الرهانات الخاطئة تكلف عزلة سياسية واقتصادية
خالد التيجاني النور
23 September, 2011
23 September, 2011
tigani60@hotmail.com
هل دخل السودان في عزلة سياسية واقتصادية خانقة من قبل محيطه الدولي وجواره الإقليمي العربي والإسلامي دون أن يفطن الحكم في الخرطوم إلى عواقب ذلك على كفاحه من أجل البقاء, وإلى مآلاته على مستقبل البلاد والعباد؟.
في أنباء مطلع هذا الاسبوع خباران لافتان, الأول بثته رويترز السبت الماضي من مرسيليا الفرنسية التي شهدت اجتماعات وزراء مالية مجموعة الثماني حيث تعهدت المجموعة بتقديم 38 مليار دولار إلى تونس ومصر والمغرب والأردن على مدى ثلاث سنوات 2011 إلى 2013 موسعين بذلك نطاق اتفاق يعود إلى مايو مع دعوة ليبيا للمشاركة أيضا. كما تعهد صندوق النقد الدولي بتمويل إضافي قيمته 35 مليار دولار لدول انتفاضات الربيع العربي.
وقالت فرنسا الرئيس الحالي لمجموعة الثماني إن الرقم الذي اتفق عليه خلال محادثات في مرسيليا ضاعف المبلغ المتفق عليه في مايو عندما اجتمعت القوى الثماني في دوفيل بشمال فرنسا. وشهد اجتماع مرسيليا توسيع نطاق الشراكة الأصلية لتشمل الأردن والمغرب.
وأبلغ وزير المالية الفرنسي باروان مؤتمرا صحافيا "تعهدت المؤسسات بزيادة حجم شبكتها المالية إلى 38 مليار دولار مقارنة مع العشرين مليار دولار التي جرى التعهد بها في دوفيل .. هذه ليست مجرد كلمات بل خطوة مهمة جرى اتخاذها هذا الصباح".
ويهدف اتفاق التمويل الذي توصلت إليه الاقتصادات السبعة الكبرى زائد روسيا إلى دعم جهود الإصلاح في أعقاب انتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وستقدم مجموعة الثماني والدول العربية نصفه والنصف الآخر من مقرضين وبنوك تنمية.
وحذرت المؤسسات المالية الدولية المشاركة في محادثات مجموعة الثماني من التحديات التي تواجه دول الربيع العربي إذ تحاول تدبير التمويل الأجنبي في ظل مخاوف من مخاطر عالية وضغوط اجتماعية ومالية في بيئاتها المحلية. ودعا المسؤولون إلى فتح أسواق الدول المتقدمة أمام المنتجات والقوى العاملة من منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا لتفادي الاعتماد على المساعدات والمساهمة في تعزيز القطاع الخاص.
وذيكر أن مبادرة دوفيل قد تأسست تحت الرئاسة الفرنسية لمجموعة الثماني بهدف مساعدة دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي شهدت انتفاضات شعبية على تبني إصلاحات ديمقراطية عن طريق جعل المساعدات والقروض التنموية مشروطة بالإصلاح السياسي والاقتصادي. وبحث مسؤولو مجموعة الثماني التحديات الاقتصادية التي تواجهها دول أطاحت بحكام مستبدين مثل تونس ومصر وليبيا واتفقوا على تعزيز التجارة وفتح الأسواق بين المنطقة وبلدان العالم المتقدم.
أما الخبر الثاني المهم فقد جاء من تلقاء مدينة جدة السعودية التي احتضنت الأحد الماضي أعمال الاجتماع الوزاري العادي لدول مجلس التعاون الخليجي, وشارك فيه لأول مرة وزيرا خارجية الأردن والمغرب, الدولتان اللتان دعاهما مجلس التعاون الخليجي في خطوة مفاجئة في مايو الماضي للإنضمام إليه, على أن الأمر الاكثر أهمية هنا أن اجتماع جدة كشف عن برنامج اقتصادي تنموي تبنته مدته خمس سنوات لدعم الاردن والمغرب.
ومع أن الأردن والمغرب لا تزالان تدرسان الطلب الخليجي للانضمام إلى المجلس, فإن ما لا شك فيه أنه في حال نجاح مفاوضات الانضمام، فستشهد المنطقة العربية تغييراً مهما في بنية تحالفاتها السياسية والأمنية. هذا إذا وضعنا في الاعتبار أن اليمن التي, لا تزال في انتظار إكمال نجاح ثورتها, مدعوة هي الآخرى أيضاً للانضمام للمجلس الخليجي فسيكون ذلك مؤشراً إضافياً إلى عمق التحولات السياسة التي ستشهدها المنطقة في غضون المستقبل القريب.
والسؤال الملح أين السودان من هذه التطورات الاستراتيجية؟ الإجابة التي لا تحتاج إلى كثير عناء هي أنه لا موقع له من الإعراب في خضم هذه التحولات المتسارعة, ومن الواضح أن السودان يكابد حالة عزلة سياسية واقتصادية دولية وإقليمية غير مسبوقة ولا قبل له بتداعياتها وتبعاتها. ربما لم يكن الأمر ليعني كثيراً لو أن السودان يعيش في أفضل حالاته سياسياً واقتصادياً, بيد أن ما يجب ان يثير القلق العميق أن حالة العزلة, الدولية والإقليمية, هذه تأتي والسودان الشمالي يكابد في أتون أخطر صدمتين تواجهه في تاريخه الحديث, الصدمة السياسية بسبب زلزال تقسيم السودان وفصل الجنوب, والصدمة الاقتصادية العميقة الناجمة عن توابع ذلك الحدث المزلزل.
والصدمتان شاخصتان إلى درجة لا تحتجان معهما إلى إقامة الدليل عليهما, فالتقسيم الذي جرى تسويقه سياسياً باعتبره قارب النجاة الوحيد إلى مفارقة الاحتراب وكسب السلام والاستقرار بعد طول تيه في صحراء الحرب الأهلية سرعان ما تبين أنه رهان خاسر إلى أبعد الحدود, فقد تحقق السيناريو الأسوأ خسران وحدة البلاد وعودة الحرب إلى "الجنوب الجديد" حتى قبل أن يجف حبر فصل "الجنوب القديم". ولئن احتملت الصدمة السياسية جدلاً حول جدوى الانفصال وعواقبه, فإن الصدمة الاقتصادية التي تبعته لا تحتمل ترف الجدل السياسي ورفاهية المغالطات الحزبية, فالتأثيرات السلبيية العميقة للصدمة الاقتصادية جراء تقسيم البلاد بدأت تلقي بكلكلها مبكراً حتى قبل الانفصال فعلياً بوقت طويل, فقد تسارع تدهور قيمة العملة الوطنية لتفقد خلال أشهر قليلة ضعف قيمتها أمام العملات الصعبة, وانفلت التضخم وتصاعدت أسعار كل السلع إلى مستويات غير مسبوقة, حدث كل ذلك على الرغم من أن اتفاقية قسمة الثروة وتقاسم عائدات النفط ظل سارياً حتى مطلع يوليو الماضي, وعلى الرغم من أن الميزان الخارجي سجل في العام الماضي, حسب آخر تقرير سنوي للبنك المركزي عن العام 2101, فائضاً بلغ اثنين مليار ونصف المليار دولار, ولك أن تتخيل كيف سيكون الوضع الاقتصادي في المستقبل القريب بعد الافتقار إلى العائدات النفطية؟. لم يعد حتى كبار قادة الحكم يخفون المآلات الاقتصادية الصعبة مما جرى التصريح به علانية عقب إجازة مجلس الوزراء لموازنة العام 2012, وقالها الرئيس البشير بوضوح أن المصاعب الاقتصادية المقبلة تعود إلى فقدان العائدات النفطية.
وليس في هذا كله جديداً سوى نهاية حالة الإنكار التي كان يمارسها كبار المسؤولين في الحكومة من السياسيين والاقتصاديين الذين طالما قللوا من التأثيرات السلبية للانفصال, بل وروجوا لتبرير أكثر غرابة بالإكثار من الحمد أن تخلصوا أخيراً من عبء الجنوب وأزاحوا عن كاهلهم "أوشابه"!
ربما لم يكن هناك ما يدعو لإلقاء اللوم عليهم لو أنهم أطلقوا تلك التصريحات من أجل بث الطمأنينة في نفوس المواطنين وعدم إثارة الهلع بينهم, ولكن تبين أنهم صدقوا فعلاً ما يصرحون به للاستهلاك السياسي وقعدوا عن التحسب بالجدية الكاملة للعواقب الاقتصادية الخطيرة جراء الانفصال.
والمأزق الآن أن السودان الشمالي يواجه هاتين الصدمتين السياسية والاقتصادية وهو في حالة عزلة دولية وإقليمية, ويفتقر إلى حليف أو صديق يقدم له يد العون الحقيقية, خاصة أنه سيفاقم من خطورة الأوضاع الاقتصادية عودة الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق لأنه حتى في حالة بسط السيطرة العسكرية عليها فستكون هناك حاجة مستمرة للصرف من مواردو محدودة أصلاً لاستمرار المحافظة عليها, هذا إذا لم تسبب حرب عصابات محتملة في زعزعة استقرارها.
بالطبع سيرد المسؤولون عن العلاقات الخارجية بالنفي القاطع لوقوع البلاد في حالة عزلة وأن البلاد تمتع بعلاقات وثيقة مع العديد من دول العالم والمنطقة وأن تلك الدول تؤكد دعمها ووقوفها إلى جانب السودان, كل ذلك حسن ولكن هل يقاس الأمر بمجرد الزيارات المتبادلة وإطلاق التصريحات الداعمة والتعبيرات الدبلوماسية الناعمة, أم بترجمة عملية بالدعم السياسي والاقتصادي الذي تحتاجه البلاد بشدة؟ سيكون الزعم بوجود علاقات خارجية وثيقة ونفي حالة العزلة صحيحاً وصالحاً بمقدار تقديمها لإجابات عملية وفعلية لحاجة السودان الماسة للدعم والعون الاقتصادي على وجه الخصوص وبصفة عاجلة.
وليس سراً أن مسؤولين رفيعين زارا دولة عربية كبرى غنية في زيارتين منفردتين خلال الاشهر الماضية طلباً لدعمها للسودان في مواجهة التحديات الراهنة ولم يظفرا بشئ غير الكلام الطيب, وكان لافتاً أنه بعد أيام قليلة فقط من الزيارة السودانية الرفيعة الأخيرة, أن قدمت تلك الدولة العربية منحةً, وليس قرضاً, لدولة آخرى بمليار ونصف المليار دولار دفعةً أولى لدعمها, في حين خرج السودان خالي الوفاض حتى من قرض دعك من منحة, ولم يفلح حتى في إقناع تلك الدولة بتمويل استثمارات ذات معنى في القطاع الزراعي السوداني الذي كان يعول عليه ذات يوم ليصبح سلة غذاء العالم العربي. وليس سراً أيضاً أن برنامج النهضة الزراعية الذي كان يهدف إلى إحداث نقلة كبرى تعثر لأنه لم يجد التمويل الذي كان يعول عليه من خلال الاستثمارات الخارجية, وليس سراً كذلك أن دول الخليج الغنية صنفت السودان في ذيل أولويات الدول التي قررت الاستثمار الزراعي فيها, فقد طرقت دولاً آخرى في إفريقيا جارة للسودان, وآخرى في أقاصي آسيا.
ولم يجد وزير المالية آذاناً صاغية من وزراء المالية العرب وهو يعلن في أبو ظبي الاسبوع الماضي على هامش اجتماعات صندوق النقد العربي, أن السودان يحتاج إلى مساعدات بمليار ونصف المليار دولار لتغطية عجز الموازنة العام القادم, وهو رقم أقل بكثير من رقم العجز الحقيقي الذي يقدره خبراء اقتصاديون بأربعة مليارات دولار, ومع ذلك لم يجد من يستجيب له, ولم تمض أيام حتى نهضت دول مجلس التعاون الخليجي لنجدة الأردن القريب, والمغرب البعيد, ببرنامج تنموي اقتصادي, ليس إسعافياً, ولكن لمدة خمس سنوات, ليس ذلك فحسب بل أفلحت في إدراجها أيضاً ضمن مساعدات مجموعة الثمان, وصندوق النقد الدولي.
لسنا هنا بصدد تقديم أجوبة أو تحليلات تفسر أسباب العزلة السياسية التي يعانيها السودان في محيطه العربي ولكن نرسم فقط صورة للحالة التي تتبدى واقعاً من خلال عجز الحكومة عن استقطاب أي دعم أو استثمار عربي ذا شأن في وقت تواجه في البلاد وضعاً اقتصادياً عصيباً. ومن المؤكد أن لهذا الموقف صلة بتحفظ أو عدم رضا من المحور الخليجي عن خيارات النظام الحاكم في الخرطوم ومواقفه سياسية لا تعلن عنها بالضرورة أو تخفيها المجاملة الدبلوماسية ولكنها تنعكس واقعاً عملياً بدعم سياسي واقتصادي محدود للغاية لا يفي بالمطلوب أو المتوقع منها منها فعلاً. وإلا فمن أحوج من السودان في ظل أوضاعه الحالية وهو خارج من مأساة تقسيمه من أن يهب لنجدته ذوي قربته من جيرانه الأقربين من دول الخليج وقد هبوا لدعم دول الربيع العربي ولحقت نجدتهم حتى الجار الأبعد, والأولى بالسؤال أن لماذا لم يحدث ذلك هو في الحقيقة عند ولاة الأمر في الخرطوم وليس في عواصم الخليج.
أما العزلة السياسية والاقتصادية التي يعانيها السودان على الصعيد الدولي فلا تحتاج إلا تبيان, فالدول الكبرى التي نهضت لدعم دول الربيع العربي هي نفسها التي تجاهلت مكافأة الحكم في الخرطوم والوفاء بتعهداتها إذا التزمت بتنفيذ اتفاقية السلام إلى نهاياتها, وقد كان فتم التقسيم وحدث الانفصال فلا المجتمع الدولي ضمن السلام, ولا عفى الديون, ولا قدم مساعدات, ولا أقال عثرة الاقتصاد, كما أن واشنطن, عراب نيفاشا, نفذت شيئاً من وعودها بالتطبيع, أي باختصار لم يتم فصل الجنوب مجاناً وحسب, إذ لم يظفر الحزب الحاكم في الخرطوم بشئ مما ظنه استثماراً ناجحاً في تعبيد الطريق أمام الانفصال سيجلب عليه تطبيعاً دولياً ودخولاً سلساً في نادي المجتمع الدولي, بل أصبح يتعين عليه أن يدفع ثمناً باهظاً لهذه الغفلة السياسية وغياب الرؤية الاستراتيجية قد تكلفه سلطته وهو يواجه تبعات الانفصال وتداعياته بلا صديق حميم ولا حليف هميم مستعد ليدفع عنه غائلة الزمان. ولم تعد بذات نفع تبريرات من قبيل الاستهداف والتآمر, هب أن ذلك حادث فمن نفذ أجندته؟, ولماذا؟.
ومع ذلك, فماذا نحن فاعلون, لا تزال هناك فرصة لإنقاذ البلاد والعباد من مصير بئيس, ولكن ذلك بالطبع ليس مجانياً, ولا تصلح معها المكابرة, وهناك حاجة لمراجعات حقيقية من أجل تغيير وإصلاح جذري في النظام السياسي السوداني تستند على أجندة بحجم الوطن, لا بحجم حزب أو طبقة حاكمة لا ترى سوى حسابات استئثارها بالسلطة وإن كان ثمن ذلك ذهاب ريح ما تبقى من الوطن.