قيامة الأسعار

 


 

د. حسن بشير
13 December, 2010

 


     تخطت مناسيب الأسعار ومعدلات التضخم في السودان أي قياس رياضي او منطق اقتصادي او منهج من مناهج الإحصاء وأصبح الوصف المناسب لما يحدث هو ان "قيامة" الأسعار قد قامت في البلاد ولا يمكن إرجاع الأوضاع الي ما كانت عليه حتي قبل عام من الزمان. يحدث هذا والجو في السودان ملبد بالغيوم وينبئ بشر مستطير. من المعروف لاي متابع عادي للشأن السياسي ان الحركة الشعبية قد (صوتت) لصالح الانفصال منذ زمن بعيد ولم تعد هناك قوة في الأرض يمكن ان تقنعها بشيء أخر اقل من ذلك، اما ان تجبرها علي حل بديل دون إرادتها فهذا وارد ولكن من غير المعروف هل سيكون بديلا عقلانيا ام فعلا مدمرا يعتبر أسوا من خيار الانفصال؟. هذا الأمر الذي اقنع المتابعين والمحللين لم يقنع الحكومة في البحث في هذا الموضوع بجدية وإيجاد المخارج المناسبة التي تجنب البلاد الجحيم الذي دخلت فيه من بوابة أسعار السلع والخدمات بدون استثناء. كذلك الحال، لم يقتنع بخيار الحركة الشعبية ساسة في المعارضة من الذين كانوا يعقدون الآمال علي طرف من طرفي نيفاشا او كليهما في ان يسعوا الي إيجاد حل لمعضلة الموارد التي تحرك اقتصاد البلاد والخروج من نفق الخمسمائة برميل التي أصبحت محور الخير والشر معا في السودان. في لجة الصراع اختلط الحابل بالنابل، الوسطاء ، المبعوثين، القمم ، مجلس الأمن الي ان وصلنا الي بوابة نادي باريس الذي جاء لسبب عملي جدا هو مناقشة مصير ديون السودان وكيفية التعامل معها بعد ان اقتنعت دول النادي بان الانفصال قد تم بالفعل ولم يتبقي له الا الجوانب الإجرائية. كان هذا هو الوقت المناسب لاجتماع اللجنة المشتركة بين كل من صندوق النقد والبنك الوليين وممثلين من نادي باريس من جهة وشريكي نيفاشا من جهة اخري إضافة الي بعض (الميسرين) الذين يمثلون مصالح الدول الأعضاء في النادي المالي الشهير او الدول المرتبطة بها او الدائنة عبر المؤسستين الدوليتين.
نادي باريس للذين لا يقفون علي حقيقته، هو عبارة عن تجمع يرعي مصالح اكبر الدائنين في العالم بشكل غير رسمي ويتكون في أساسه من 19 دولة من الدول الغنية منها 15 دولة أوربية (من داخل الاتحاد الأوربي) إضافة الي روسيا، ويضم بالطبع كل من الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، كندا واستراليا. بالرغم من الصفة غير الرسمية للنادي الا انه يستند الي عدد من المبادئ والقواعد لتأمين الاتفاقيات التي يتم إبرامها وضمان تنفيذها ومن أهم الآليات التي يستند اليها النادي في التعاقد والوفاء بالإلتزامات ، تلك المعتمدة من صندوق النقد والبنك الدوليين، الوفيان لدول النادي والساهران علي مصالحها. في هذا الوقت تجتمع تلك الأطراف لمناقشة مصير الديون السودانية وفي هذا إشارة واضحة ورسالة من الرسائل التي يجب استيعابها لمن يهمه الأمر.
هذه الأمور جميعها متشابكة مع بعضها البعض ، الغلاء الفاحش، التضخم الذي لا لاجم له، تكالب الدول والمنظمات والتجمعات علي السودان ، تداعيات الأزمة المالية العالمية وعلاقة كل تلك العوامل بانفصال الجنوب الوشيك. صحيح ان الغلاء وتصاعد معدلات التضخم في السودان ليست بالأمر الغريب خاصة في هذه الفترة من السنة التي تتزامن مع إجازة الموازنة العامة، إلا ان ما يحدث هذا العام امر مختلف جدا. الذي يحدث الان يعبر عن العجز والخوف من المصير المجهول وعن دخول الدولة السودانية في متاهة لا تعرف كيف تخرج منها. لذلك يسود التخبط في السياسات الاقتصادية العامة في شقيها النقدي والمالي.
     ربما يعبر تصريح السيد والي الخرطوم باستيراد دقيق القمح من الخارج و" اتخاذ حزمة من الإجراءات الاخري لجهة عدم تجاوز الزيادة في أسعار الخبز 10%.." ، الصحافة، الاحد، 12 ديمبر 2010م، يعبر هذا التصريح عن مأزق "المتاهة". أولا فان ارتفاع أسعار الخبز بنسبة 10% يعتبر معدلا كبيرا جدا يتخطي حاجز المؤشر المعتمد لموازنة العام الحالي بأربع نقاط مئوية كاملة، وهذا اعتراف غير مباشر من والي الخرطوم بان تلك المؤشرات لا قيمة حقيقية لها، حتي في عام لم يشهد انفصال الجنوب بعد. ثانيا ، من اين يأتي دقيق القمح الذي يخبز الان في المخابز والذي تجاوز ارتفاع سعره نسبة (30%) ، حسب حديث الأسواق؟ ثالثا هل سيتوقف تدهور سعر الجنيه السوداني الذي كان واحدا من مبررات الزيادة في الأسعار بنسبة ( ال 30%) السائدة الان والتي لن تتوقف عند هذا الحد؟ ثم حتي اذا تم استيراد دقيق القمح، وإذا استطاعت الخزينة العامة تحمل هذه التكاليف ، وهو الأمر الذي لم تحققه أي حزم من الإجراءات في السابق؟ فكيف يمكن كبح جماح ارتفاع الأسعار بشكل عام والمرتبطة مع بعضها البعض كارتباط أعضاء الجسم الواحد؟
لن تتوقف "قيامة" الأسعار عند سلعة واحدة مهما تم اتخاذه من ( حزم من الإجراءات) فحتي "الكسرة" قد مدت لسانها ساخرة من جميع الذين كانوا يعتقدون بأنها ستقف متفرجة علي زيادة أسعار السلع والخدمات بينما هي واقفة في مكانها، هذا لن يحدث حتي في الأحلام. اذا وصلت معاناة الناس الي هذا الحد الذي يعتبر فيه والي أهم ولاية سودانية وأعلاها دخلا، خاصا وعاما ان زيادة أسعار الخبز بنسبة 10% يعتبر انجازا فهذه هي الكارثة نفسها وليس شيئا اخر. الا تكفي كل هذه المؤشرات والمحن الي إعادة العقل والرشد للحكام والحكومات في السعي نحو حل سياسي ما يجنب البلاد ما هو أسوا. بمناسبة (ما هو أسوأ هذه)، نجد في الكثير من الكتابات بان (القادم أسوأ) وهذه حقيقة نلاحظها من خلال كتاباتنا ومتابعتنا للشأن السوداني الذي يسير بالفعل من سيء الي أسوأ وبشكل يتخطي جميع معدلات السرعة الكونية المعروفة. صدقوني فان "قيامة" الأسعار التي قامت هذه الأيام قد زادت من معدلات الفقر والجوع والإملاق بشكل حاد في البلاد ويصبح بذلك أي حديث عن مكافحة الفقر او تحقيق أهداف الألفية مجرد وهم وعبث لا طائل من ورائه.
 
(hassanbashier141@hotmail.com)

 

آراء