جديرون بالاحترام.. عن طه علي البشير نحكي
فتحنا أعيننا على حب الهلال وغناء أحمد المصطفى. كانت صُور عز الدين الدحيش بشعره المنساب وجلسته الفريدة على الكرة تزيّن جدران منزلنا. ليس الدحيش وحده، لقد كان الهلال آنذاك مرصعاً بالنجوم، بل كله نجوم. كانوا نجوماً حقيقيين فناً وانتماءً ومهارة. كان الهلال ولوداً؛ يلد باستمرار النجوم، فما إن غادره الدحيش وقبله جكسا حتى أطلّ في ساحته مصطفى النقر وحمد والديبة وشيخ إدريس كباشي وحمد كمال وود الجنيد رحمة الله عليه، وغيرهم كثير. خلال تلك الأيام كان الهلال يرفد الساحة الرياضية بالقيادات الإدارية العظيمة. أطلّ طه علي الشبير في سماء الهلال جنباً إلى جنب مع الطيب عبد الله؛ وكنا نرقبه كنجم ليس أقل لمعاناً من الكوكبة الباهرة من لاعبي ذاك الزمان.
مرت الأيام وبدأ نجم طه يصعد، حتى تبوأ منصب رئيس الهلال. لم نكن نعرف من طه إلا تلك الصورة الباسمة التي تزيّن صفحات الصحف وتظهر مع تصريحاته.
مرّت الأيام وقذفت بنا الأقدار في خضم الشراكة الذكية والتقينا طه وجهاً لوجه. كانت إدارة صحيفة الصحافة في ظل الشراكة الذكية بتياراتها المتعددة التي جاءت من ثلاث صحف هي الصحافي الدولي والحرية والصحافة نفسها، أمراً مستحيلاً. من ذكاء تلك الشراكة أنها انتخبت طه علي البشير تاجاً على رأسها؛ ورئيساً لمجلس إدارتها ليجعل المستحيل ممكناً.
كنت رئيساً لتحرير الصحافة في ظل تلك الشراكة، والآن اسمحوا أن أدلي بشهادتي حول طه علي البشير عبر أربع سنوات عملتُ تحت إدارته والصديق هاشم سهل المدير العام.
طه علي البشير رجل أعمال معروف، وله مصالحه الممتدة في أكثر من اتجاه، وكانت الصحافة آنذاك طليقة تكتب عن من تشاء، وتهاجم من تشاء دون أن تخشى، أن يتعارض ذلك مع مصالح طه أو شبكة علاقاته الواسعة. طيلة أربع سنوات لم يتدخل طه ليمنع خبراً أو مقالاً أو تحقيقاً رغم الضغوط التي تنهمر عليه من جهات شتى كل صباح، ولكن لم يشأ أن يتدخل في سياسة التحرير لقناعته المطلقة بحرية الصحافة.
طه علي البشير الذي هو قطب الاتحادي الديمقراطي؛ كانت أقلام كثيرة يمينية ويسارية تخصصت في نقد مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، ورغم ما سبب ذلك لطه من حرج، أشهد الله أنه لم يتدخل يوماً لمنع هذا أو ذاك عن الكتابة.
حين تشتد المواقف ويتطاير شرر الحوار داخل مجلس إدارة الصحافة كان طه يكتب ويسجل في أوراقه حديث الجميع، وما إن تهدأ الأنفاس حتى يخرج علينا طه برأي لا سبيل لمعارضته، ويجد القبول من الجميع، فلم يحدث أن انتهى مجلس دون وفاق في الآراء.. هي تجربة السنين؛ لقد وُهب طه الحكمة، ومن أُعطي الحكمة فقد نال خيراً كثيراً.
ما لم تقترب من طه علي البشير لن تتعرف على معدنه فإذا عرفته كرجل إدارة، فأنت لم تعرفه حقاً، وإذا قلت رجل سياسة فقط، فاتك الكثير، وإذا عرفته محباً وسخياً لشعب الهلال فقد قصرت في إدراك حجم وفائه، وإذا قلت إنه ناشر مميّز وناجح فقط، فأنت لم تنصفه؛ هو كل ذلك، وذلك بعض منه، وفوق ذلك لا تجهل طه الأديب وقارئ الأدب، ولاغرو فهو ابن آداب جامعة الخرطوم، وهو شايقي فنان، أما المال فمن شراكته الأذكى من آل حجار.
اليوم يحزُّ في نفسي أن يغادر طه رئاسة مجلس إدارة الصحافة، لقد كان تاجاً على رأسها، أدار خلافاتها الصعبة بحكنة وكفاءة وسعة أفق، وأنفق من ماله الكثير لإنجاح شراكتها الذكية؛ تلك التجربة التي تطوي أوراقها الآن بعد أن غادرها الجميع. كنت قبل أيام قد نصحت مالك الصحافة الجديد الحاج صديق ودعة ألا يتخلى عن شراكة طه، ولكن يبدو أن اتجاه الريح لا يجري على رغباتنا. كما فقد الهلال طه ودخل في متاهته التي لم يخرج منها حتى الآن، فإن الناشرين خسروا ناشراً جاداً مؤمناً برسالة الصحافة؛ أنفق على الصحافة السودانية وصحفييها في مختلف الصحف الرياضية والسياسية، ولم يستبق شيئاً، ولا طلع منو صحفي مغبون، ولا زعّل زول!!.
سيد طه علي البشير إذ انسدل الستار اليوم على الشراكة الذكية التي أهدتنا تجربة ثرية... نقول إن حكمتك التي أخذنا من فيضها القليل هي جائزتنا الكبرى التي حصدناها عبر واحدة من أذكى التجارب التي خاضتها الصحافة السودانية في تاريخها الحديث... سيعرف قادمون أي أيادٍ بيضاء قدمها لوطنه رجل جدير بالاحترام هو طه علي البشير.. ولا أزيد.