بذهاب ريح العائدات النفطية التي ظلت تشكل نحو 95% من موارد النقد الأجنبي للخزينة العامة على مدار الأعوام العشر الماضية، ومن ثم محاولة انقاذ العملة الوطنية من التدهور المتزايد في قيمتها، أما الأمر الأول فهو توقيت إعلان هذه الإجراءات والتي جاءت، وبغض النظر عن نجاعتها أو قدرتها على انقاذ ما يمكن إنقاذه، جاءت متأخرة، فأزمة النقد الأجنبي لم تبدأ في الأشهر القليلة الماضية، بل بدأت معالمها بوضوح في الظهور منذ انهيار أسعار النفط في النصف الثاني من العام 2008م أي قبل أكثر من عامين.
وكان جلياً منذ ذلك الوقت أن الاسوأ قادم، ولكن ما الذي حدث؟، عندما بلغت الأزمة المالية أوجها في منتصف سبتمبر من العام 2008م بانهيار كبريات مؤسسات التمويل الأمريكية على خلفية أزمة التمويل العقاري الممتدة، تسابقت الإدارات الاقتصادية للدول في أركان الدنيا الأربعة بحثاً عن سياسات تقيها تداعيات تلك الأزمة، فقد كانوا حصيفين يدركون أنه في عصر العولمة الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، إذا عطست نيويورك، أو واشنطن فلا محالة أن العالم أجمعه سيصاب بالزكام، وتتداعى له الدول بالسهر والحمى، ولذلك نجحت العديد من الدول في تلافي الآثار المدمرة لتوابع الزلزال الأمريكي على اقتصاداتها، وإن لم تنجو منها تماماً، ولكنَّ تحسُّبَها كان كافياً ليجنبها أسوأ الاحتمالات..
ولكن وحدهم عرابو الاقتصاد السوداني كانوا يغردون خارج السرب، فقد أنفقوا وقتاً ثميناً ليس للتحسب لتبعات زلزال الأزمة المالية التي بدأت أمريكيةً وما لبثت أن عمت القرى والحضر في أركان المعمورة، ولكن في محاولة عبثية لإثبات أن السودان لم يتأثر بالأزمة، ولن يتأثر بها، بل سمعنا اقتصاديين مرموقين في قمة الإدارة الاقتصادية للبلاد وهم يضعون نظرية جديدة مفادها أن السودان نجا من الأزمة المالية لأن منشأها أمريكي، وبما أن الولايات المتحدة تفرض عقوبات اقتصادية على السودان أدت لانقطاع العلاقات بين البلدين، وبالتالي فإن السودان سيكون خارج نطاق الأزمة، أو بالأحرى تبين لهم أخيراً أن للعقوبات الاقتصادية فوائد لم تكن منظورة..
وأكثر من ذلك لم يكتف عرابو الإدارة الاقتصادية في البلاد بنفي تأثر البلاد سلباً بالأزمة، بل طفقوا يروجون لفكرة حالمة أن السودان المحصن بالاقتصاد الإسلامي بات مستعداً لتصدير تجربته للعالم المتخبط في أتون الازمة العالمية. وما كان في ذلك بأس ولا مندوحة لو أن الأمور سارت على ما يشتهيه العرابون. ولكن لأن التمنيات لا تصلح في إدارة الاقتصاد ما لبث أن صحت الإدارة الاقتصادية على آثار الأزمة العالمية وهي تطرق بابهم بشدة بفعل انهيار أسعار النفط، ولأن الاعتراف بالتقصير والخطأ فضيلة لا يمارسها أحد من المتنفذين في بلادنا، فقد بدأ المسؤولون عن الإدارة الاقتصادية يتراجعون على استحياء من وهم عدم تأثر السودان بالأزمة العالمية، وبدأوا يتحدثون عن تأثير محدود غير مباشر بسبب الانخفاض الحاد في عائدات النفط، حسناً.. وماذا يملك الاقتصاد السوداني في السنوات العشر الماضية سوى العائدات النفطية التي تشكل ثلاثة أخماس إيرادات موازنة الدولة، وخمس وتسعين بالمائة من موارد النقد الأجنبي؟. وبدأنا نسمع عن ضرورة تقليل الاعتماد على النفط بعد أن وقع المحظور، وأهمية تحريك قطاعات الإنتاج الأخرى، ولكن بعد أن نضب زيت العائدات النفطية السهلة، وانطفأ بريقها.
لم يكن عيباً أن تقر الإدارة الاقتصادية بان البلاد لا محالة ستتأثر بالأزمة العالمية لأنها ليست جزيرة معزولة فضلاً عن حقيقة اعتمادها شبه الكامل على سلعة وحيدة سوقها عالمي ، ولكن آفة الغرور، وإدارة الاقتصاد بعقلية الفهلوة السياسية أدت لأن يضيع على السودان وقت ثمين لاتخاذ السياسات والإجراءات الصائبة لتجنب الكارثة المحدقة، لقد تسبب تباطوء وتأخر المسؤولين عن إدارة القطاع الاقتصادي في التجاوب مع تلك التطورات المعلومة لأن تتبدد الموارد الاقتصادية التي تحققت على مدى السنوات الماضية إلى الخطر ولأن تتبدد سدى.
لقد بح صوت الخبراء والمختصين وهم ينبهون منذ أن أطل فجر عصر النفط على البلاد من مغبَّة الخضوع لإغرائه، والركون إليه دون اهتمام بقطاعات الإنتاج الحقيقية في بلد يذخر بموارد طبيعية هائلة في الزراعة بشقيها، وكان محتماً أن يصاب الاقتصاد السوداني بالمرض الهولندي المعروف لأن من بيدهم امر إدارة الاقتصاد تجاهلوا تلك النصائح ليس لعدم معرفة بتبعات ذلك، فمن بينهم خبراء اقتصاديون مرموقون، ولكن لأن مشكلة الاقتصاد السوداني في عهد الحكم الحالي لم يكن يدار بأولويات وحسابات اقتصادية، بل غلبت عليها الأجندة السياسية وحسابات الربح السياسي القصير الأمد، واستخدامها في إطالة عمر الحكم، على حساب المعالجات الاقتصادية العلمية طويلة الأثر.
وأما الأمر الثاني المتعلق بهذه الإجراءات الأخيرة، فهو أنها لا تكشف سوى عن تشخيص جزئي وتقدم بالتالي علاجاً جزئياً لأمراض مستفحلة في جسد الاقتصاد الوطني لن تكفي وحدها مهما بلغت نجاعتها في إخراجه من ورطته، وفي الواقع فإن أزمة النقد الأجنبي وانهيار قيمة العملة الوطنية لا تمثل سوى جانب واحد وعرض واحد من أعراض متلازمة الأمراض التي أصابت الاقتصاد السوداني وتوشك أن تقعده، فالأزمة التي تواجه اقتصادنا اليوم أكبر وأعمق من أن تعالج ببضعة إجراءات مجزأة هنا وهناك، ولا شيء أسوأ من التعاطي مع هذه القضية الخطيرة بعقلية الهروب إلى الأمام بمعالجات مبتسرة ومفتقرة إلى الرؤية الشاملة وبعد النظر في حقيقة الأزمة، والتشخيص الشامل لكل علل الاقتصاد السوداني الحالية.
ومظاهر وأعراض هذه الأزمة أكثر من أن تحصر، فالجهود التي بدأت لانهاض الزراعة بشقيها النباتي والحيواني تفادياً للاعتماد على مورد النفط وحده، وتحريك قطاعات الاقتصاد السوداني المختلفة باستغلال موارد البلاد الضخمة، لا تزال متعثرة ولم تقدم أية نتائج مبشرة حتى الآن وتنتظرها سنوات طويلة وعمل خلاق لتثمر، ولست هنا بصدد تقييم هذه الجهود ولكن أشير فقط إلى أن التقرير الصادر بشأن النهضة الزراعية اتسم بقدر كبير من الشفافية والاعتراف بجوانب القصور، ولكن ذلك وحده ليس كافياً لأن الأسباب التي أدت إلى ذلك لا تزال قائمة، والأمر أيضاً لا يتعلق بإجراءات جزئية لمخاطبتها، بل يتعلق بطبيعة نهج وسياسات وإدارة الحكومة للشأن الاقتصادي مما يجعل أية محاولة للقفز عليه غير ممكنة ما لم تتم مراجعة جذرية للنهج والسياسات الحالية.
وخذ عندك قطاع الاستثمار، فقد كشفت اجتماعات المجلس الأعلى للاستثمار الأخيرة عن حجم تخلف السودان في جذب الاستثمارات الخارجية إلا لقطاعات محدودة، بينما لا يزال جذب الاستثمار الأجنبي في قطاعات الإنتاج الزراعي بشقيه والصناعي بعيد المنال، وقد غشيت حالة الشفافية المفاجئة أيضاً هذه الاجتماعات التي أوسع فيها كبار المسؤولين الحكوميين وعلى رأسهم الرئيس البشير نفسه أوضاع هذا القطاع المتواضعة نقداً لاذعاً، وشهد اعترافات نادرة بالبيئة الطاردة للاستثمار على الرغم من الأطر القانونية النظرية التي تشجع على ذلك، ولعل أكثر الحقائق إيلاماً التي تكشفت هي أن الدول العربية الغنية التي كان من المؤمل أن تكون صاحبة النصيب الأوفر في توفير التمويلات الضخمة التي يحتاجها القطاع الزراعي السوداني قد فضلت بدائل أخرى في أقاصي شرق آسيا، لأن أحجية «السودان سلة غذاء العالم» لم تعد تقنع أحداً في بلد لا تزال حكومتها عاجزة عن توفير بيئة صديقة للاستثمار الأجنبي، وقد قال وزير خارجية إحدى الدول الخليجية ذات يوم عندما شهد في الخرطوم قبل سنوات قلائل مؤتمراً يدعو للاستثمار الزراعي أنه منذ كان في المدرسة الابتدائية يسمع عن حكاية « سلة الغذاء» هذه، وقد أصبح وزيراً لا يزال يسمع هذه الأسطوانة المشروخة. والسؤال هو كيف للسودان أن يصبح سلة غذاء لغيره، وهو عاجز عن أن يصبح سلة غذاء لنفسه؟.
ولعل المفارقة الطريفة في إجراءات الحد من الاستيراد أنها استثنت ما سمته بـ «السلع الغذائية والقمح والسكر والسلع الاستهلاكية الضرورية للمواطنين»، وهي تشكل جانباً مقدراً من فاتورة الاستيراد السنوية، وتشير التقارير الرسمية إلى أن فاتورة استيراد السلع الغذائية في النصف الأول فقط لهذا العام بلغت ملياري دولار، إذاً فما الذي يمكن أن تحققه معالجة جزئية للحد من استيراد بعض السلع في ظل وضع مأزوم كهذا؟.
أما ثالثة الأثافي فهي التكلفة الباهظة للانفاق الحكومي بسبب ترهل أجهزة الحكم بلا مبرر موضوعي سوى اعتبارات التوظيف السياسي غير الراشد، وكيف لبلد يفتقر بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، يجنح إلى خلق آلاف الوظائف الدستورية في الحكومة الاتحادية، والحكومات الولائية، لترهق كاهل الموارد المالية المحدودة للدولة، لقد كان المنطق في تبني الحكم الاتحادي أن يكون وسيلة فعالة لتحريك الإنتاج واستغلال الموارد الكامنة فإذا به يتحول إلى غول يلتهم الموارد المحدودة لتمويل الامتيازات والانفاق السياسي. ومرة أخرى غشيت كذلك حالة الشفافية النادرة بعض كبار المسؤولين الحكوميين ليقروا في مؤتمر الحكم الاتحادي الذي عقد الشهر الماضي بالنتيجة الكارثية لتسيس الحكم الاتحادي.
لقد كانت أكبر الدلائل على افتقار الحس السياسي والاقتصادي السليم حينما أقدم الحزب الحاكم عقب الانتخابات على تشكيل حكومة اتحادية بحجم غير مسبوق لم يراع بأي معيار وضع البلاد الاقتصادي فضلاً عن الكفاءة والفعالية المطلوبة لحكومة مهمتها مواجهة أخطر أجندة تواجه البلاد اقتصادياً وسياسياً، وللمقارنة فقط ودون أن نذهب بعيداً فإن أكبر وأغنى دولتين في العالم العربي لا يتجاوز عدد وزرائها ثلاثين بالمائة من حجم الحكومة السودانية.
ومن التشوهات العميقة الأثر التي يعاني منها الاقتصاد السوداني مزاحمة الدولة في تفاصيل الأنشطة الاقتصادية صغيرها وكبيرها مما جعل القطاع الخاص الحقيقي مسخاً مشوهاً موجوداً رسماً بلا دور فاعل، فعلى الرغم من أن الحكومة أعلنت رسمياً تبني سياسة التحرير الاقتصادي منذ بواكير التسعينيات، إلا أن ما يحدث فعلاً لا يعدو معنى كون أن الحكومة خرجت من الباب لتدخل من الشباك عبر شركات ومؤسسات يسيطر عليها متنفذون متحررون من القيود الحكومية ويتمتعون بامتيازات لا حصر لها، مما جعل القطاع الخاص مكبلاً في منافسة غير عادلة ولا شريفة، وشهدنا شركات شبه حكومية، بل وزارات سيادية نظامية، تسيطر على مفاصل العمل الاقتصادي، تعطي فتاتاً لمن ترضى بإدخاله في لعبتها، وهكذا أصبح الاقتصاد الفعلي يدار من خارج المؤسسات الرسمية، وحتى من داخلها، دون حسيب أو رقيب، وتحولت وزارة المالية والاقتصاد الوطني المنوط بها الولاية على المال العام، والولاية على إدارة الاقتصاد الوطني إلى متفرج، ومجرد إدارة خزانة لما ينفذ إليها من مال عام، حيث فقدت السيطرة على ولاية المال العام، وعلى إدارة العملية الاقتصادية.
ونتاج كل هذه الاختلالات في إدارة الاقتصاد الوطني من يدفع ثمنها المباشر في الواقع هو المواطن الذي ظل الغلاء المستشري منذ فترة يطحنه طحناً، والإجراءات المتخذة أخيراً سيتحمل فاتورتها المستهلك لتزيد وضعه ضغثاً على إبالة.
ما أكثر ما يمكن أن يقال في شأن الأوضاع الاقتصادية المنذرة بخطر وخيم، وحالة الهرج والمرج السياسي التي تسود البلاد لم تترك فرصة لمعتبر في تدبُّر المآلات الخطيرة للتدهور الاقتصادي، ولئن كان من الممكن أن تفلح الفهلوة وبعض الشطارة في إدارة الصراعات السياسية، فمن المؤكد أن إدارة الاقتصاد أمر مختلف تماماً لا تفلح معه حالة الإنكار ولا التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا أنصاف المواقف، ولا التمنيات، فالاقتصاد علم بدائل يقوم على معطيات موضوعية وحسابات دقيقة، وما يحتاجه السودان أكبر من انتظار تجريب المجرب، المطلوب بصراحة لمواجهة الخطر الآتي، مراجعة شاملة، وتحول جذري في نهج وسياسات وإدارة القطاع الاقتصادي.
وهذا يعني أن قد آن الأوان لأن تلتفت قيادة الدولة بجدية أكثر للشأن الاقتصادي وتوليه الاهتمام والعناية القصوى التي يستحقها لأن ذلك لم يعد ترفاً، بل أمراً بالغ الجدية يتعلق به مصير الحكم نفسه واستقرار البلاد. والمطلوب تغييراً حقيقياً في نهج، وسياسات، وإدارة القطاعات الاقتصادية للدولة من فريق تتوفر له القدرة والكفاءة وقبل ذلك الرؤية الثاقبة لوضع سياسات خلاقة وجريئة لتحريك وتفجير طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة، وإجراء جراحة للتشوهات الكثيرة التي تثقل كاهله بداية من الانفاق الحكومي المهول، وتمكين ولايته من المال العام وإدارة الاقتصاد الوطني بكفاءة ونزاهة وشفافية وعدالة
عن صحيفة إيلاف السودانية
22 سبتمبر 2010.