حرب المناطق المأهولة
د. حسن بشير
6 September, 2011
6 September, 2011
من الواضح ان انفصال جنوب السودان الي دولة مستقلة كان وبالا علي الشعب السوداني الذي لم يجني ثمار الانفصال سلاما او استقرارا. العكس هو الصحيح فبمجرد ما لاحت بوادر الانفصال اشتعلت مختلف انواع الحروب بداية بالحرب الاقتصادية المعلنة والمستترة بين الشمال والجنوب في البلاد التي كانت حتي الامس القريب وطنا واحدا. كانت نتائج الحرب الاقتصادية مدمرة، اذ ارتفعت تكاليف المعيشة واخذ التضخم اتجاها تصاعديا معاكسا لقيمة الجنيه الاخذة في الهبوط. النتيجة تدهور مريع في مستوي المعيشة مصحوبا بتكاليف اقتصادية باهضة مثل تكاليف تغيير نمط الجنيه السوداني في الشمال وطباعة عملة جديدة في الجنوب. في نفس الوقت فان حجب وصول السلع من الشمال الي الجنوب وتكاليف حركة المواطنين شمالا وجنوبا كل الي وطنه (الجديد) المغاير لمكان اقامته وممارسة نشاطه الحياتي اضافة لتسريح اعداد كبيرة من العاملين في مختلف المجالات وتسديد استحقاقاتهم كليا او جزئيا، كل ذلك اضاف تكاليف ادت الي زيادة تأزم الموقف الاقتصادي والضغط المتزايد علي المستوي المعيشي للغالبية المطلقة من الشعب السوداني. الكثير من تلك التكاليف كان من الممكن تجنبه اذا احتكم طرفا نيفاشا الي صوت العقل وعمدا الي تسوية الملفات العالقة بينهما بما يصون المصالح العامة، الا ان الطريق الذي سلكاه وصم اذانهم عن الاصوات الداعية لتوسيع المشاركة وتنفيذ اتفاقيات السلام الشامل بجميع مستحقاتها كان من الحتمي ان يقود الي ما آلت اليه الاحوال الي ان وصلت الي اهوال ما يمكن تسميته ب(حرب المناطق المأهولة).
لقد سبق ان نبهنا، كما الكثير غيرنا الي المصير الذي يؤدي اليه واقع تنفيذ اتفاقيات السلام بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في مقال لنا بتاريخ (25 يناير 2011م، متوفر علي موقعي سودانايل وسودانيزاون لاين دوت كوم، كذلك تم نشره في تواريخ متقاربة بصحيفتي الايام والميدان، بعنوان ضعف المعارضة في المركز يقطع اطراف البلاد ) ، جاء في ذلك المقال علي سبيل المثال : "... هذا الواقع يعمق من انزواء الاطراف نحو الجهوية وربما شكل قطاع الشمال في الحركة الشعبية استثناءا كبيرا عن تلك القاعدة بتوجهه المعلن والمنظم نحو الهامش. جاءت اتفاقيات نيفاشا لتمكن من سطوة الحركة الشعبية في اطراف السودان الشمالي خاصة جنوب كردفان والنيل الازرق. هذا الامر يعتبر سلاح ذو حدين، فهو من جانب يوفر منبرا نظاميا حديثا للهامش ليعبر عن برامجه وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن جانب اخر يكرس الي تنامي النزاعات (النضالية) العنيفة المعتمدة علي القوة العسكرية لأكتساب الحقوق، ذلك بحكم الخلفية الثورية للتنظيم ولضعف استقطاب المركز لتلبية متطلبات الاطراف، وتكمن الخطورة في ان مثل هذا التوجه غالبا ما ينتهي بمطالب انفصالية كما بدأ يأخذ شكلا اكثر وضوحا بعد حالة جنوب السودان...".
هكذا يتم الوصول عبر اي قرأة متمعنة للواقع السوداني عند انتهاء الفترة الانتقالية. بذلك وصل الامر الي درجة من التأزم قادت الي حالة الحرب الراهنة في جنوب كردفان وولاية النيل الازرق لتتم اضافتهما الي ابيي وهي المناطق الثلاث المنصوص عليها في اتفاقيات السلام الشامل. الحرب الان مختلفة نوعيا عن الحروب السابقة في السودان، اذ وصلت الي مناطق ماهولة بالسكان كانت تشهد استقرار شبه تام طوال سنوات الحرب الممتدة في جنوب السودان سابقا ولحد كبير في الشرق ودارفور. صحيح ان الحرب الاهلية مدمرة ومكلفة جدا في جميع الاحوال، كما صحيح ايضا ان الحرب الاهلية سابقا وفي جميع المناطق قد وصلت في مناوشات واضطرابات داخل المدن في الجنوب او دارفور وصولا الي حالة ام درمان،الا ان جميع تلك الحالات كانت محدودة وفي ظرف استراتيجي مختلف، اما الوضع كان مختلفا عما حدث في كادقلي والدمازين. المدينتين الاخيرتين لم تشهدا محنة مماثلة من قبل اضافة الي ارتباطهما بالنسيج الاقتصادي والاجتماعي علي المستوي القومي. يتوفر في كل من المدينتين نشاط اقتصادي منتظم يضمن استقرار السكان وممارسة حياتهم الطبيعية حسب ما قسم الله لهم من رزق ومصير في الحياة كان الناس بها قانعون.
حروب المناطق المأهولة بالسكان، المستقرة، التي لم تعرف الحروب من قبل لها اثار كارثية بعواقب وخيمة اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا اضافة الي تأثيرها المباشر والسريع علي النظم السياسية اي كان نوعها او متانتها. تاريخ الحروب يتحدث عن ذلك بوضوح سواء كان في الحربين العالميتين او حديثا في العراق وافغانستان واخيرا في ليبيا. تجدر ملاحظة ان السودان لا تتوفر لديه قدرات اقتصادية او بنيات تحتية مماثلة للعراق وليبيا تشكل ضمانة في المحافظة عليها لاستغلالها اقتصاديا في اعادة البناء بعد الحرب ولا توجد لديه موانع طبيعية كما توفرها تضاريس افغانستان، هو، بذلك معرض الي اهوال ودمار اكبر في حالة – لا قدر الله – اتساع رقاع الحرب في المناطق المأهولة. يجب ان نتذكر في هذا الاطار ما حدث لليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تم تدمير هيروشيما ونكازاكي بالقنابل النووية الامر الذي ما زالت تداعياته مستمرة حتي اليوم. تجدر ايضا ملاحظة اثار انفصال الجنوب والحروب الجديدة علي الاقتصاد السوداني الذي يشهد تدهورا وركودا خطيرين لدرجة ادت الي انعدام الكثير من اصناف السلع الضرورية من الخضروات ولحد كبير السكر والان (اللبن) الذي انعدم تقريبا بعد العيد في الاسواق، كما قفزت اسعار سلع مهمة اخري مثل اللحوم والفواكه الي مستويات تقترب من اسعار الذهب. ما بالكم اذا ساء الحال اكثر مما هو عليه كما يتوقع البعض؟
في هذا الوضع يتحمل كل من طرفي نيفاشا مسئولية ما يجري، اما المسئولية الكبري فتقع علي عاتق المؤتمر الوطني بحكم انه ، اولا: هو الذي وقع اتفاقية السلام الشامل بشكل منفرد مع الحركة الشعبية وقاسمها الحكم والمسئوليات التي ادت الي انفصال الجنوب بتبعاته المتلاحقة؛ ثانيا: كونه الطرف الاقوي والاكثر نفوذا مقارنة بالحركة الشعبية التي انزوت نحو الجنوب والهامش عندما لم تجد ما كانت تريده في مركز الحكم؛ ثالثا: ان حزب المؤتمر الوطني هو الحاكم الفعلي الوحيد المسيطر علي ما تبقي من شمال السودان وهو الذي يخوض الحرب ضد جميع الحركات المسلحة التي رأت في الحرب طريقا لها في تحقيق اهدافها.
اتفق مع الكثيرين الذي رأوي ان لا اهمية لمن بدأ الحرب؟ انما الاهمية في السيطرة عليها والخروج منها لان في ذلك المخرج الوحيد للسودان من ازماته وضمان امنه واستقراره ووحدة اراضيه المتبقية بعد انفصال الجنوب. لست من دعاة الحرب وفي هذا يختلف معي الكثيرون، لكن هي قناعتي ولن اغيرها لاحد، اما الحرب في السودان علي وجه الخصوص فلن تؤدي الي حل مشاكل السودان شديدة التعقيد. حتي في حالة انتصار اي طرف او اطراف عن طريق البندقية والصواريخ فسيتبقي جزء اخر مهزوم لن يرضي بما آلت اليه نتيجة الحرب مما يهدد بتجددها مرة اخري، وهكذا سيكون الامر الي ان يصل الي الحالة الصومالية او في احسن الاحوال (رغم سؤها) كما في يوغسلافيا السابقة.
من هنا فعلي المؤتمر الوطني البحث عن مخرج من ما وصلت اليه الامور (ما استطاع الي ذلك سبيلا)، وهذا السبيل معروف لا داعي لتكراره الاف المرات الا ان معالمه هي المضي في التحول الديمقراطي بجميع مستحقاته السياسية، القانونية ، الاقتصادي والاجتماعية، من ضمن ذلك فتح المجال لمشاركة واسعة وحقيقية لجميع مكونات المجتمع واشاعة الحريات العامة مع الاستماع للمطالب الملحة لايجاد حل عملي للضائقة المعيشية الخ... اذا لم يحدث ذلك وباسرع وقت ممكن واذا استمر خداع النفس في القدرة علي السيطرة علي جميع التحديات الداخلية والخارجية بشكل منفرد، فان كل من لديه خيار سيشرع ابوابه علي مصارعها وسيوقد ذلك، بلا مناص الي تفكك ما تبقي من وطن، هل هذا مصير يرضي احد؟ كل الحروب قد علمت الناس درسا مهما هو انها مهما طالت فلابد من الجلوس الي طاولة حوار ما لحسمها، وهو ما يجب الاحتكام اليه مبكرا والتعلم من اخطاء الاخرين افضل من الاغبياء الذين يتعلمون من اخطائهم حتي ولو كانت متكررة.
hassan bashier <drhassan851@hotmail.com>