في رحيل الشيخ “محمد الشقليني”
عبد الله الشقليني
22 September, 2011
22 September, 2011
abdallashiglini@hotmail.com
(1)
له من عُمر لقمان عُمر النسر الأخير ، فقد رفرفت النسور الستة بأجنحتها تتبع الغيمة التي أهلّ منها في التاسع عشر وتسعمائة وألف من الميلاد. أخنى الدهر وهو يتبع عَباءته يلاحقه ، ولم تركع الذاكرة . كان متيقظاً .أُحجية كُبرى فضت أغلفتها الحياة . اختمرت كل الحكاوي في خبائها . لن ينزِع التاريخ يده من أساطير الزمان أو اختلاط علم الأنساب بالوثائق والحقائق . خيط قديم قدم التاريخ عرفه الراحل وأتقنه :
أنا ابن أبي وهو ابن جدي ، ولجدي خمس من الإناث وخمسة من الذكور ، وتزوجت الأولى وكان لها ابن وأربع بنات ...
وبَنَتْ الأقصوصة خيوطها وتناسلت الكرات تدور في سماوات الحياة . وفي دوراتها حول الشموس الكبرى، قُضيَّ العُمر ولم تكتمل قصة الحياة التي نرثها أباً عن جد . إنها المهنة المُحببة لدى الشيخ " محمد الشقليني " حين يتتبع سيرة الأنساب . حفظها عن الجدّة " ريا بنت الشقليني " التي شهدت " التركية السابقة " في شبابها . كان جليسها عندما كانت مؤسسة " الحبوبة " هي تلفاز العصور . فيها من قصص الحياة ودروس المجتمعات وتاريخ الفروسية والكرم والنخوة والشجاعة والأحاجي الكثير الذي نفتقده من مآثر الزمن القديم . أحبته كصغيرها وغلفته برحمتها ، وصارت تنسج له تاريخ الأسر والأجداد وتحكي له كيف أن والدها " الشقليني الأكبر " قد زوج إحدى بناته للشيخ " إسماعيل الولي " في كردفان . وكيف لاحظ هو أن الزعيم الأزهري سليل " إسماعيل الولي " كان يزور بانتظام جده " إبراهيم" الملقب بالتِمَيْم " ، ولم نكن نعلم و نحن في صغرنا أن للأرحام يدٌ في مصائرنا ، وكيف كان " محمد الشقليني " وإخوانه وأبناء عمومته وعشيرته من المنتمين للحزب " الوطني الاتحادي " قبل اندماجه . ألعلاقة الأرحام أثر في انتماء السياسة أم أن الوطنية هي التي رفعت ساكني أشباه المُدن وخلصتهم من انتماءات العرق والقبيلة ؟.
تفككت أم درمان بعد عجين طهي دام قرناً ونيّف من الزمان . قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وظللهم الغمام و واستطعموا ْ مِن طَيِّبَاتِ الرزق بما تيسر . إرثٌ أكبر من الذواكر وأخضر من أبسطة الأرض التي تستوي عند الأفق. يستسقي المرء من سيرة جيل يحمل رماحاً تتلوى حتى تصل مقاصدها ، يقذفها القادر في بطن الأكمّة و فيحاء السهول والجبال التي أحنت ظهرها لتقدم الإنسان . لما تزل دروب المهاجر تسترشد بأنجُم السماء في الليل، وبالشموس في رحلتها من الغروب إلى الشروق .
{ ..أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا..} سورة النساء 97 .
(2)
ها هو نسر العُمر الأول والأخير قد رحل .
لم تكن الحياة ضنينة علينا ، فقد مدّ "محمد الشقليني" شجرته الوارفة الظلال واحتوتنا جميعنا : الأهل والأقرباء جميعاً والأصهار والأهل والجيران . أفسحت له الدنيا أن يشهد أبناء حفيده الأول ، فقد تمدد به العُمر اثنين وتسعين عاماً "، فلكل أجل كتاب . يقولون إن حَفَظة الذكر الحكيم لا ترتخي ذواكرهم بالنسيان . جمار ذواكرهم تقدح بحرارة الدفء والمنابع المتنوعة للألفاظ والبلاغة والجزالة والتوسط والمباشرة التي احتواها الذكر الحكيم . شهد الوالد في طفولته بسطة المستعمر ليده الباطشة من بعد بداية القرن الماضي ، وشهد ثورة 1924م وكان في الخامسة من عمره أو يزيد قليلاً. كان يلقى الشهيد " عبد الفضيل ألماظ " مرة كل شهر ، فقد كان الضابط الشهيد يستأجر بيت والده " إبراهيم الشقليني " في الفتيحاب وكان مُغرماً بفرس " ألماظ " وهيبة الزي العسكري الذي يرتدي .
من يستطع أن يوقف ذاكرته وهي تتحدث ؟ :
(3)
تربى الشهيد " عبد الفضيل الماظ " في منزل الجّد الأكبر " أحمد الشقليني " المعروف بـ " ود الشقليني " بعد أن آواه طفلاً مع خالته من بعد معركة كرري ، حين تشتُتْ الأطفال وأمهاتهم ، وكان الجَدّ حينها ميسور الحال يسكن الفتيحاب .
درس " عبد الفضيل " بخلوة "الفكي الأسيد" بالفتيحاب . وسكت التاريخ عن تفاصيل النشأة ، ولكنه وإلى التحاقه بقوة دفاع السودان ضابطاً كان يسكن الفتيحاب وفي ذات المنزل و لم تزل غرفته بكامل بنائها حتى التاريخ !.
قبل استشهاد البطل " عبد الفضيل ألماظ " بيوم ، زار فيه الشهيد بيوت أهل الفتيحاب والزنارخة الذين تربى بين ظهرانيهم ، يودّعهم ، ويرمي في أيدي الصغار هدايا تناسب عقولهم وأغصانها الخضراء وريش الزغب ، يتراقص يملأ الدنيا حبوراً ، وهو يستجمع للمعركة الكبرى ولا أحد يعلم !.
ذلك حفرٌ في سطوح تربة التاريخ ، الذي يحتاج حفراً عميقاً للإحاطة بالحياة الثقافية والاجتماعية التي التفّت من حول البطل وأهل الفتيحاب وتاريخهم ؛ فعندما هبط الإمام المهدي بجيشه عسكر قرب الفتيحاب وأراضي الجموعية . للمنطقة وأهلها كبير شأن في مقاومة التركية والإنجليز، وإن كان للمستعمر الغلبة في ترويض الذين لهم تاريخ مع المهدية .
في تلك البيئة نشأ الشيخ "محمد إبراهيم الشقليني" طفلاً ، تدرج في الدراسة منذ " خلوة الفكي الصلحي " بالعباسية ثم الابتدائية و إلى المدرسة الوسطى ، وتوقف عند منتصفها لأسباب لا يد له فيها . التحق موظفاً في الزراعة وتركها والتحق بالمؤسسة التي تدير التُرام من بعد الثلث الأول من القرن الماضي . ذلك الثعبان الأخطبوطي الذي جلبه المستعمر ليربط شرايين الأماكن . صار التُرام مدخلاً لمعرفة أم درمان وبحري والخرطوم وأهلها وعشائرها . وتلك هي البداية الحقيقية لهجرة صاحب السيرة إلى الحداثة . ترك لغيره الزراعة وصناعة القوارب وصيد أسماك النيل أو كلية غردون لمن استطاع إليها السبيل . من زملاء مهنته جملة من رفاق الدرب، منهم الشيوخ : " وهدان " و " منور و " عبد الله عقارب " و " بابكر جلي " و" اسكندر " و" العمدة " و " خالد حَضرة " . لم أزل أذكر كيف كانوا يتحلقون من حولنا بمحبة ونحن في طفولتنا حين نزورهم في مجمّع موصلات العاصمة في قلب الخرطوم أو عند مُشرع شمبات قبل تشييد الجسر الذي يربط الخرطوم بحري بأم درمان . كان يحفظ الود مع الشاعر" عتيق " الذي يصابح الجميع فجراً على طرف النهر عند أبي روف يهبط عليه وحي الشعر فيكتُب .
كانت عاصمة الدولة آنذاك غنية بالتنوع ، تجد الأرمن والإغريق والشوام والمصريين والهنود والإنجليز والطليان وغيرهم . تجد الأجناس مختلفة ألوانها . كان الوطن أكثر رحابة مما نشهد اليوم حيث كان فيما مضى جاذباً للعمل المتنوع والتوكيلات التجارية والاتجار بالمحاصيل وأعمال الشركات في الاستيراد والتصدير ونشأة البنوك والصناعات الصغيرة . كانت الحياة حرة وأكثر ديمقراطية مما تعرفه حياتنا الراهنة .
(4)
تعوّد الشيخ " محمد الشقليني " أن يرطب لسانه بالذكر وبالأدعية وقراءة الأوراد وكتابتها رغم أعتاب عُمر التسعين. تعودنا فيما مضى ولسنوات عديدة الاستماع لصوته يرتل من الذكر الحكيم صباحاً قبل أن تأتينا الراحلة الوالدة " آمنة " بشاي الصباح وهي حفية بالأسرة والأبناء منذ أن تفتحت أعيننا وإلى رحيلها . لها منا الدعوات نقرأها لروحها كلما تيسر .
اعتاد الوالد " محمد الشقليني " أن يجهِّز بيديه مَبخره بلبان ذكر ، فهو المحبب لديه . وكان الشتاء أنيسا معه . من بعد التقاعد ، يفتتح متجره على طرف البيت منذ الصباح الباكر. يسمي بالله ويكُثر الصلاة على النبي الأكرم وينطلق للرزق .
سجلت له الإذاعة السودانية منذ السبعينات أذان الصلاة بصوته، وله أيضاً سجل لبرنامج خصه الراحل "محمود أبوالعزائم " لتأريخ أحياء أم درمان ، وكانت له ايضاً حلقة مميزة عن " تاريخ الترام ": أنواعه وخطوط سيره ، ومحطات توقفه وصناعته وصيانته والأمن والسلامة ونظام العمل وضبط الوقت ، والقائمين على أمره.
كان الوالد صديقاً لنا جميعاً رغم فارق السن ، وكان أصدقائي يقضون جُل وقتهم معه عندما لا يجدونني في البيت : كان حكاءً ، وراوية و نسَّاباً ضخم الذاكرة . كانت الحياة وهي تزحف ببطء من الرعي والزراعة إلى صناعات في طور التنشئة ، إلى أشباه المدن التي شيد المستعمر بنيتها التحتية من طرق رئيسة ومسح الأراضي وتدوين ملكيتها زراعة وعمراناً ، سهولاً ووديانا، وأنشأ شبكة مياه وكهرباء وإذاعة من بعد الحرب الكونية الثانية وأقام سكك حديد السودان منذ أول القرن الماضي ربطت حلفا وأبو حمد وعطبرة وشندي والخرطوم بحري ومدني وسنار حيث أقام " خزان مُكوار " ومهد لتوسعة زراعة القطن وعبرت السكك الحديدية إلى الأبيض حيث السوق العالمي للصمغ العربي ، ومن الشرق إلى القضارف وكسلا وهيا إلى بورتسودان حيث أُنشأت الميناء البديل لسواكن .
(5)
فقدنا طلة الراحل البهية وفقدتُ كلماته التي تقطر حنيناً: " أنا عافي منك " التي أسمعها في كل هاتف أتحدث فيه معه ، وأضطر لرفع صوتي ليكن السّمع أفضل . كان يتعجل السؤال عن صحتي قبل أن نبدأ الحديث . هكذا كانت الدنيا تقيم لنا شجراً ظليلاً نتقي به قسوة الحياة ، في حين أن البُعد الذي رمتنا به المنافي جعلتنا نبدو أكثر جفاء ، ولكنه كان يقدّر الأمر بلطف ويُسر . بذات اليسر الذي فارق فيه الحياة في ضحى الرابع والعشرين من رمضان 1432 هـ - الرابع والعشرين من أغسطس 2011 م . كان موعد رحيله العشر الأواخر من رمضان وقد كُنا نمنى أنفسنا لشجرتنا الظليلة طول العمر. لم أذكر في حياتي كلها أن كان غليظاً علينا في التأديب ، بل رفيقاً يقدم العتاب على جفوة التأنيب . له صداقات كثيرة اكتسبها بسبب عمله في الترام . و عمِل في مواصلات العاصمة العامة منذ " المعونة الأمريكية " أيام غزو الدولة الأمريكية السودان برفاهية النقل أيام " جون كندي " . ربما طعناً في خاصرة مصر لتنفيذها السد العالي بدونها أيام الفريق عبود ، فقوّت صلاتها بالسودان ، وانكسر العسكر بالاتفاق مع مصر على المظلومين ، وشرب أهل حلفا مذاق المكيدة المُرّ فقد ائتلف الجميع ضد أهلنا في شمال الوطن . بذلت مصر لعسكر " 17 نوفمبر " سياحة مرفهة تنز باللذة لأعضاء مجلس ثورة عبود ليوقعوا على الثمن البخس . لم ينفع الفريق عبود بكاؤه عند زيارته الشمال من بعد أن غرقت المآذن في النهر. فقد شهد العالم أطول وأقسى تهجير للسكان في العالم : السودان و أستراليا !!
لك الله موطني ، نعرف كيف ندعو بالرحمات لمن يستحق ولمن لا يستحق .
(6)
منذ أكثر من عقدين طلبني والدي :
- أتوصلني مسجد السيد الإدريسي بالموردة .
- نعم ، أي وقت تحب ؟
- بعد صلاة المغرب . أفضِل أن أصلي العشاء هناك .
عند البوابة توقفنا .
- أتذهب معي ؟ . تلقى الشيخ محمد الإدريسي ، ومتى رغبت تستأذن . تلك دار من ديار العِلم ، لن تندم .
بعد إصراره ، سرت معه وأنا أسقط من حساباتي المواعيد المسبقة واحداً ، واحداً . استقبلنا الراحل الشيخ " محمد الإدريسي" رحمه الله عند مقدمنا بالترحاب كمن يترقب حضورنا . أخذ والدي في حضنه ، وأجلسنا بجواره . تجولت بناظريَّ : تلك حلقتي تفسير ، وثالثة تجويد . خاطبني الشيخ قائلاً :
- سعدنا اليوم بمقدمك إلينا . يحدثني والدك عنك كثيراً ، فمحبة الوالد نعمة من نعم الله . مرحباً بك كل يوم وكل وقت .
انقضى المساء وأنا غارقاً في الضيافة هانئاً إلى أن تحينت الوقت المناسب . استأذنا وعدنا أدراجنا من أمسية يلفها الوقار وأبخرة الأدعية تعطر المكان من حولنا تسترجي أن نبقى أكثر.
(7)
نعلم أن الموت حق ، وأن الحزن سحابات تتبع بعضها ، تأتي فرادى وجماعات . لم تترك الدنيا لي من سبيل لألتقي الراحل إلا منذ عامين ، أوائل ديسمبر 2009 م . مرض ذات صباح بيسر ، ولم نكُن قلقين على صحته ، ولكنها سنة الحياة . إحساس دفينٌ نبهنا عند صحوة الأقدار من نومها العميق . سألت عن مواعيد السفر إلى السودان منذ المفاجأة الأولى ، ولم يحالفني التوفيق . يوم وليلة ، وبهدوء رحل .و فتحت المطارات أذرعتها فجأة ووصلت السودان بعد أن زرعته الأيدي في بطن أرضٍ لربما تُزهر أيام الوطن بنبات أكثر حلاوة من مذاق الحنظل .
ألف رحمة ونور عليه . كان في الهاتف النقال يمنحنا بشائر الرضى بالحال ، ونسمع عفوه عند كل فاصلة حديث . يغدق علينا بأمانيه لكافة أبنائنا وبناتنا وأحفاده ويمتد الدعاء للمسلمين كافة ، ولكافة أهل المعمورة أن تهديهم عقولهم للدرب الذي سلك . كان حاضر البديهة ، متّقد الذاكرة ، شجي الحديث . لا تجده إلا برفقة الأهل والأقرباء يتحلّقون من حوله وهو يسرد من تاريخ ما شاهده . قوي البصيرة لما يزل يكتب أوراده إلى أن تجولت سحابات الرحيل في سماء الدار .باسماً هادئاً أسلم الروح .
(7)
سيدي يا رسول الله ونبي الأكرمين من الأمم التي أحبها :" زرعك أخضر في السماء ، وأقماركَ تمشي على الأرض ".والمُسبحين من أمم الحجر والشَجر بحمد ربكَ ، تسأل الذي يهب الأمانات ويودع أسرارها بيننا فترة من الزمان ،ليمتحِن كيف نكون عند التخيير ، عندما يسترجِع الرب وديعته : أراضين نحنُ بقضائه ،وعارفين مضارب مُلكه التي لا تُدركها الكائنات وإن شربت من بحر معارِفه التي منحها مالِك نعمتنا راضياً لنختار "إما شاكرين أو ناكرين النعيم "؟ .حطّ علينا طائرٌ وعلى رؤوسنا حلّق كي نشفى من هذه العواصف المتواترة على النفس ،فنحزن للفِراق مثل كل طينة تُلين من شربة ماء ،فنعرف أنا أمام عظمة الربِ ضِعاف نطلُب الصفح ،
وهوفي ملكوته كل يوم هو في شَأْن.
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }يوسف101.
مولانا...
عظيم أنتَ بجلالِك وقلائدك التي تجُّملُنا ، سابحين في الزمان وفي المكان بِنَعْمائك .نستبِقُ الخيرات ما استطعنا .
عبد الله الشقليني
21/9/2011 م
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\