25 يناير، سقوط الجدار الثاني
في 9 نوفمبر من العام 1989م سقط جدار برلين (Berliner Mauer ) الذي تم تشيده في العام 1961م في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في ذلك الزمان... حدث ذلك بعد حوالي أربعة اشهر من وصول نظام الإنقاذ الي الحكم في السودان منذرا بسير السودان في اتجاه معاكس للعالم الذي سار حسب معظم المؤرخين الغربيين منذ ذلك الوقت في اتجاه العولمة بجميع معالمها. الحق يقال ان السودان اختار مؤشرا واحدا في ذلك المسار ومضي فيه بعيدا متفوقا علي الاخرين وسابقا لهم، كان ذلك هو مسار التحرير الاقتصادي والخصخصة وخروج الدولة خاصة في الخدمات العامة والاجتماعية عن مشهد السياسيات العامة (Public policies ) وتركه للسوق سواء ان كان قطاعا خاصا محليا او أجنبيا او شركات حكومية تعمل بنظام السوق بكامل دوران ماكينته الطاحنة. كان انهيار جدار برلين استجابة لحراك اجتماعي واسع مناهض لأداء الأنظمة الاشتراكية علي النمط السوفيتي التي تكلست وتجاوزها التطور ولم تعد صالحة لتلبية متطلبات العصر. لكن المبادرة جاءت من هرم السلطة ممثلة في قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي اثر الانقلاب الذي قاده ميخائيل غورباشوف سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي والحاكم المطلق لدولة تتوفر اليها اقوي الأنظمة التسليحية التدميرية في العالم وأكثر أنظمة المخابرات تنظيما وتأهيلا في قمع الخصوم والسيطرة عليهم. ما حدث هناك كان حاجة موضوعية لظروف موضوعية وذاتية خاصة بشعوب تلك البلدان وحراكها الاجتماعي ولم يكن كما يدعي مزيفي إرادة الشعوب مؤامرة من استخبارات غربية او نتيجة لنبوغ في سياسات الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان. من الأدلة ألكبري علي ذلك، وقد كنت شاهد عيان ومعايش ميداني للأحداث، كان إعلان جميع الحكومات الغربية وعلي رأسها الإدارة الأمريكية ان ما يجري بالاتحاد السوفيتي هو شأن داخلي، كانت تلك هي ردة فعلهم تجاه الانقلاب المضاد لغورباشوف ولسياسة (الغلاوسنوست) و (البروسترويكا)، الانقلاب الذي قاده نائب الرئيس يانايف وتبعه جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب وأعضاء الحكومة إضافة لمجلس السوفيت الاعلي. الاستثناء الوحيد جاء من السيدة الحديدية رئيسة وزراء بريطانيا حينئذ، مارغريت تاتشر، التي أعلنت تأييدها لغورباشوف وطالبت بإعادته الفورية الي الحكم.
بالرغم من مجريات ذلك الحدث التاريخي الضخم فان الشرارة في تفجره قد جاءت من قمة النظام الحاكم ، من بنيته الفوقية مدفوعة بحاجة اجتماعية متراكمة، حتي ان رجل روسيا الذي كان يلقب ب(القوي) باريس يلتسن، كان قياديا في الحزب الشيوعي وكان سكرتيرا لأكبر منظمة شيوعية في البلاد هي لجنة الحزب بالعاصمة موسكو والتي كانت عضويتها المسجلة تفوق المليون عضو. الا ان الحقيقة ان يلتسن كان شخصية تدميرية (ثور في متحف الشيوعية) ، كان دوره المرسوم هو تدمير النظام، اذ سادت نظرية وقتذاك ان النظام السوفيتي لا يمكن إصلاحه وبالتالي فمن الضروري تدميره لبناء نظام اخر مختلف علي أنقاضه، وقد أطلق علي ذلك العلاج بالصدمة او النموذج البولندي ( عندنا العلاج بالكي)، يقول الروس ان ذلك دور مرسوم وقد تم التخطيط بدقة لوصول فلاديمر بوتين للسلطة. لم ينفع في ذلك السطوة الأمنية او الترسانة العسكرية الرهيبة، لم تجدي مع ذلك حتي الشعبية الكبيرة للحزب الشيوعي السوفيتي خاصة في الريف (حتي اليوم يعتبر الحزب الشيوعي الروسي هي الاعلي وسط جميع الأحزاب الروسية الا ان في روسيا من يحكم هو الذي يفوز). حدث ذلك رغم توفر التعليم والصحة للجميع بل حتي الترفيه المجاني وبالرغم من انعدام الفقر تقريبا بمفهومه التقليدي المؤدي الي سوء التغذية والموت من الجوع. الا ان هناك مطالب كانت اهم متمثلة في ألتوق الي الحرية والديمقراطية والكرامة الشخصية وحرية الإبداع والمبادرات الشخصية. يضاف ذلك الي ان الحكام تحولوا الي (طغم) عالية الامتياز، مع ضرورات مواكبة الحداثة والتطور التكنولوجي والمعلوماتي الجماهيري والانفتاح علي الاخر. كانت رمزية حائط برلين متمثلة في كبت الحريات والتضييق علي الخيارات الخاصة وقبول التنوع والتعايش مع الاخر المختلف، لذلك فان تحطيم جدار برلين أصبح رمزا للحرية واعتبره البعض انتشارا للديمقراطية الليبرالية بنموذجها الغربي وانها (نهاية التاريخ). الا ان هذا الزعم لم يصدق حتي ألان والحديث في ذلك يطول.
في عالمنا هذا بفضائه الكائن في العالم الثالث وبشكل أدق في جزء محدد من أسيا وإفريقيا وبشكل أكثر دقة في الدول العربية والإسلامية ، هنا تم بناء جدار اخر من القمع والاستبداد والفساد وتخوبف الشعوب حتي اقتنع العالم بان هذا الجدار لا يمكن اختراقه. بذلك تم زرع أنظمة تفعل ما تريد في شعوبها دون خوف من عقاب. اعتبرت تلك الأنظمة بجدارها السميك خير حماية لإسرائيل وللمخططات الامبريالية في المنطقة وحماية مصالحها. امتد ذلك منذ العهد الاستعماري، زراعة دولة اسرائيل وتنكيلها غير المتناهي للشعب الفلسطيني، نهب الثروات مع اقتطاع أجزاء من الدول العربية وتمليكها علي الشيوع للدولة اليهودية وصولا الي غزو العراق وأفغانستان وإرسال الصومال الي ما وراء ذاكرة التاريخ. كان ذلك متزامنا مع تمكين وتوطين دعامتين لذلك الجدار هما الفساد والفقر، إضافة لأعمدة الاستبداد والإقصاء والتهميش.
فجأة وبدون مقدمات مرئية ودون توقعات من الحكومات والأجهزة الأمنية ووسائل المخابرات ورصد الأقمار الاصطناعية ومراقبة شبكات الاتصال وشركة المعلومات الدولية الانترنت، فجأة ومن تحت الكبت ومعاناة السنين وجبروت الأنظمة وحماتها في الغرب فجر الشباب التونسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالانترنت واثر ردة فعل احتجاجية عنيفة لمحمد البوعزيزي انفجر بركان الغضب في ثورة شعبية جارفة أطاحت بواحد من أفضل أركان النظام العربي البالي وذهبت به مباشرة الي مزبلة التاريخ ولا زالت فصولها متواصلة في تونس الخضراء.
الا ان الزلزال الأكبر كان في مصر بوصفها دولة أكثر حيوية وأعمق تأثيرا استراتيجيا علي المستويين الإقليمي والدولي. تفجرت الثورة بدعوة عبر (الفيسبوك) و(تويتر) لحركة احتجاجية لم يكن منظموها او أي من المتابعين لها او الراصدين لحركتها يتوقعون لها درجة تصل الي كسر عشري مما وصلت اليه. لقد كانت تلك الشرارة التي أشعلت نيران كانت خافتة تحت قرون من القمع وهضم الحقوق والتعسف والتكبر الي ان وصل الحكام الي إنهم قد وصلوا الي مستوي التأليه. لقد فاقت تطورات الثورة المصرية كل التصورات وأصبحت تتقدم باضطراد علي المواقف الحكومية المحلية والدولية، لم تنفع معها أساليب الغش و (الدغمسة)، لم تجدي معها الوعود والتنازلات ، كما لم تخفف من جذوتها الإجراءات الأمريكية او التخويفات الإسرائيلية او تحويلات الأموال الخليجية. لم يرهب تلك الحركة القتل الأمني ولا دهس العربات او انتشار الدبابات او حوامة الطائرات، لم تجدي معها البيانات. ويبدو ان النظام المصري قرر السير في طريق تدمير بلاده حماية لأولياء نعمته في واشنطن وتل أبيب لان ما يحدث هناك لا يمكن فهمه الا علي طريقة (يا فيه يا اطفيها) حتي لو كان ذلك الإطفاء هو تدمير وطن وإبادة شعبه حتي ترتاح إسرائيل من أي مقاومة مستقبلية. لكنهم يتعاملون مع الشعب المصري وما إدراك ما الشعب المصري.
المهم في الموضوع ، غض النظر عن النتائج الفورية فان الجدار قد كسر ولن يتم بناءه من جديد والي ابد الآبدين/ وضع ذلك مسارا جديدا للتاريخ. هناك نتيجة مهمة يجب استخلاصها وهي ان قمع المعارضة او تهجينها او رشوتها لم يعد عاصما للأنظمة من الثورات الشعبية التي أخذت نمطا جديدا غير مسبوق، يبقي علي الأنظمة التي لم تصلها نيران تلك الثورات بعد وإنما هناك فقط، رياح خفيفة شمالية وشمالية غربية، علي تلك الأنظمة ان تفيق من غيبوبة قرونها اللذيذة تلك وان تعيد حساباتها. كذلك الحال لاحزاب المعارضة التي لا تقل تكلسا عن الأحزاب الحاكمة كما هو الحال في السودان، علي المعارضة ان تستيقظ حتي تستطيع اللحاق بحركة التاريخ التي بدأت في تجاوزها.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]