إقالة المدير وسياسة الانفتاح في السودان …. بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي

 


 

 



(1)

في غمرة الأحداث الجسام التي هزت السودان والعالم، وليس أقلها إعلان الطلاق البائن بين شمال السودان وجنوبه، وهو حدث مزلزل اختفى بدوره وسط التطورات المذهلة على أرض الكنانة وما حولها، أوردت الأخبار الأسبوع الماضي خبراً يبدو صغيراً في وسط كل هذه النوازل، ألا وهو خبر إقالة مدير جامعة الخرطوم البروفيسور مصطفى إدريس بقرار جمهوري رغم أن تعيينه في المنصب كان قبل حوالي عام وبضعة أشهر.

(2)

قرار الإقالة كان مفاجئاً وفيه الكثير من العجلة، حيث تواترت الأنباء بأن بروفيسور إدريس أبلغ القرار بالهاتف بينما كان خارج العاصمة، مما يؤكد أن الأمر تم عفو الخاطر، ونتيجة لتغيير طارئ في الرأي من قبل كبار المسؤولين، بحيث لم يمكنهم الانتظار لبضع ساعات حتى يعود الرجل إلى موقعه.

(3)

يكتسب القرار أهمية خاصة لكون إدريس يتمتع بمؤهلات عدة جعلته مؤهلاً لمنصبه من وجهة نظر النظام ومعارضيه معاً. فالرجل من أهل الولاء، كونه من الإسلاميين المخضرمين، وقد انحاز للتيار الغالب في النظام عندما وقع الانشقاق، رغم أنه ظل يدعو لإعادة توحيد الحركة. وهو فوق ذلك يملك مؤهلات أكاديمية وعلمية كطبيب وأستاذ جامعي مقتدر. وقد زكاه عند كوادر الجامعة وطلابها ما أظهره خلال فترة عمله القصيرة من همة وتجرد ونزاهة وبعد عن المكايدات السياسية.

(4)

مثل كثير من الإسلاميين ظل إدريس يوجه انتقادات علنية وغير علنية للمؤتمر الوطني الحاكم وطريقته غير الموفقة في إدارة الأمور. وكانت انتقاداته تتوجه بالأخص إلى السياسات التعليمية وما يراه من خلل بين في إدارة أمور التعليم العالي وتمويله. وكانت آخر نقطة تصادم بينه وبين الحكومة صدور قرار رئاسي بنزع جزء من أراضي جامعة الخرطوم وتحويل ملكيتها لما يسمى بصندوق دعم الطلاب، وذلك بدون أدنى تشاور مع إدارة الجامعة أو تعويض الجامعة عن هذه الممتلكات.

(5)

انتقد إدريس القرار سراً وجهراً، وكتب رسالة للرئيس يطالب بإعادة النظر فيه. ولعل لهجة الخطاب الحادة لم تعجب من بيدهم الأمر فصدر القرار الإيجازي بفصل الرجل، وأيضاً بدون الرجوع إلى الجهات ذات الصلة كما يبدو.

(6)

يطرح مثل هذا القرار والطريقة التي اتخذ بها وخلفياته أسئلة مهمة حول توجه الحكم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد، خاصة مع الهزة الماثلة بعد انفصال الجنوب واستمرار نزاع دارفور والهزات التي سيواجهها الاقتصاد، ومطالبة المعارضة بإعادة النظر في هيكل الحكم، واقتراح الحكومة بتوسيع المشاركة في السلطة والحوار مع المعارضة.

(7)

لكي يتيسر الحد الأدنى من الانفتاح على المعارضة فلا بد من أن تكون الحكومة مستعدة لتقبل الرأي الآخر المخالف، والنزول على رغبات المعارضين في بعض الأمور. ولكي يتحقق للبلاد شيء من الاستقرار في ظل الانفتاح المنشود فلا بد من أن تكون للمؤسسات مكانتها واحترامها واستقلاليتها. فالاستقراريتحقق حين يكون للخدمة المدنية والقوات المسلحة والشرطة، وبالطبع القضاء، ضمانات ضد التدخلات السياسية حتى لا تتأثر بتغير الوزراء ولا حتى بتغيير الحكم إذا تم التوافق على تداوله.

(8)

من أحق المؤسسات بالاستقلالية الجامعات، لأنها لا يمكن أن تؤدي وظيفتها الحيوية لحاضر البلاد ومستقبلها بدون احترام استقلاليتها وحرياتها الأكاديمية، وإبعادها عن الصراعات من كل نوع. ولهذا ينبغي أن تكون القرارات الخاصة بالجامعات، بما في ذلك تعيين وإقالة المدير والتصرف في الممتلكات هو من صميم اختصاص مؤسسات الجامعة نفسها، لا أي جهة أخرى.

(9)

من هنا فإن الرسالة التي ترسلها القرارات الأخيرة بنزع أراضي الجامعة ثم إقالة مديرها لأنه اعترض على ذلك، رسالة ضيق صدر بالرأي الآخر وعدم صبر على استقلال المؤسسات. فإذا كان النظام يضيق بشخص من أهل الولاء والكفاءة، ويتخذ ضده أقسى القرارات لمجرد خلاف حول مسألة بسيطة، فكيف إذن سيشارك المعارضة في السلطة كما تدعو وتلح؟

(10)

ثم بالله عليكم أين هو تقدير الأمور بأقدارها حين تنشغل الحكومة على أعلى مستوياتها، وفي الأسبوع الذي فقد السودان سبعمائة ألف كيلومتر من أخصب أراضيه وثمانين بالمائة من انتاجه النفطي، حين تنشغل بصراع بين مؤسستين من المفروض أن تكون كلاهما مستقلة، حول قطعة أرض صغيرة مهما كانت مساحتها؟ في هذه الحالة، هناك بالقطع أكثر من شخص يستحق الإقالة، ليس من بينهم مدير جامعة الخرطوم.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء