البحث عن الدولة في السودانين، القديم والجديد .. بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم

 


 

د. حسن بشير
5 November, 2010

 


    هل يا تري أبناءنا وبناتنا في المدارس والجامعات يعرفون الفرق بين الدولة والحكومة، حتي يستطيعوا التمعن في عناصر نجاح وفشل الدولة ومقوماتها؟ كيف يستطيعوا ان يعرفوا ذلك وهم لم يعيشوا في يوم من الأيام تحت رعاية دولة ما وإنما ظلوا يعيشون تحت سطوة الحكومات؟ حتي هذه الحكومات كانت في غالبيتها غير مستقرة ولا تحكمها مرجعية عامة يمكن الإلمام بها بشكل (أكاديمي) يمكن الدارس او الباحث من المعرفة والاستدلال والاستنتاج.
      الان يدور جدل في السودان حول ضرورة قيام سودان جديد، مما يعني في تصورنا دولة كاملة الأهلية.بالطبع سيكون هناك سودان جديد بعد إجراء الاستفتاء حول تقرير المصير أي كان موعده. سواء ان انقسم السودان الي دولتين او بقي دولة واحدة او صار كيان كونفيدرالي، لكن وفي جميع الأحوال فان سودان ما بعد الاستفتاء لن يكون هو سودان ما قبل الاستفتاء، وعلي سبيل القول الشائع في الممارسة السياسية السلطوية: ( شاء من شاء وأبي من أبي). يستدعي هذا الواقع البحث عن دولة في الشمال وفي الجنوب، وان تكون هذه الدولة لسودان مختلف، جديد، ليس بالمعني الخاص بالحركة الشعبية وإنما بالمعني الأوسع الذي يفرضه الواقع السياسي- الاقتصادي – الاجتماعي- الثقافي- الجغرافي... الخ، الجديد المختلف كلية عن الوضع السابق للاستفتاء.
 غض النظر عن معني الدولة، سواء ان كانت هي كيان سياسي يتمتع بالسيادة الفعلية على فضاء جغرافي معين او كانت روابط سياسية مبنية علي كيان ذي اختصاص سيادي في نطاق إقليمي – دولي محدد يمارس سلطاته عبر منظومة من المؤسسات والهياكل التنظيمية المعقدة، فإنها يجب ان تحتوي علي عناصر ومكونات أساسية تجعلها دولة بالمعني الدقيق للكلمة. يتم تناول الدولة في بعض المناهج علي أساس ممارسة السلطات المخولة وطبيعة السيطرة القائمة علي الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. تسيطر منظومة الحكم (الحكومة) علي الأرض المكونة (للبلد) بما يحتويه من بشر مقيمين وموجودات مادية وقيم معنوية لفترة زمنية ما. وهنا تتم مناقشة طبيعة الدولة من حيث توازن المصالح بين منظومة الحكم (الحكومة) والرعية (الشعب) فإذا غلبت مصالح الأولى  صارت الدولة (استبدادية) وهو  السائد في عالم اليوم بشكل كبير جدا، لدرجة ان الفساد أصبح يعم في 75% من دول العالم، حسب منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الأخير للعام 2010م، بالرغم من التفاوت النسبي في درجات الفساد. أما إذا غلبت مصالح الشعب وأصبحت معتمدة علي قانون اساسي او (دستور) ملزم اضافة للمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان، فان ذلك يرجح وجود نظام ديمقراطي مبني علي مؤسسات مكونة لكيان (الدولة).   من هنا يمكن الاستدلال علي ان نظام الحكم في الدولة الحديثة يكون معقدا ومكونا من مؤسسات من أوضح معالمها مكانة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة للأطر القانونية والتنظيمية الحاكمة لجميع أوجه الحياة ورعاية المصالح والحقوق وضبط التعاملات والأنشطة وتكاملها في نظام واضح المعالم بالرغم من التعقيد المؤسسي الملازم لمثل هذه الدولة. وبمناسبة (التعقيد)، فانه من سمات التطور، كلما تطورت المجتمعات، أصبحت أكثر تعقيدا وزادت الحاجة فيها للدولة ومؤسساتها وليس العكس.
    من هنا يمكن القول بان وجود العناصر الأساسية والعلاقة بينها هي التي تحدد مفهوم الدولة الحديثة. المكونات هنا هي: الحكومة ،الشعب ،الأقاليم، بالإضافة إلى السيادة و الاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لاسيما الخارجية منها. بعد ذلك يتم البحث عن خصائص الدولة التي تتلخص في أهم جوانبها في: مفهوم ممارسة السيادة بجميع متطلباتها من شرعية وقوة تعلو فوق جميع التنظيمات والجماعات المكونة للمجتمع؛ الجانب الثاني هو الطابع العام للدولة ومؤسساتها، التي تتميز عن الطابع الخاص او الفردي، فالدولة تطلع بالقرارات العامة والولاية علي الشأن العام والسلطة التنفيذية التي تقوم بوظائفها علي التمويل العام والمال العام.العنصر الثالث هو إلزامية قرارات الدولة وشرعيتها المستمدة من الدستور والقانون، بحكم - وهذا شرط اساسي - تعبيرها عن المصلحة العامة وتحقيق أهداف المجتمع. العنصر الرابع هو امتلاك الدولة للقوة التي تمكنها من تنفيذ قراراتها وفرض هيبتها بتطبيق القانون ومعاقبة مخالفيه واحتكارها لوسائل الردع القانوني في المجتمع دون سواها من أطراف. وأخيرا علي الدولة ان تتميز بطابع إقليمي في إطار موقعها الجغرافي، في حدود معينة تمارس عليها سيادتها وسلطاتها.
  بالنظر الي جميع تلك المكونات، حتي الإقليمي منها، فسنجد ان السودان يفتقر، الي حد خطير لوجود دولة. هناك حكومات وسلطات تحكم وتسن القوانين وتردع وتقمع، لكن العناصر الأساسية المميزة للدولة تكاد تكون معدومة علي مدي أكثر من نصف قرن بعد استقلالنا عن الحكم الاستعماري. كل يوم تظهر دلائل جديدة علي افتقارنا لدولة قائمة علي حكم القانون وسيادة المؤسسات. اكبر الأدلة ان حكام البلاد يختلفون علي الأشياء الأساسية المكونة لعناصر الدولة والخاضعة للأحكام الدستورية والقانونية. بل ان الأمر أكثر من ذلك، فحتي السيادة الإقليمية والحدود الجغرافية والهوية القومية ، هي أشياء غير متفق عليها في السودان، ناهيك عن طبيعة الدولة نفسها، واحدة ام مقسمة، جمهورية ام برلمانية، علمانية ام دينية؟ الي أخر تلك الأشياء التي لا يمكن ان تكون هلامية بالشكل التي هي عليه في سودان اليوم.
    من ابلغ الدلائل علي غياب الدولة ما جاء في بعض صحف الجمعة 5 نوفمبر 2010م ومنها علي سبيل المثال(أجراس الحرية)، علي لسان وزير المالية في حديث له أمام المجلس الوطني جاء فيه ".. عدم سيطرة وزارته علي صناديق الضمان الاجتماعي وطالب أعضاء المجلس الوطني بمساءلتها (المقصود هنا علي ما يبدو الوزارة)، عن أموال المعاشيين ، وتسأل الوزير حسب الصحيفة (داير اعرف ناس صندوق المعاشات بودو قروشنا وين؟) واشتكي ان ( تلك الصناديق خارجه عن سيطرة المالية)، يعني ذلك بالطبع خروجها عن الإطار المؤسسي وبالتالي خروجها عن سلطة الدولة، الأمر لا يتوقف علي هذه الحالة وإنما أوردناها كمثال جيد طازج. لكن اذا كان السيد الوزير لا يعرف أين تذهب (قروشنا)؟ فكيف يمكن للاخرين ان يعرفوا ذلك؟
      اذا كان من اول وظائف الدولة الولاية علي المال العام وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية، التعليم، بسط العدالة وصيانة السيادة الوطنية والمحافظة علي وحدة البلاد وتماسكها، فان ما يحدث عندنا لا يعني الفشل فقط، - فشل الدولة - وإنما يشكك في وجودها أصلا. يفتقد السودان للمؤسسية حتي في اخطر مؤسساته مثل وزارة المالية وقدرتها في إحكام سيطرتها علي المال العام والسيطرة علي الفساد المالي الذي تفيض به تقارير المراجع العام، يضاف ذلك الي هلامية الحدود حتي علي مستوي الوطن الواحد بين ولاياته كما يحدث بين الجنوب والشمال وحتي بين ولايات شمالية - شمالية، وفي خارطته الدولية التي تظهر بصور مختلفة وبهويته المتأرجحة بين العناصر والمكونات العربية والإفريقية، الإسلامية والمسيحية والديانات الاخري التي كانت مثالا للتعايش قبل ان تتحول الي موضوعا للنزاع والحرب والتدخلات الدولية الي ان صار السوداني المسلم يقتل يوميا وهو هاربا الي إسرائيل ألد أعداء الإسلام وأكثر الكيانات إثارة للجدل والاختلاف في تاريخ البشرية.
     في هذا الوضع من الممكن ان نجعل من الاستفتاء مناسبة لمراجعة وضع الدولة السودانية من جميع العناصر المكونة للدولة والبحث عن بناء دولة او دولتين حقيقتين قابلتين للحياة كدول متماسكة مستقرة غير مهددة بالتفكك الي أجزاء متعددة في الجنوب والشمال معا. اذا لم يتم البحث عن عناصر الاتفاق والوحدة والتعاون فكل يوم ستظهر موضوعات جديدة للخلاف وستتشعب تلك الخلافات الي ما لا نهاية مؤدية الي الفشل وراء الفشل، ولكم في حركات دارفور مثال جيد، اذ ان هناك انطباع يتكون لدي المتابع بان تلك الحركات تشهد مولد حركة جديدة كل يوم، كما ان معظم تلك الحركات تشهد تغيرات في قياداتها بوتائر أسرع من تغير أشرطة الأنباء علي القنوات الفضائية وربما تصبح تدور مثل عقارب الساعة، بلا توقف. لكن هل يتوقف العالم في حركته وتطوره؟ هل ستكف الكرة الأرضية عن الدوران منتظرة السودان او حركات دارفور ان تحسم خلافاتها حول الوحدة او الانفصال؟ حول السلام او الحرب؟ حول الوصول الي اتفاق يخلص المكتوون بنيران النزاع والخلافات من عذاباتهم؟ ذلك لن يحدث والتاريخ لن يعبأ بأحد والعالم ماض في سبيله ليترك لنا الفشل والتخلف والضياع، الا إذا اخذ الله بيدنا وهدانا سواء السبيل وفتح بصائر الذين يسمون نفسهم بالسياسيين والقادة علي حلول مرضية للجميع وتلبي متطلبات دولة سودانية جديدة بمقومات للبقاء والاستدامة.


Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء