لماذا نحن شعب فاشل؟

 


 

 


عندما تشرق شمس التاسع من يوليو 2011 في سماء الخرطوم الحزينة، يكون السودان بلدا آخر غير ذاك الذي عرفناه مرتعا للصبا ووطناً أورثنا إياه آباؤنا تاما غير منقوص ... ويسخر منا القدر عندما نكتشف أيضا أنه سودانٌ جديد لكن بمفهوم إثني وعنصري..
ويجسد ذلك التاريخ أيضا قمة فشل الشعب السوداني في الحفاظ على إرثٍ بعمق وعبق قرنين من الزمان...نعم، فشل الشعب السوداني لأنه سمح لمن يحكمونا ومن يتولون تمثيلنا بالعبث بكل شيء... بالأرض والعِرض والمال والقيم والدين...
عقدان من الزمان وعامان قادت إلى هذا الحدث الغريب في تاريخ السودان المعاصر...
عقدان من الزمان وعامان لم نشهد فيها سوى الحروب والدمار والقتل والتشريد والتعذيب وبيوت الأشباح...
عقدان من الزمان وعامان ذهب خلالها ربع مساحة السودان وثلث سكانه في دولة جديدة بتواطؤ دولي وغباء سياسي...
عقدان من الزمان وعامان ونحن نستمع لتلك الترهات التي لا ينطق بها سوى مخبول كالذي سمح بتفتيت القطر دون إحساس بفداحة ما حدث...
عقدان من الزمان وعامان انبتت أرض الإنقاذ السبخة الطيب مصطفى واسحق فضل الله والهندي عزالدين الذين أصبحوا حُداتنا في زمن السودان الرديء، عِوضا عن احمد يوسف هاشم وبشير محمد سعيد وعبد الرحمن مختار ومحجوب عثمان ورحمي سليمان وعزالدين عثمان وعبد الله رجب وحسب الله الحاج يوسف...
عقدان وعامان من الزمان تحكّم في أثنائها على رقابنا نافع ومندور وقطبي وحاج ماجد سوار وعلى كرتي وغيرهم كُثر من الذين مكانهم الطبيعي المصحات العقلية لا مجلس الوزراء أو القصر الجمهوري أو حتى الطريق العام لأنهم يشكلون خطرا على السابلة...
عقدان وعامان من الزمان مات في أثنائها أكثر من مليوني شخص قتلا ومجاعةً وسوء تغذية وسوء إدارة وسوء فَهَم..
عقدان وعامان من الزمان يمثلون ضياع عقدين من التنمية المستدامة وإهدار 70 مليار دولار هي عائدات النفط منذ بدء تسويقه...
جاءونا متسولين باسم الله حتى احكموا انشوطة الدين حول رقاب مجتمع بأكمله وعاثوا فيه فسادا لم تشهده التركية السابقة...
أي شعب هذا الذي يقبل بكل الذي حدث ويحدث للشعب السوداني على زمن الإنقاذ؟
أي شعب هذا الذي يستكين ويمتثل لقادة ليس لديهم بوصلة للحكم؟
هل الخلل في الشعب السوداني أم في الذين يحكمونه؟
توقفنا زمنا طويلا وباستحسان شديد عند عبارة الطيب صالح الخالدة من أين أتى هؤلاء؟
قبِلْنا استنكارية السؤال وجفلنا عن موضوعية الإجابة عليه، آلا وهي أنهم جاءوا من رحم حواء السودانية التي أنجبت العلماء والجهلة، الشجعان والجبناء، الرجال الأسوياء والمخانيث، النساء العفيفات والشَكَشْ، القتلة والأبرياء، العاقلين والبلهاء، المتدينين والمتاجرين بالدين في سوق الله اكبر وسوق المواسير...
أنجبت حواء السودانية كل هؤلاء بنسب متفاوتة كثُر فيها الصالحون وساد فيها الطالحون رغم قِلَّتهم...
كانت البطن بطرانه وكانت تلك مشيئة الله لا نتحكم فيها ولم نكن ندري مآلاتهم عندما كانوا أطفالا صغارا...
غير أن السؤال الحائر هو، كيف سمحنا للصوص وشذاذ الآفاق والقتلة والسُرّاق وآكلي السًحت والمال الحرام أن يحكمونا باسم الله على مدى 22 عاما ويقودون السودان إلى هذا الأمر الماحق؟
وهو سؤال يستدعي آخر موازٍ له، كيف سمحنا لقيادات الأحزاب السياسية الحالية أي كان مسماها ومحتدها ونسبها ومبتغاها أن تكون وسيلتنا للحكم أو لإزالة هذا الحكم؟
فبقدر فشل الإنقاذ في قيادة البلاد طيلة العقدين وعامين من الزمان يستوي معه ويعادله فشل قيادات الأحزاب السياسية في إصلاح هذا الفشل رغم الإمكانات العالية التي تتوفر لديها للقيام بذلك...
الفشل إذن ليس في الإنقاذ وحدها أو الأحزاب التي تدعي معارضتها، الفشل فينا نحن الشعب السوداني الذي يكتوي بنار الإنقاذ وهوان الأحزاب المعارِضة لها ولا ينقذ نفسه منها...
تمر على شوارع الخرطوم في نهارها الصيفي البئيس، فتشعر بأنك في جحيم دانتي المتَخَيّل...
طفت العالم شرقا وغربا، لم أرى وجوها كالحة كالتي شاهدتها في شوارع الخرطوم في شهر يونيو المنصرم...أناسٌ كأنهم بعثوا من قبور منسية في صحراء الربع الخالي من شدة الإعياء والبؤس المقيم على الوجوه...تبكي حالهم دون أن تكون لك سابق معرفة بهم...تركوا الدنيا ومتاعها ومُتعها للبشير وصحبه والتجأوا للغيب ليحل لهم مشاكلهم الحياتية...القوا عقولهم وقدراتهم الذهنية وقراراتهم وظلوا في انتظار فرج يأتيهم من السماء...لذا انتعش الدجل وراجت الشعوذة لأن القوم جيّروا كل مشاكلهم الحياتية اليومية لموضع جرّتهم إليه الإنقاذ في خبث غريب عندما أقنعتهم بأن الإسلام هو الحل...فاعتقد كثيرون منهم أن مجرد ترددهم على المساجد سيزيح عن كاهلهم كل الهموم والضنك وسينُزل عليهم مائدة من السماء، ثم يرجع أحدهم إلى بيته ليجد أن المنزل ليس به ما يُطعم الطفل أو يشفي المريض أو يواسي الضعيف...وصنبور المياه يشخر هواءً والجمرة الخبيثة لم يُعد لها بريق...وليكتشف فوق ذلك أن الأموال التي يتمتع بها الحكام والمتنفذون والموالون والآكلون على كل الموائد ليس لها علاقة بالمسجد، إنما هي لعبة ملوص وخدعة تلات ورقات...وأن الذين تمتلئ جيوبهم وتنتفخ أوداجهم جاءوا بتلك الفلوس من أمكنةٍٍ لا علاقة لها بتقوى الله...
علماء الحيض والنفاس الذين يتصدون لكل شيء هذه الأيام بما في ذلك تكفير كبيرهم الذي علمهم السحر، لم يفتح الله عليهم بكلمة حق في وجه سلطان فاسد أو لص آبق...يختارون من آيات الله ما يخدم أغراضهم وأغراض الذين جعلوا منهم علماء، وينسون أن بين دفتي المصحف الشريف سورة تُسمى قريش، أمر الله فيها الناس بعبادته بعد أن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف...
أية دولة لا تطعم أهلها أو تؤمنهم من خوف لا سلطان لها على أحد...
"أعجب لرجل لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهرا سيفه ليأخذ حقه"...
هذا ما قاله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في زمان خلافة سيدنا عثمان الراشدة، يوم كان الناس أقرب إلى الصلاح مما هم عليه اليوم...فما بال القوم يتقاعسون عن رفع سيوفهم في وجه البشير وعلى عثمان ونافع؟...فإن لم يستطيعوا فعليهم على الأقل، الامتناع عن الصلاة خلف هؤلاء الأئمة الكَذَبة المرتشين الراتعين في الضلال وأموال الزكاة دون أن يكونوا من العاملين عليها...
ورغم كل ذلك نستغرب كيف استمر هؤلاء القوم في الحكم على مدى عقدين وعامين من الزمان!
لن أستثني نفسي وغيري من أصحاب الرأي من اللوم، فماذا فعلنا سوى كتابة المقالات التي ما قتلت ذبابة؟ وقد عرف نظام الإنقاذ كيف يتعامل معنا بطريقة "الجمل ماشي"... تركنا نقول ما نشاء طالما أن ذلك القول لن يهز عرشه ولن يحرك شعرة في رأس الشارع السوداني المستكين لقدره...إذن لا بد من الإجابة على السؤال لماذا نحن شعب فاشل؟ وقتها ربما وجدنا طريقا لحل مشكلة الحكم في السودان...
لقد أتت سياسة الإفقار التي اتبعتها الإنقاذ أُكلها فأصبح كثيرون من المثقفين لا يملكون ترف اللقاء والاجتماع والتنظيم لذا قد لا يلوم المرء القاعدين من مثقفي السودان بسبب محدودية إمكاناتهم واختلاف ظروفهم عن تلك التي أتاحت لهم تفجير ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985...لكن ما بال الذين يعيشون خارج السودان مع المتاح لهم من إمكانيات الحرية والحركة والتواصل يتقاعسون عن القيام بواجبهم كمثقفين من أجل رفع المعاناة عن كاهل أهلهم؟ هل هي الأنانية وحب الذات والتطلع إلى السلطة أم هو الكسل الذهني الذي يتمتع به مثقفو السودان؟
قيل إن إعرابي أدعى النبوة على زمن الخليفة المهدي العباسي فأعتقله الجند وساقوه إلى المهدي، فسأله أأنت نبي؟ قال الإعرابي بلى...قال المهدي: لمن بُعثت؟ قال: أو تركتموني أُبعث لأحد؟ بُعثت في الصباح واعتقلتموني في المساء...
حال هذا الإعرابي كحال علي محمود حسنين وجبهته الوطنية العريضة وكافة التجمعات السياسية التي ينشئها مثقفو السودان بالخارج...
الجبهة العريضة أُعلنت نهارا في لندن ليختلف القوم حولها ويقبرونها في ذات المساء ثم يتفرقوا بعدها أيدي سبأ، رغم أنها كانت أملا تشبث به البعض كنجم ثاقب في حِلكة ليل السودان البهيم...
ما الذي يجعل أقواما يختلفون حول شيء لم يستوي بعد، وكأني بهم يريدون اقتسام لحم الثور قبل ذبحه...هل هذه عقلية يمكن أن تطيح بنظام تجذر على مدى 22 عاما؟ أليس بالسودان رجل رشيد يتجاوز بعقله الصغائر لينفذ إلى باطن الأمر الذي هو الإطاحة بهذا النظام الفاسد؟ ألا ينبغي تأجيل السؤال عن من وكيف يُحكم السودان والتركيز على كيف يُزاح هذا الكابوس الجاثم على صدر الأمة...هل كان لدى التونسيين برنامج عمل لما بعد زين العابدين بن علي عندما خرجوا إلى الشوارع؟
وهل كان لدى المصريين تصور عن كيفية حكم مصر عندما أطاحوا بحسني مبارك؟
نعم هناك تخوف من عودة نفس الوجوه التي تسببت في مجيء الإنقاذ في 1989، غير أن هناك أيضا قواعد أحزاب وتجمعات جهوية وحَمَلَة سلاح يستطيعون تولي الأمر إذا ما تم تجميعهم بهدف واحد هو إزاحة هذا النظام...
ليس من نافل القول التأكيد على أن النظام يستند على عقيدة أمنية ترتكز على أربع قواعد أساسية:
1- زعامة الأحزاب المسماة كبرى لن تجرؤ على تحدي النظام ومحاولة اقتلاعه لأسباب كثيرة، منها جبنهم من المواجهة وتوليهم يوم الزحف، وما ظلوا يتلقونه من أعطيات الحزب الحاكم كلما ضاقت بهم الحال، وقد ثبت بالدليل العملي تخذيلهم لمشروعات الانتفاضة التي يقوم بها الشباب من وقت لآخر.
2- كلام المثقفين في الصحف والمجال الاسفيري لا يسقط النظام طالما هو كلام والسلام.
3- الحركات المسلحة طرفية ومنشطرة على نفسها ولن تجتمع إلى كلمة سواء طالما كل واحد من زعمائها يحلم بأن يكون على رأس السلطة وليس بما الذي يفعله بالسلطة.
4- الجيش منشغل بالحرب مع الحركات المسلحة وسيكتفي قادته بما يأتيهم من مخصصات وبدل استعداد وزيادة في الرواتب، لذا لن يفكروا في التمرد على السلطة التي هم جزء من تيارها العقدي العام...
بهذا العقيدة الأمنية يبدو النظام مطمئنا لثباته وعدم تعرضه لمخاطر من الجهات التي ذكرت...
لكن، هل هذا كل ما لدى الشعب السوداني من وسائل للتغيير؟
يقول جاك غولدستون الأستاذ بمدرسة السياسة العامة جامعة جورج ماسون في سياق تعليقه على ما حدث في تونس ومصر، إن هناك عوامل لا بد من توافرها مجتمعة لنجاح الانتفاضة على النظم الديكتاتورية:
أولها أن يكون النظام جائر وغير كفؤ لدرجة لا يمكن أصلاحه بحيث يصبح وجوده مهددا لمستقبل البلاد...
ثانيا: ابتعاد النخب عن الحكم وبخاصة النخبة العسكرية التي تصبح غير راغبة في الدفاع عنه أو حمايته...
ثالثا: تعبئة وحشد قطاعات كبيرة من المجتمع تضم فئات عرقية ودينية وتجمعات اقتصادية إلى جانب النقابات المهنية وممثلي المجتمع المدني...
رابعا: أن يمتنع المجتمع الدولي عن التدخل لحماية النظام أو منعه من استعمال القوة المفرطة للدفاع عن نفسه...
بعض من هذه العوامل يتوفر حاليا في السودان والبعض الآخر ينبغي العمل على توفيره...
أول هذه العوامل إن نظام الإنقاذ وصل مرحلة من سوء إدارة للبلاد لم يهدد مستقبلها فحسب بل سمح بانفصال جزء منها وفي طريقه إلى تفتيت ما تبقى بحيث لن يكون من السودان القديم سوى ولايات الجزيرة والخرطوم ونهر النيل...وولغ في الفساد والمحسوبية بدرجة أفقرت شرائح كبيرة من المجتمع يمكن بمجهود بسيط حشدها للتمرد على النظام إذا وجدت من ينظمها ويكسر حاجز الخوف لديها، فهي في نهاية المطاف لن تخسر شيئا سوى بؤسها ومعاناتها...
ثاني هذه العوامل هو وجود حركات مسلحة طرفية، هناك حاجه لإقناع قادتها بقومية المسألة وشموليتها وإبعادها عن التجزئة وطرفنة النضال...تجربة شماليي الحركة الشعبية لم تكن مشجعة لأبناء شمال السودان...
ثالثا: مع عدم احتمال تخلي النخبة العسكرية عن النظام إلا أن الرتب العسكرية الدنيا ينالها ما ينال الشعب السوداني من المعاناة وتصطلي بنار المعارك الطرفية التي يديرها النظام دفاعا عن سلطته وبينها أعداد كبيرة تنتمي لأطراف السودان التي تشن الحكومة الحرب عليها...
رابعا: هناك شرائح نخبوية مدنية كبيرة على استعداد للعمل على إسقاط النظام بما في ذلك مكون أساسي سابق للحكم هو المؤتمر الشعبي الذي لم تُحسن المعارضة الاستفادة من إمكاناته منذ أن ترك السلطة...
إذن ما الذي يمنع تجميع هذه الشرائح سوى فشل النخب السودانية في العمل السياسي الخلاق والمبدع في تحشيد وقيادة الجماهير؟
عندما يكون الهدف واضحا ما الذي يحدُّ من الوصول إليه سوى قلة الخيال السياسي؟...
هل عرفتم لماذا نحن شعب فاشل أم يجب الانتظار حتى يذهب البشير ليشارك في احتفال استقلال دارفور؟
أخيرا ورغم كل شيء، هنيئا لإخوتنا في الجنوب بحريّتهم أيا كان مآلها وكيف كان مصيرها، فلن يفتقدوا شيئا سوى تلك الوجوه الكالحة الكاذبة المكفهرة التي تطالعنا في التلفاز كل يوم، ولن يخسروا شيءً سوى دونية المعاملة...


محمد موسى جبارة

9 يوليو 2011
MOHAMED MUSA GUBARA [mmusa25@hotmail.com]
\\\\\\\\\\\\\\\\

 

آراء