التُرابي وتلفون كوكو!! الأمْنُ مُستتب ولكنَّ القيَمَ مُهدرةٌ

 


 

 


على أيام إجازة قانون الأمن جمعَنا الفريق محمد عطا في اجتماع مشهود ليستعرضَ القانون الذي رفضته المعارضة آنذاك؛ وكان رأيي أنَّ المشكلة الكبرى التي تواجهنا هي أنَّ الناس لم تعد تثق بأنَّ القانون مهما كانت عدالته سيُطبَّق؛ وللناس تخوُّفات من الاستخدام السياسي للقانون، بمعنى أنَّ القانون قد يُصبح أداةً لتصفيَة الخلافات السياسيَّة التي لا علاقة لها بالأمن القومي ولا يحزنون. الآن تصدق الرؤيا!!. فالشيخ الترابي دخل السجن قرابة الألفَيْ يوم (مدة سجنه في عهد تلاميذه) دون أن يقولوا لنا شيئاً أو تفسيراً لاعتقالاته المتكررة. المشكلة ليست في اعتقال الترابي، والإفراج عنه بما يشبه اللعبة المملة، ولكن في الحكومة التي يبدو أنها لا تعرف ماذا تفعل. انفعلت الحكومة بعد المفاصلة فألقت القبضَ عليه ثم هاجت واعتقلته بعد هجمة العدل والمساواة على أم درمان؛ ثم عادت واعتقلته بعد تصريحاته حول الجنائية؛ ثم أخيراً اعتقلته بعد تصريحاته الأخيرة حول الثورة في السودان. في كل هذه الاعتقالات المتتالية لم يقدَّم الترابي لمحكمة بل يبقى حبيس السجن إلى أن تهدأ ثائرة الحكومة فتطلق سراحه وهي في الحالتين لا تقول السبب الحقيقي للقبض عليه أو الإفراج عنه، وفي كلا الحالتين هي لا تعرف ماذا تفعل بنفسها وبنظامها.
الحكومة بأفعالها تلك ترسل رسائل للداخل والخارج شديدة القتامة تكاد تهزأ فيها من كل قيمة ورأي عام.
اعتقال الناس وإطلاق سراحهم بلا تهمة يشي بأن القانون أو الدستور بلا قيمة. فكيف يمكن للناس من بعد أن يحترموا القانون أو الدستور إذا كانت الحكومة التي تحكم باسمه لا تحترمه وتهزأ به في كل حين. قد ترى السلطة في غضباتها من تصريحات الترابي أن ترسل برسالة للآخرين في محاولة لإسكات أصواتهم ولكن الضرر الذي تسببه لصورتها لا يمكن مقارنته بفعلها الذي هو خارج القانون. عندما لا تحترم سلطة ما قوانينها فلا تلومون الناس إذا ما خرجوا عليها. فالبديل لحكم القانون هو الفوضى، فهل يا تُرى هذه هي الرسالة التي ترغب الحكومة في إرسالها للحركة السياسيَّة وجماهير الشعب عامة.؟. لو أن القانون هو السائد لكان الترابي اليوم في المحكمة لأنه يخطط لاغتيالات - بحسب التصريحات السياسيَّة التي خرجتْ من الحزب الحاكم. ولكن يبدو أنَّ المكايدات السياسيَّة المسنودة باللا قانون هي المسئولة عن اعتقاله بلا تُهمة وإطلاق سراحه دون حتى أن يُسأل عن أي شيء على الإطلاق. كيف يأمن الناس على أنفسهم في دولة لا تحترم قوانينها؟.
الرسالة الثانية التي ستصل للشعب هي بإمكانكم أن تخرقوا القانون وتحتالوا عليه فلا تثريب عليكم فنحن ولاة الأمر نفعل ذلك!!
أما الرسالة التي ستصل بسرعة إلى عناوين المجتمع الدولي هي أن الحكومة لا تكترث لما يُعرف بحقوق الإنسان ولا تخضع المتهمين لقوانينها ومتى ما أرادت أنْ تعتقل شخصاً تعتقله بلا قانون وتطلق سراحه بلا استجواب على تهمته!!. ماذا تستفيد الحكومة من تشويه صورتها بالخارج التي هي أصلاً ما ناقصة؟.
انظر للقانون أيضاً في وطننا (الذي كان) في الجنوب ستبدو لك الفوضى الضاربة... امتهان كل شيء له علاقة بالقانون. تعتقل حكومة الجنوب السيد تلفون كوكو وهو أحد قادة أبناء النوبة وأحد الذين أفنوا عمرهم، مقاتلاً في صفوفها لسنوات دون أن تُطلِعَ الرأي العام على التهمة التي تبقيه في دهاليز سجونها. يبدو أن الرأي العام لا يحظى باهتمام السياسيين شمالاً وجنوبا!! حتى أهل كوكو وذويه لا يعلمون عنه شيئا!! هل هذه فعلاً دولة السودان الجديد؟ أين الجدَّةُ هنا؟ ما الجديد في هذه الممارسة القميئة؟. الدولة التي بلا قانون تحمل بذور فشلها في جوفها؛ هي دولة مشوهة لا تستطيع أن تقدِّم وعوداً لإنسانها تجعله يطمئن على مستقبله. صورة دولة الجنوب  ترسمها الآن التمردات والحروب القبلية وإهدار كرامة الإنسان. ستولد الدولة الجديدة في محيط دولة طافحة بالدماء؛ مهدرة لكرامة شعبها، فأيُّ مستقبلٍ يُرجَى لدولة هذه بيئة ميلادها؟.
قد تتفاخر الحكومة شمالاً بأن الأمن مستتب ولكنْ حتماً لن يستتبَّ الأمن طويلاً إذا ما أُهدرت القيم. قد تخدع الحكومة بالجنوب نفسها بشعار جميل ولكنها قريباً ستكتشف أن الشعارات مهما كان بريقها لن تقيم وطناً ولا يمكن أن يُؤسَّس وطنٌ على قيَمٍ منعدمة!!

 

آراء