هرب الحصان ففيم إغلاق الاصطبل؟ … بقلم: محمد المكي إبراهيم

 


 

 


 21 اغسطس 2007

شاهدت برنامج فضائية الجزيرة عن النفط السوداني الذي جرى بثه بالخميس الثاني من اغسطس الجاري فأدخل على نفسي بؤسا وتعاسة لا يعلم بها الا الله. ومن فرط اليأس والاحباط استنجدت بالصديق كمال الجزولي فطلبته على التلفون ورغم انه كان عائدا لتوه من سفر الا انه قضي معي الدقائق الاربع والثلاثين التي يتيحها كرت التلفون مدفوع الثمن دون ان نرفع عنا وعثاء اليأس من مستقبل اولادنا في وطن اسمه السودان. وذلك ان البرنامج المذكور اقنعنا بالدليل والبرهان بأن بلادنا على وشك التمزق والانهيار وان ذلك سيبدأ في مدى ثلاث سنوات او اقل بانفصال الجنوب عن الشمال حاملا معه تلك الثروة البترولية التي كنا نؤمل في استغلالها لمصلحة الطرفين وسعادتهما في وطن كبير يتوسط القارة الافريقية ويمكن ان يصبح من دولها المؤثرة.وهكذا تبادلنا البكاء على اكتاف بعضنا البعض على الوطن الذي انجبنا ورعانا وبدورنا انجبنا له الاولاد والبنات ليخدموه ويحرسوه وبعد عمر مديد يسلمونه لاولادهم واحفادهم.فاذا كل ذلك احلام تكفل ضوء الحقيقة الباهر بتبديدها. وزاد من عمق المأتم مقالة للصديق طه النعمان في ''آخر لحظة'' الغراء شكا فيها شكوانا وبكى بكاءنا في مقالة تقطر دمعا على مستقبل الوطن الذي تحتوشه مهددات أكبرها وأخطرها من صنع غفلتنا السياسية وقلة تدبرنا للعواقب.ولا أريد هنا ان اتهم احدا بضعف الوطنية او قلة الاكتراث بما يصيب السودان وشعبه من نوازل الدهر وانما استنكر الغفلة والجهل الذي لايليق بمن يتصدى للعمل العام وأسوأ ابواب ذلك الجهل هو عدم استشارة المستشارين وعدم العودة لاهل الاختصاص وعدم التروي قبل اتخاذ القرار النهائي.

الفكرة الاساسية للبرنامج تقول ان الامريكيين ممثلين بشركة شيفرون هم الذين اكتشفوا النفط السوداني بتكلفة مقدارها «16» مليارا من الدولارات ولكنهم اضطروا للخروج من السودان قبل ان يستغلوا ذلك النفط تجاريا .وفي غيابهم قامت حكومة السودان بالتصرف في تلك الاكتشافات واتاحتها للآسيويين من صينيين وماليزيين ولذلك قرر الامريكيون استعادة مواقعهم المفقودة عن طريق المدخل الجنوبي للبلاد فضغطوا في مفاوضات نيفاشا حتى تقرر حق تقرير المصير للجنوبيين وذلك املا بأن يختار الجنوب الانفصال فتؤول اليه كل الحقول النفطية . ونظرا لعدم الانسجام بين الجنوبيين والصينيين فسوف يتم استبعاد الأخيرين وعودة الامريكيين من الباب الخلفي

كنت دائما ضد تقرير المصير للجنوب وقد يشهد لي بذلك الاستاذ طه النعمان الذي نشرت في ''أخبار العرب''حين كانت تحت رئاسته عدة مقالات تسنكر الفكرة وهي بعد فكرة واستوى عندي في ذلك رضاء المعارضة بذلك وسماح نفسها به في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا ومن ثم رضاء الحكم وموافقته الملزمة على نفس القسمة الظالمة. وقد نجد للمعارضة بعض العذر لا اقول كل العذر لكونها تستقوي بالحركة الشعبية وتريد ان تكسبها لجانبها مضمرة لها الغدر او الوفاء وكلاهما معيب..ولكن ما هي مبررات الحكم ولماذا ارتضى المغامرة بمستقبل الوطن؟ وماذا كان يخاف وماذا كان يرتجي من توقيع اتفاق في قبح نيفاشا وظلمها لأجيال السودانيين.وهو اتفاق لم يسبقنا اليه احد فليس في الدنيا دولة قبلت باقتطاع شبر من ترابها لتكسب السلام ويرتاح اهلها من القتال، وفي تردادي لتلك الاقوال كان كثيرون يشيرون الى ارتريا بوصفها الاستثناء الوحيد وكنت أرد قائلا ان ارتريا لم تكن يوما جزءا من اثيوبيا وانها بلد مستقل عهدت به الامم المتحدة لاثيوبيا لترعاه حتى ينال استقلاله وبدلا من تلك الرعاية قام امبراطور اثيوبيا بضمها الى امبراطوريته. فلا عجب ان تستعيد ارتريا حريتها وكيانها المستقل.

عموما لا داعي لهذه الحسرة وقد قضي الأمر وقد هرب الحصان فلا فائدة من اغلاق الاصطبل وعلينا ان نستعد لمستقبل بائس يؤكد وضعيتنا في طليعة الدول الفاشلة فليس هنالك من فشل اكثر من تمزيق الوحدة الترابية للبلاد والتفريط في اقليمها
           رد على مجموعة مداخلات  حول المقال اعلاه:   

أدين بالشكر الجزيل للشاعر خالد احمد بابكر والوطني الشجاع الناظر هشام هباني لاهتمامهما الصادق بكلماتي الباكية حول مستقبل السودان وقيامهما –كلا على حدة –بعرضها على قراء وكتاب المنبر العام للتفاكر والتداول والاطلاع.
اشكر ايضاالاستاذ كوفيKofi على كلماته المتفهمة التي وجدت فيها كثيرا من العزاء واشكر صديقي العزيز دينق وهو اسمه القلمي pen name كما يقولون وفد اعرب عن رأي قل ان نجده بين اهل الجنوب الذين يعمدون الى السخرية والتشفي عند الحديث عن احتمالات الانقصال ولكن صديقي العزيز لم يسخر ولم يتشف واعرب عن ان الانفصال خيار اخير ومركب صعب يضطر اليه اهل الجنوب اصطرارا بعد فشل كل الخيارات الاخرى. وانا اشكر له شعوره النبيل وليس ذلك مستغربا من شخص مثله هو النتاج الطليعي للغابة والصحراء بل هو الغابة والصحراء كما كنت اسميه مداعبا. واشكر ايضا الاستاذ ياسر الشريف على منافشته المستفيضة لما ورد في كلمتي من افكار.

حين بدأت المفاوضات لسلام الجنوب كنا نعرف ان الحركة الشعبية تطالب بالديموقراطية والعلمانية والقسمة العادلة للثروة والسلطة.وكانت تلك المطالب صعبة على حكومة المتأسلمين فقد رفضوا العاصمة العلمانية والخيارات الديموقراطية وبدلا عنها قدموا فكرة تقرير المصير.
كان القائد قرنق يفول ان شكل العلاقة بين الشمال والجنوب يتحدد بمقدار ما تقدم الحكومة من عروض.وكان يقول ان الوضع شبيه بالعلاقة بين دائرتين متساويتين فاذا استجاب الحكم لمطالب الجنوب ففذلك هو التطابق والوحدة بحيث تجلس كل دائرة فوق الاخرى فلا يكون هنالك زوائد او نتوء.أما اذا اعطى الحكم بعض المطالب وانكر باقيها فذلك يعني ان الدائرتين تباعدتا ولكن ظل بينهما قدر من التطابق بما يعني علاقة فدرالية او كونفدرالية .وحين يرفض الحكم كل مطالب الجنوب قذلك هو الانفصال.
قلت في مقالات سابقة ان الحكم يرفض ان يدفع من حسابه ولكنه يدفع من حساب الوطن.لايريد ان يسمح بالديموقراطية وحقوق الانسان والعاصمة العلمانية لان ذلك يضره ويهدد سلطته ولكنه يسمح بتقرير المصير على حساب وحدة الوطن ليظل حاكما متسلطا على وطن مقسم ومجزوء.وذلك بالضبط ما حصل فقد اعطونا حريات شكلية سرعان ما عادوا وصادروها ودفعوا الجنوب دفعا على طريق الانفصال وكل ذلك لكيلا تكون هنالك عاصمة علمانية ولا حقوق دستورية ولا صحافة ولا احزاب ولا اي نوع من التهديد للسلطة الاسلاموية القائمة
نعم يا استاذ ياسر نحن نبكي على السودان وعلى الجنوب بكل ما فيه..نبكي على ثروته البترولية وعلى مدنه وحدوده وثماثيله الخشبية وغاباته وناسه الفارعين الفنانين.وليس من سبيل لتجزئة دمعنا لتكون دمعة على البترول واخرى على اصدقائنا وزملائنا من اهل الجنوب.فالجنوب كتلة واحدة – جزء من الوطن كنا نريد ان نتنزه فيه ونتجول في ربوعه ونكتب عنه ونتفرج على حيوانه ورقصاته وابداعاته ونشارك في نهضته..كنا نريد ان نصفق للرياضيين الجنوبيين وان نرقص مع الفرق الجنوبية ونغني مع المنشدين.وبالمثل نتيح لانسان الجنوب ان يفعل كل تلك الاشياء في كردفان ودارفور والشمالية قنحن "بنو وطن واحد .. بل وابناء خال".
شخصيا لا اريد من البترول ان يكون مستقبل بلادي فانه ثروة ناضبة تعمل ملايين العقول للاستغناء عنه وايجاد بديل له وسوف يتكلل مسعى تلك العقول بالنجاح. فقط نريد للثروة البترولية ان تسمح لنا ببناء الطرق والجامعات الراقية واستيراد الحواسيب لأبناء الوطن لنكون على صلة مع العالم ونطلع على منجزاته الحضارية وفي ذات يوم نقدم نحن ايضا منجزاتنا الحضارية. وبطبيعة الحال لا نريد لتلك الثروة ان تظل في ايدي المتأسلمين وانما ننقلها لملكية الشعب ونصرفها على تعليمة وصحته ورفاهيته وكل ذلك تحت ضوء الشفافية الذي لا يتوفر الا تحت ديموقراطية حقيقية.
لست سعيدا بتمزيق بلادي وصعب جدا ان اكون .وانا اعلم حق العلم ان الجرة اذا انكسرت لا ينفع فيها التجبير وقد تنبأت بحروب قادمة متى انفصل الشطران وهي حروب يتضاءل امامها كل ما اقترفنا من مذابح خلال نصف فرن من القتال فهذه المرة سيكون للجنوب فواه المتقدمة وله مطالبه وثاراته نحو الشمال والشماليين تماما كما جرى بين الهند وباكستان وبين ارتريا واثيوبيا وكما يحدث دائما بين اي بلدين ينفصلان عن بعضهما البعض بعد اجيال من القتال.ويوم تغير الطائرات الجنوبية على الخرطوم او تغير الفاذفات الشمالية على جوبا فسوف ابكي طويلا كثيرا مريرا واذا لم اكن بينكم فانني سأملأ قبري بالدموع.
ينبغي ان يكون بيننا رجل رشيد ينقذ السودان من هذا المآل ويحافظ على وحدة البلد بإرضاء كل الاطراق

محمد المكي إبراهيم
 

Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]

 

آراء