قناعات نظام الإنقاذ التي لا يغيرها الزمن .. بقلم : د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
22 August, 2011

 


قال الله تعالى في سورة القصص : ( إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ) صدق الله العظيم .
و أنا في إجازتي السنوية , كنت قد أزمعت أن أنوء بنفسي عن الشان العام إلى الشأن الخاص , خاصة عند حلول شهر رمضان الفضيل . لكن مجريات الأحداث في الوطن تجبر الشخص منا أن ينقض ما توافق عليه مع نفسه , و أخشى أن يكون ذلك مدخلا إلى خصلة نقض العهد حمانا الله منها حتى لا أكتب عند الله كذابا , و في خاطري آيات عدة تحذر من نقض العهود و تنذر من ذلك .
لنبدأ بالندوة أو الليلة السياسية التي أقامتها السفارة السودانية في لندن في يوم الأربعاء 6 يوليو 2011 و تحدث فيها كل من الدكتور نافع علي نافع و الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل . لقد رشح الكثير عما دار في تلك الندوة التي تزامنت مع وصولي إلى مدينة الضباب لندن في إجازتي الصيفية , و بذلك قد تمكنت من الإلمام بكل ما حدث فيها من الألف إلى الياء , أو كما يقول إخوتنا في شمال الوادي ( من طقطق و إلى السلام عليكم ) و ( الطق ) هنا أقسم أنه قد جاء عفويا ! لقد كان طبيعيا أن يتطرق الإخوة الصحفيون في بلاد الحرية و الديموقراطية إلى الأسئلة الحرجة أو الأكثر سخونة , لكن لم يكن طبيعيا أن يكون رد الرجل الثاني في الحزب الحاكم في السودان بتلك الطريقة التهديدية التوعيدية المباشرة و الخالية من أية تورية أو ترميز , و التي من فرط إستفزازها للسائلين كانت نتيجتها أن إنهالت المساند و المقاعد على الدكتور الضيف و من ثم على الحضور بعد تدخل رجال أمن السفارة .
لقد قال الدكتور نافع في رده على أسئلة الصحفيين عن ضلوعه في التعذيب في بيوت الأشباح و تعذيبه للدكتور فاروق محمد إبراهيم و قتله للدكتور علي فضل و مشاركته في إعدام شهداء رمضان , قال – و حديثه موثق - : ( أننا لم نمنع أحدا أن يقتلنا , و من يسير في طريق 28 رمضان حنقتله , و الطريق مفتوح أي زول يجرب , و الداير يشيلها بالقوة نحن بنقتله و تاني بنقتله ) ! كانت النتيجة أن أصيب الدكتور نافع بجرح في حاجبه و تدخلت الشرطة البريطانية و فكت الإشتباك .
الحقيقة التي لا بد أن أذكرها أن الضباط شهداء رمضان كانوا يتبعون للتجمع الوطني الديموقراطي المعارض و خلال إنقلابهم إستطاعوا أن يحتلوا مواقع عدة لكنهم لم يعطوا أهمية لأجهزة الإتصال المحمولة بل إعتمدوا على الإذاعة التي لم يصلوها لسؤ حظهم , و انهم قد إستسلموا بناء على وساطات ووعود و عهود كان يقوم بها المشير عبد الرحمن سوار الذهب و أحد أقرباء الضابط حسين الكدرو قائد الإنقلاب , و رغم ذلك تم إعدامهم في ليلة الوقفة قبيل عيد الفطر في رمضان – أبريل 1990 ! و نحن الان في العشر الأواخر من رمضان نرفع اكفنا لله و نترحم عليهم و نرجوه أن ينزلهم مع الصديقين و الشهداء و يلهم ذويهم المكلومين الصبر الجميل و يبرد حشاهم , آمين .
إن أحداث السفارة السودانية في لندن كانت متناقضة مع أدب الحوار , و الأكثر خطورة أنها كانت معبرة عن قناعة الإنقاذيين التي لا تتزحزح , أنهم أتوا بالقوة و لا بد أن يزيحوا الآخرين بالقوة , حتى يستمروا في الحكم ..
نأتي إلى مذكرات الدكتور فاروق محمد إبراهيم و الحوار الصحفي الذي اجراه معه الدكتور بشرى الفاضل في الأيام الماضية . لقد سرد دكتور فاروق وصفا يقطّع نياط القلب و ( يكلّب ) شعر الجلد  عما عاناه من تعذيب في أحد بيوت الأشباح في نهاية العام 1989 و بداية 1990 و ممن ؟ ممن كان تلميذه في جامعة الخرطوم  و هو الدكتور نافع علي نافع ! لقد تعرض هو و من معه من المعتقلين إلى كل أصناف التعذيب النفسي و الجسدي من زبانية أمن النظام الذين عللوا ما يفعلونه بأنه عمل للإحتياطات الكفيلة بحماية النظام لأنهم يواجهون معارضة و حربا أهلية !
هذا التوجه القمعي و التعذيبي الذي جاء ذكره يفهم منه أنه توجه مرحلي شأنه شأن كل الأنظمة الشمولية في بداياتها حتى توطد حكمها و يدان لها بالولاء . لكن ما اتى على لسان الدكتور نافع في ندوة السفارة السودانية في لندن المذكورة آنفا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن توجه الإنقاذيين القمعي في بداياتهم قد صار قناعة أزلية لديهم ! هذا الإستنتاج جد خطير و ينسف كل مساعي نظام الإنقاذ في تجميل وجهه ببعض مساحيق الحريات العامة و التحولات الديموقراطية , و التي تفاءل الناس فيها خيرا , خاصة بعد أن تم فرضها كبنود في إتفاقية سلام نيفاشا , و كان حري بها أن تقود إلى تغيير أسلوب الحكم في السودان من الحكم الشمولي إلى الحكم الديموقراطي كما حدث في بلاد أخرى . لكن ما حدث عندنا أنه تم تناولها بغير جدية من الحزب الحاكم و تم الإلتفاف عليها بأساليب الغدر و التزوير , و الآن و بعد إنفصال جنوب السودان ترتفع أصوات الإنقاذيين مطالبة بالتخلص من كل تبعات إتفاقية نيفاشا من الدستور الدائم المرتقب , حتى يستمر التشبث بالسلطة كما كان و تستمر ( الكنكشة ) !
لقد بدأت ملامح الجمهورية الثانية تظهر في الأفق , و هي ملامح إرتدادية لا تنذر بخير . بعد إنفصال الجنوب بدأ التنكر للتنوع الإثني و الثيوقراطي و الثقافي في ما تبقى من السودان ( حديث الرئيس البشير في القضارف ) , و بدأ الحديث عن تطبيق العقوبات الحدية و ترهيب المواطنين بالحديث عن السيف البتار ( حديث النائب علي عثمان في لقاء جماهيري ) . ترى , ما القصد من وراء ذلك ؟ لقد خلق إنفصال جنوب السودان نوعا من الغلاء الفاحش الذي ضرب بأطنابه في كل مناحي الحياة , و كان لا بد من إسكات تذمر الجماهير من هذا الغلاء و من الحسرة على ضياع جنوب السودان , كما و أن إنتشار الحرب في جنوب كردفان قد خلق جنوبا جديدا مشتعلا و متوقعا له أن يستشري إلى جنوب النيل الأزرق و إلى جنوب دارفور , بحكم العمليات التنسيقية بين الحركة الشعبية قطاع الشمال و الحركات الدارفورية المسلحة . إن ما يحدث الآن في جنوب كردفان هو عبارة عن ناقوس خطر ينذر الإنقاذيين بأن التنوع العرقي و الثيوقراطي و الثقافي لا زال قائما في السودان , و أن لا حل سوى في دولة المواطنة .
إن نظام الإنقاذ لا يختلف في تركيبته عن الأنظمة الشمولية الشبيهة , التي وصلت إلى السلطة عن طريق الإنقلابات العسكرية و لم تتغير لتصبح ديموقراطية يتم فيها تداول السلطة عن طريق الإنتخابات الحرة و النزيهة و الشفافة . لقد بدأت هذه الأنظمة الشمولية الشبيهة في الدول العربية تتساقط واحدة بعد أخرى تحت معاول الإنتفاضات الشعبية , فقد ذهب بن علي و ذهب مبارك و الآن يذهب القذافي و غدا يذهب علي صالح و الأسد و ...
أخيرا , ألم يأن لرؤساء الأحزاب الذين آمنوا بالديموقراطية أن تخشع قلوبهم لمصالح الشعب و الوطن و ان يتركوا مصالحهم الخاصة مع هذا النظام ؟
omar baday [ombaday@yahoo.com]

 

آراء