الموت جوعا ، والتناقض ين صندوق النقد والبنك الدوليين
أورد موقع البنك الدولي بتاريخ 14 ابريل 2011م الجاري خبرا عن ارتفاع أسعار الغذاء في العالم بنسبة 36% عن مستوياتها المسجلة قبل عام (worldbank.org)،" لاحقا تعود البيانات والاستدلال داخل الأقواس ألي نفس المصدر"، إضافة لاستمرار تقلب الأسعار مما دفع بمزيد من الناس الي براثن الفقر. جاء الخبر حول تقرير البنك الدولي عن )مراقبة أسعار الغذاء( الذي صدر بنفس التاريخ أعلاه. من الأشياء المثيرة للاهتمام السبب الذي أورده البنك لارتفاع أسعار الغذاء والذي أرجعه الي ).. عدة أمور منها ارتفاع تكلفة الوقود من جراء الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا(، هذا التبرير لارتفاع الأسعار يتناقض كليا مع توصيات صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المواد البترولية . جاء بالخبر تصريح مهم لرئيس مجموعة البنك الدولي قال فيه "يعاني عدد متزايد من الناس بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وعدم استقرارها، ومن الممكن أن يدفع هذا الوضع المزيد منهم إلى براثن الفقر. ولذا، علينا أن نضع توفير الغذاء على سلم أولوياتنا، وأن نحمي الشرائح الفقيرة والمتأثرة التي تنفق معظم دخلها لتوفير الطعام". في هدا الصدد لم يشرح لنا السيد رئيس المجموعة كيف يستطيع توفير الغذاء وكيف يحمي الشرائح الفقيرة؟ يبدو ان البنك الدولي لا يملك إجابة عملية لمثل هذه الأسئلة بدليل ما جاء لاحقا في نفس الخبر.
جاء لاحقا بالخبر ان زيادة إضافية بنسبة 10% في الأسعار العالمية للمواد الغذائية يمكن ان تذهب بعشرة ملايين شخصا إضافيا الي تحت خط الفقر المحدد بمبلغ 1,25دولار أمريكي في اليوم. اما في حالة ارتفاع الأسعار بنسبة 30 في المائة فسيؤدي ذلك الي سقوط 34 مليون شخص أخر الي ما دون خط الفقر. يقول الخبر "أضف إلى ما سبق أن هناك 44 مليون شخص سقطوا بالفعل في براثن الفقر منذ شهر يونيو/حزيران الماضي "2010م" نتيجة للزيادات المتلاحقة في الأسعار. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن هناك نحو 1.2 مليار شخص يعيشون تحت خط الفقر المدقع". يعني دلك ان البنك الدولي لم يفعل شيئا في التصدي لارتفاع أسعار الغذاء عالميا وسقوط المزيد من الناس تحت خط الفقر بشكل متواصل منذ موجات ارتفاع أسعار المواد الغذائية الكبير في العام 2007م مرورا بالأزمة المالية العالمية وحتى اليوم.
بعودة أخري الي التقرير المهم للبنك الدولي نجد الحقائق الآتية : " ارتفع مؤشر البنك الدولي لأسعار الغذاء، الذي يقيس الأسعار العالمية، بنسبة 36 في المائة عن مستواه المسجل قبل عام، (2010)، ولا يزال قريباً من مستوى الذروة التي شهدها عام 2008. وتشمل أكثر المنتجات زيادة في الأسعار مقارنة بمستواها قبل عام: الذرة (74 في المائة)، القمح (69 في المائة)، فول الصويا (36 في المائة)، والسكر (21 في المائة) على الرغم من استقرار أسعار الأرز. وفي بلدان كثيرة، واصلت أسعار الخضروات واللحوم والفاكهة وزيت الطهي ارتفاعها، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار سلبية على الفقراء نتيجة لنقص التغذية". بالنسبة للسودان نجد ان مؤشر الأسعار قد ارتفع فوق مؤشر البنك الدولي البالغ 36 في المائة لكثير من السلع الضرورية ومنها سلع الطعام والشراب والوقود. علي سبيل المثال فان سعر جوال السكر عبوة 50 كيلوجرام قد ارتفع من 90 جنيها الي 150 جنيها، أي بنسبة 60 بالمائة. في هذا السياق يشير تقرير البنك الدولي بصدق إلي أن ارتفاع أسعار الغذاء في الدول الأشد فقرا قد ارتفع بمعدلات اعلي، وهذا السبب يعود الي اعتماد حكومات تلك الدول في إيراداتها علي الضرائب والرسوم المفروضة علي السلع والخدمات الضرورية .
يعود بنا تقرير البنك الدولي عن مراقبة أسعار الغذاء مرة أخري ألي أسباب ارتفاعها ليؤكد "... ويرجع السبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى سوء الأحوال المناخية في البلدان الرئيسية المصدرة للحبوب، وفرض قيود على الصادرات الغذائية، والاستخدام المتزايد للحبوب في إنتاج الوقود الحيوي، وانخفاض المخزون العالمي من الغذاء. ويشير التقرير إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يرتبط أيضاً بتصاعد أسعار منتجات الوقود حيث ارتفعت أسعار النفط الخام بواقع 21 في المائة في الربع الأول من عام 2011 بفعل الاضطرابات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" اما عن كيفية التصدي لهذه المشكلة فان التقرير يقدم نصائح حول عدد من التدابير تلخصها الفقرة التالية: "... ويشير التقرير إلى أن هناك تدابير يجب اتخاذها لتخفيض أثر الزيادات الكبيرة في أسعار الغذاء على الفقراء، منها: توجيه المساعدات الاجتماعية وبرامج التغذية إلى الشرائح الأكثر فقراً، ورفع إجراءات الحظر على الصادرات الغذائية، وتخفيف الشروط الإلزامية المتعلقة بإنتاج الوقود الحيوي عندما تتجاوز أسعار الغذاء مستويات معينة. ومن الضروري أيضاً تحسين قدرات البلدان على احتواء تقلب الأسعار من خلال الاستعانة بأدوات الأسواق المالية، وتحسين التنبؤ بالأحوال المناخية، وزيادة الاستثمارات في قطاع الزراعة، واعتماد تكنولوجيات جديدة مثل تحسين أصناف الأرز لزيادة قيمتها الغذائية، وبذل الجهود لمعالجة ظاهرة تغير المناخ" من جملة تلك التدابير فان ما يلزم القيام به من قبل "حكومة الخرطوم" مثل الدعم الاجتماعي، برامج تغذية الفقراء، التصدي لتقلب الأسعار"بإتباع آلية أخري بالطبع خلاف أدوات الأسواق المالية التي لا تتوفر للحكومة السودانية، من اهم تلك الادوات ما توفره السياستين المالية والنقدية"، زيادة الاستثمار في الزراعة وتحسين تكنولوجيا الإنتاج، كل تلك التدابير ظلت تدور بين الصفر والأرقام السالبة.
قبل ان نختم هذا المقال نلفت نظر الجهات الرسمية العاملة في مجالات الصحة والغذاء، الزراعة والتقلبات المناخية، السياسات الكلية والتنمية الي ما ورد في التقرير المشار إليه حول: كيف يقدم البنك المساعدة؟ حتي يمكنها الاستفادة من برامج البنك المذكورة إذا كان هناك املآ منتظرا من البنك الدولي.
نرجع ألان الي "حكم" صندوق النقد الدولي التي قدمها للسودان حول كيفية " امتصاص صدمة ما بعد الانفصال". في الأخبار الصادرة عن صندوق النقد الدولي بتاريخ 22 ابريل 2011م aawasat.com) ( أشار الصندوق في تقرير له بان "حكومة الرئيس السوداني عمر البشير ستواجه صدمة دائمة بعد استقلال الجنوب رسميا بعد شهرين". وبعد ان يستعرض تقرير الصندوق فقدان الشمال ل 75 في المائة من عائدات البترول مما يعرض اقتصاده لاختلالات داخلية وخارجية، يستنتج الصندوق "ستحتاج حكومة الخرطوم الي التعود علي صدمة دائمة .. في وقت لا تتوفر فيه إلا فرص ضئيلة للتمويل الخارجي". لكن ما هي النصائح التي يوجهها الصندوق الحكيم لحكومة الخرطوم لمواجهة "الصدمة الدائمة". يري الصندوق بحكمته المعهودة "... علي حكومة البشير خفض الإنفاق، رفع الدعم عن الوقود ، الحد من الإعفاءات الضريبية وتحسين إدارة الإيرادات". اخطر ما في نصائح الصندوق هو خفض الإنفاق الحكومي، هي كلمة حق أريد بها باطل. معروف أن أكثر من 70 في المائة من النفقات الحكومية يذهب الي الأمن والدفاع والدستوريين وقد صرح السيد رئيس الجمهورية بشكل واضح بان لا مجال لتخفيض نفقات الأمن والدفاع، في هذا الواقع ومع رفع الحكومة يدها عن خدمات الصحة والتعليم ودعم السلع الرئيسية من مأكل ومشرب وملبس وسكن ومواصلات.. الخ والتي تشكل معدلات ارتفاع أسعارها الرقم الأعلي من بين جميع السلع والخدمات ومع المعدلات المتصاعدة لأسعار الغذاء وارتفاع معدلات الفقر المدقع كما أشار تقرير البنك الدولي، بهذا الشكل فان العمل بحكمة الصندوق يعني ببساطة "الموت جوعا" لفئات واسعة من السكان.
من المعروف ان معدلات التضخم في السودان مرتفعة جدا مع تراجع القوة الشرائية للجنيه السوداني بشكل مستمر وضعف تنافسية القطاع الخاص، بسبب تكاليف الإنتاج المرتفعة وتدني الإنتاجية. هذه الأسباب كافية لتراجع الدخول خاصة مع حالة "التقشف" المعلنة واستقطاع الدخول الإضافية وضمور المرتبات ومكاسب عناصر الإنتاج كما انها كافية لزيادة معدلات البطالة وسيدفع ذلك بمزيد من المواطنين السودانيين الي الفقر المدقع في بلد ترتفع فيه معدلات الفقر في أفضل الأحوال فوق الستين في المائة.
في ظل هذه الصورة القاتمة لا مخرج للسودان في "امتصاص الصدمة" إلا بالتخلص من بؤر التوتر والحروب والسير في اتجاه التحول الديمقراطي الذي يمكن من انجاز برامج تنموية حقيقية تؤدي الي محاربة الفقر وتوظيف إمكانيات البلاد في زيادة معدلات النمو وتوفير المناخ الضروري له. لا مخرج غير تسوية الملفات العالقة مع الجنوب والقوي السياسية في الشمال، حل مشكلة دارفور وإعادة هيكلة الدولة بتقليص "الأجسام" الإدارية المتضخمة والتخلص من جيوش المسئولين الدستورين في المركز والولايات وإعادة هيكلة نظام الحكم سياسيا وإداريا باعتبار ذلك هو الطريق الوحيد لخفض الإنفاق لمصلحة الإنتاج، البنيات التحتية، الخدمات الاجتماعية ودعم تنافسية القطاع الخاص. هذا هو الطريق الذي لا يمكن فقط من امتصاص الصدمة وإنما يمكن أيضا من تجاوزها وتجنب عواقبها البالغة الخطورة علي مستقبل السودان. إما إتباع وصفات صندوق النقد الدولي فستؤدي حتما الي الموت جوعا وقد يكون الهدف منها أيضا "اغتيال" ما تبقي من السودان.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]