الولاية والمخرج من الغلاء
عادل الباز
21 September, 2011
21 September, 2011
21/9/2011م
بالأمس حين وصلت لقاعة المؤتمر الصحفي بولاية الخرطوم كنت في غاية التوتر. فالاجتماع العاجل الذي دعا إليه الوالي عبد الرحمن الخضر والقرارات التي أشيع أنه سيعلنها لم تكن تشي بخير فخفت أن تستمر الحكومة في غيها وترتكب حماقات لا يمكن تصورها.... ضررها أكثر من نفعها. مارست الحكومة إدارة الاقتصاد بطرائق إدارية فأغلقت وأعدمت وصادرت وسجنت ولكن الاقتصاد لم يتعافَ إلا حين فهمت أن السوق تعمل بطلاقة بآلياتها وليس من خلال قمع موظفي الحكومة للتجار والمنتجين والمصدرين والموردين وتخوينهم. الحكومات تتدخل دائما في الاقتصاد بالسياسات وليس بالقرارات الإدارية.
بالأمس كان الخضر موفق تماما في إدارة المعركة لأنه انتحى المنحى الصحيح في معالجة الغلاء. حيث بدا بتشخيص جذور الأزمة ومسبباتها من غلاء عالمي لشح النقد الأجنبي وغلاء مدخلات الإنتاج لأسباب طبيعية وخلافها رغم اعتقادي بأن جذور الأزمة والغلاء تمتد لأبعد من ذلك إلا أن هذه الأسباب العاجلة التي قدرت الولاية معالجتها بسياسات اقتصادية تعتمد على التوجه للإنتاج هي الخيار الصحيح تماما وليس من خيار سواه. فالتوجه لدعم المنتجين وعونهم برفع الجبايات المتنوعة التي طالما أرقتهم وكسرت مجاديف إنتاجهم خطوة صحيحة. ثم المضي قدما في تشجيع ثقافة الإنتاج عبر دعم مشاريع الخريجين وتخفيض رسوم استيراد الأعلاف. ثم الاتجاه للمشاريع الإنتاجية التي يمكن أن تسد حاجة الولاية من اللحوم البيضاء والحمراء ومن الألبان, وإنشاء مئات البيوت المحمية والتي أعطت نتائج باهرة كما شهدناها في تجربة معتز البرير وآخرين. أفضل ما فعلته الولاية هنا أنها دفعت بالمستثمرين السودانيين ليلجوا مجال الإنتاح الزراعي الذي طالما ازوروا عنه مفضلين أنشطة هامشية وطفيلية بغرض تحقيق أرباح سريعة معدومة البركة.
إن أفضل ما أعلنته الولاية من سياسات هي تلك المتجهة لإنهاء العذاب الذي سببته الجبايات المتنوعة فزادت المواطنيين والمنتجين رهقا على رهق. تكوين إدارة عامة موحدة للتحصيل بغرض وضع سياسات موحدة لرسومه العشوائية بالإلغاء أو التخفيض ثم مراجعة شاملة للضرائب المرتبطة بالإنتاج هي أهم من ما أعلنته الولاية أمس. لو أن هذه السياسات الراشدة وجدت طريقها للتطبيق فإن كثيرا من الطاقات المعطلة ستتفجر وتسلك قنوات الإنتاج التي طالما أغلقتها طفيليات الجبايات وثبطت همتها الضرائب. ما يلفت تدابير الوالي بالأمس هو تناغم الحكومة الاتحادية برئاسة النائب الأول مع خطط وبرامج ولاية الخرطوم. فالموافقة على توفير مبلغ ستة ملايين يورو لتمويل تقاوي البطاطس ورصد مبالغ أخرى لسد الاحتياجات في سلع أخرى خطوة محفزة لإنجاح السياسات التي سينعكس أثرها على السودان كله.
التحدي أمام الولاية يكمن في ابتداع أساليب ناجعة لإنفاذ سياستها. فكم من سياسة رائعة هزمتها وقعدت بها طرائق إدارة عقيمة وذوو همة متدنية. وأرى أن الاتجاه لإنشاء وزارة للاقتصاد قائمة بذاتها فكرة جيدة يمكن أن تسهم في ابتداع أساليب جديدة ومراقبة تنفيذ السياسات ومعالجة أخطاءالتطبيق ثم خلق ديمومة للمعالجات التي تنشئها الأزمات الطارئة.
الاستفادة من الجمعيات الاستهلاكية و التعاونية والأسواق المركزية التي ستتعامل معها الولاية في السلع الاثنتي عشر لتثبيت الأسعار يمكن أن تكون فكرة جيدة موقتاً، ولكن حذاري من الركون إليها على المدى الطويل فهي ليست الحل إذ لا يمكن أن تساهم هذه الأسواق والجمعيات في تثبيت الأسعار إذا ما كان الإنتاج أصلا معدوما أو متدنياً. فالتوسع في المشاريع الإنتاجية لإغراق السوق بالمنتجات وحده الكفيل بتثبيت الأسعار وتخفيضها.
ما لفت نظري في مؤتمر الوالي هو حديثه عن مشروع سوبا لإنتاج الماشية الذي تعطل لسنوات بسبب مبلغ ضئيل لا يتجاوز مليون ونصف المليون دولار وهي التكلفة الكلية ليصبح المشروع منتجا إنتاجا بحسب الوالي من شأنه تحقيق الاكتفاء للعاصمة من لحم الضأن!!. أعرف مباني وعمارات تنهض في قلب المدينة ما أنفق فيها أضعاف هذا المبلغ ليس لأن الدولة بحاجة لعمارات جديدة...... بل لأنها أشواق بعض المتنفذين وخلل ترتيب الأولويات والسياسات التي لا تصلح بئرا معطلة بسوبا ولكنها تشيد قصرا بوسط الخرطوم!!.