أعادة الهيكلة والفيدرالية تغرقان في التوسع الإداري

 


 

د. حسن بشير
20 March, 2011

 



     من أهم الملفات التي شاع تداولها هذه الأيام نجد أعادة الهيكلة والفيدرالية. أعادة الهيكلة دخلت كمصطلح جديد في التعاطي السياسي السوداني دخل الحياة بكثافة بعد انفصال الجنوب. تجدر الإشارة الي مقال سابق لي بعنوان "إعادة هيكلة النظام بعد الانفصال"  تعرضت فيه لموضوع إعادة الهيكل في نقاط أساسية توضح ما رأيت من الضروري التركيز عليه في هذا الموضوع.  نشر المقال بعدد من المواقع الالكترونية منها (سودانايل، سودانيزاونلاين دوت كوم، الراكوبة وغيرها) ، كما نشر بالتزامن مع صحيفة الأيام الغراء وقد كان تاريخ النشر في معظم الأحوال هو 13 ديسمبر 2010م، أي قبل إجراء الاستفتاء علي تقرير مصير جنوب السودان بحوالي أربع أسابيع. المقال موجود بالمواقع المذكورة وبالصحيفة لمن أراد الرجوع إليه ألا إنني ذكرته لتوضيح ان الهدف من تناول ذلك الموضوع ليس واحدا وإنما لكل ليلاه التي يغني عليها في ديوان إعادة الهيكلة. باختصار شديد قصدنا إعادة هيكلة النظام السياسي والإداري العام في السودان ( شكلا ومضمونا)، وقد فصلنا وجهة نظرنا في ذلك الوقت. أما ما يتم تداوله هذه الأيام فهو علي درجة من التباين وعدم الوضوح تؤدي الي الإرباك والالتباس في المفهوم.
        لتوضيح اتساع الهوة في وجهات النظر حول موضوع إعادة الهيكلة وربطها بتوسيع المشاركة الشعبية وتوسيع قاعدة اتخاذ القرارات التنموية والاستفادة من مردودها، يمكن الوقوف عند تناول موضوعي الفيدرالية والتقسيم الإداري للسودان. أولا فيما يتعلق بالحديث عن الفيدرالية: عند طرح هذا الموضوع علي المستوي الحكومي او تناولها بشكل موالي للمؤتمر الوطني، فانه يكون مشابها لمنجاة  النفس والحديث مع الذات، خاصة عند تناول اطروحات مثل إدارة التنوع ، توسيع المشاركة في الحكم، الاستفادة من التنمية. يبدو ان هذه الموضوعات تفهم بشكل مختلف تماما وأنت داخل السلطة او علي أمل فيها عن كونك خارج مقاعد الحكم ولا ترجو فيها املأ. فمثلا من قائل ان التوسع في الفيدرالية يؤدي الي تفعيل إدارة التنوع وتجسيده بشكل عملي. كما يقول رأي أخر أنها تتيح المشاركة بشكل اكبر في العملية التنموية.لكن ذلك التناول يهمل تماما الرأي الاخر سواء ان كان علي المستوي القومي او المحلي في الوسط المحيط. في ظل الوضع السياسي الراهن لن يحل الاستفتاء مثل هذه المشاكل بل بالعكس يعمق من الانقسام ويزيد شدة التوتر.  في هذا الملف نكتفي بطرح عدد  من الأسئلة ستمكن الإجابة عليها من الفهم السليم للفيدرالية وسبل تطبيقها. من أهم الأسئلة ان الفيدرالية نفسها فيدرالية من؟ ولمن؟ كيف تدار؟ وما هو التنوع الذي يراد إدارته؟ من الذي يديره وكيف؟ ما هي نتائج التطبيق في الفترة السابقة من حيث ايجابية إدارة التنوع؟ هل هناك رؤية جديدة للفيدرالية وإدارة التنوع بعد انفصال الجنوب؟ ما هي أهم نماذجها وأين موقعها في النيل الأزرق، جنوب كردفان والبحر الأحمر علي سبيل المثال؟
الإجابة علي تلك الأسئلة توضح الرؤية وتتيح فرصة للنقاش او التفاوض، أما أن يبقي كل شيء في الظل او خاضع للتفسير المصلحي فذلك لن يفيد ولن يصلح لإعادة هيكلة نظام الحكم.
    الموضوع الثاني: مرتبط بالأول وفيه يتحدث كثيرون عن ان زيادة عدد الولايات مثلا يؤدي الي إتاحة فرص أوسع للتنمية المحلية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي. مثل هذا التوجه غير عملي لعدة أسباب منها تلك المتعلقة بالموارد واستخداماتها، إذ عادة ما يكون المقصود بهذا التقسيم هو تعميق الجهوية والقبلية وليس (إدارة التنوع) والأدلة علي ذلك كثيرة ونجدها في صلب التقسيم الإداري للولايات، المحافظات، المحليات والمعتمديات في جميع أنحاء السودان، هنا تطرح عدد من الأسئلة نفسها‘ مثل أين يقع ذلك التقسيم من قسمة السلطة والثروة او استخدام الموارد لمنافع خاصة؟ ومن هو المستفيد الحقيقي من ذلك التقسيم؟ أين موقع التمكين هنا وتوسيع فرص الاستقطاب الوظيفي للمنتمين للحزب الحاكم والموالين له؟ هل يؤدي مثل هذا التقسيم للاستخدام الأمثل للموارد ويزيد من المردود التنموي، بشكل ينعكس إيجابا علي حياة الناس؟ ما هي فائدة الحكم الفيدرالي أصلا إذا لم يسهم في تفعيل التنمية ، فض النزاعات وتوسيع فرص المشاركة في اتخاذ القرار؟
    لا توجد أي دلائل او مؤشرات تفيد بان هناك اتجاه لإعادة الهيكلة بشكل يؤدي الي رفع الجدوى الإدارية لنظام الحكم ويساعد في اقتصاد الموارد المهدرة علي الجهاز الإداري المتضخم  وابتلاعه لموارد طائلة دون أي فاعلية او مردود تنموي.   الشيء الوحيد الذي تم حتى الآن علي مستوي المناصب الدستورية العليا بعد انفصال الجنوب هو تعيين د. محمد خير الزبير محافظا لبنك السودان المركزي. بالرغم من ان ذلك لا علاقة له بإعادة الهيكلة ألا انه كان موفقا من الناحية المهنية البحتة. ربما كان السبب هو ان محافظ البنك المركزي منصب خالي من الرومانسية وبعيد جدا عن  الاستعراض كما انه لا يتيح لمن يتقلده أن يخاطب الجماهير الغفيرة مفاخرا بانجازاته في خطب يتخللها التكبير والتهليل، لان الانجازات هنا علي صعوبتها فهي غامضة وعلي درجة من الالتباس وغير مفهومة لغير المتخصصين، كما ان التنبؤ بنتائجها غير ممكن. لكل ذلك لا يبدو ان هناك كثير من السياسيين الطامحين في الجلوس و(التحكر) في كرسي وثير في تلك البناية الفخمة الكائنة بالقرب من (مقرن النيلين). تلك الأسباب قللت من ناحية فنية حدة المنافسة ودفعت بشخص علي درجة عالية من التأهيل والكفاءة لتولي هذا المنصب الصعب في منعطف حرج للاقتصاد السوداني حتي أن هذا  الرجل بالمزايا المعروفة عنه يبدو غريبا في الوسط السياسي الذي يعمل فيه . يبقي السؤال هنا هل سيصبح هذا الحدث مثالا يمكن تعميمه علي المؤسسات المحورية الاخري في الدولة التي تعاني من مشاكل تقعدها عن العمل كما يحدث في وزارة الصحة مثلا وانه سيصير قاعدة، أم انه سيظل في حكم الاستثناء؟ من الأفضل انتظار الانجاز  حتي يصبح من الممكن الحكم بنجاح مهمة المحافظ من فشلها.
      المضي في طريق حساب المصالح الضيقة (خاصة في الشأن الاقتصادي) في حكم ما تبقي من السودان بعد الانفصال هو توجه قصير النظر يمكن ان يفيد علي ألمدي القصير، لكنه علي ألمدي الطويل وبالمنظور الاستراتيجي للتنمية بمؤسساتها الرئيسية يعمق من المشاكل ويزيدها تعقيدا. الاجدي ان تسير إعادة الهيكلة في اتجاه الإصلاح القانوني، المؤسسي الذي يطال جميع أوجه الحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية بشكل يؤدي الي تقليل تكاليف الإنتاج وتوظيف الموارد بشكل يلبي احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويمكن السودان من احتلال موقع مناسب علي المستوي الإقليمي والدولي حتي يحافظ علي مصالحه الإستراتيجية ويصل الي درجة من الاستقرار تجنبه المزيد من التمزق والمزيد من المعاناة للمواطن السوداني البسيط الذي تتطاول الزمن علي معاناته دون ان يري بارقة أمل في الخلاص. لكن مرة اخري نقول ان ذلك مستحيل دون توسيع قاعدة المشاركة وإجراء اصطلاحات دستورية توافقية شاملة.


Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء