سلفا بالخرطوم: ما وراء الأجندة

 


 

عادل الباز
9 October, 2011

 



الوجه الضاحك والحفاوة التي استقبل به السيد الرئيس البشير رئيس دولة جنوب السودان  سلفا كير ميارديت ووفده تستحق أن تكون عنوانا لهذه الزيارة. بغض النظر عن جدول أعمال الزيارة وما سيليها من نتائج’ إلا أنه بمجرد وصول وفد بهذا المستوى الرفيع من إخوتنا الجنوبيين لإجراء مباحثات هي الأولى من نوعها بين الدولتين في مرحلة قيام دولة الجنوب تشي بأن المستقبل سيكون أكثر إشراقا وأن الدول مهما تعارضت إراداتها تظل مصالحها ومصالح شعوبها هي الحاسمة. تحاربت شعوب وانفصلت أخرى وتشظت دول ولكنها في النهاية بحثت عما يوحدها وتسعى أخرى لصون مصالحها. خاضت أوروبا مع بعضها حربين عالميتين وعادت موحدة’ تشظى الاتحاد السوفيتي وها هي دوله السابقة تتنادى لبناء روسيا الجديدة العظمى. تشظت ألمانيا وتوحدت, تشظت يوغوسلافيا والآن التجارة بين دولها تسجل أرقاما قياسية.
على الطاولة الآن  ملفات تتعلق بقضايا سياسية واقتصادية وأمنية وهي قضايا متشابكة تؤثر في بعضها بشكل حاسم بحيث لا يمكن التقدم في بعضها وترك بعضها معلقا. التعامل مع القضايا في كل الملفات حزمةً واحدة و التوصل لحلول حتى وإن لم تكن نهائية فذلك أجدى، ويمكن ترك الحل النهائي لتطورات الأحداث في المستقبل المنظور حيث يلعب الزمن دورا حاسما في بناء الثقة بين الجانبين مثل ما حدث في قضية أبيي.
الملف السياسي مثقل بقضايا فك الارتباط أو ما سميت بالقضايا العالقة والتي ظلت رحى المفاوضات تدور حولها لسنوات. أولها قضية الحدود بين الدولتين وفي تقديري أنها قضية ستأخذ زمنا أطول وهي بطبيعتها ليست عاجلة ولكن يمكن إحداث اختراق بها. قضية أبيي وقضية الحدود خاصة حفرة النحاس تستحقان عناية خاصة، فيماعدا ذلك ليس هنالك ما يزعج بهذا الملف. لقد ظلت حدودنا لسنوات ولا تزال عالقة مع مصر ومع أثيوبيا ومثلث على الحدود الكينية ولكنها لم تقدنا لتجميد أو توتير علاقتنا بتلك الدول. يمكننا الآن بعد اتفاق الممرات الآمنة الذي وقع بين الدولتين الشهر الماضي واقتراح إنشاء قوة لمراقبة الحدود  التقدم باتجاه التوصل لصيغة شبه نهائية للقضية الحدود وليس بالضرورة حسمها بالكامل اللحظة.
في جدول الاقتصاد هنالك قضايا عالقة وهي الأكثر إلحاحا الآن. البترول قضية أساسية في طاولة المباحثات، إذ ظلت المعضلة التي لم يتم التوصل لاتفاق نهائي حولها الآن هي رسوم عبور البترول واستخدام كل البنية التحتية لصناعة النفط. الأنباء التي تسربت قبل أيام أشارت لمقترح جديد  تقدمت به لجنة امبيكي لاقى قبولا من الطرفين. رغم أن تفاصيله لا تزال غامضة إلا أن  هذه الزيارة تدل على أن الجانبين الآن اقتربا من الاتفاق على إغلاق هذا الأمر الذي من شأنه المساعدة على حلحلة ما تبقى من قضايا على رأسها مسألة تنظيم التجارة بين البلدين. الجنوب الذي تتصاعد فيه الأسعار هذه الأيام بشكل جنوني أكثر مماهو حادث في أسواق الخرطوم بحاجة لإيجاد معادلة منصفة للتجارة مع الشمال. لقد اكتشف إخوتنا في الجنوب أن مصلحة الدولتين في انسياب الحركة التجارية بين البلدين بطريقة سلسلة، فالضرر الحادث جراء الحدود أمام حركة البضائع من الشمال أضر بمصالح البلدين كما اتضح أن البديل المتوهم  بإنشاء تجارة مع دول إفريقيا الشرقية ليس بذي جدوى كبيرة وخاصة مع مواطنين اعتادوا أن يتعاملوا بثقة كاملة مع البضائع الورادة من الشمال. حدثني صديق أن الدواء المصنع في الشمال أو المستورد منه يتمتع بثقة الجنوبيين أكثر من أي دواء آخر مطروح الآن بالأسواق وكذلك بقية المنتجات. من مصلحة الشمال أن تنتظم التجارة مع الجنوب على أسس عادلة ومن مصلحة الجنوب أن يحصل مواطنوه على سلع بأسعار معقولة (يبلغ الآن جوال البصل مليون جنية بالقديم في جوبا).
القضايا الأمنية  الأخطر بهذا الملف هي المستجدة. حيث تتهم الخرطوم حكومة الجنوب بأنها تمول تمرد الحلو وعقار وتدعمهما بالسلاح، وكان أمراً ملفتاً الخبران اللذان أذاعتهما وكالات أنباء حكومية عشية وصول رئيس حكومة الجنوب للخرطوم، وهي كلها تركز على اتهامات لحكومة الجنوب. الآن ليس هنالك وقت للاتهامات الوقت لتوصل لتفاهمات. حتى تستطيع حكومة الجنوب أن تسوي قضاياها مع الشمال، فالمطلوب منها لعب دور إيجابي في قضايا المنطقتين إذ بيدها كروت كثيرة إذا لم نقل للضغط على المتمردين  فإنها قادرة على التوسط لإنهاء حالة التمرد التي تستعر في كلا المنطقتين. فبدون دعم مالي ولوجستي من دولة الجنوب للمتمردين لا يمكنهم زعزعة الأمن في تلك المناطق. المطلوب من دولة الجنوب بسيط جدا وهو دفع حلفائها القدامى لحلبة العمل السياسي السلمي. بإمكان دولة الجنوب لعب هذا الدور باقتدار وإذا ما فعلت تكون قد أغلقت باب الاتهامات وبدأت مشوار بناء الثقة مع حكومة الشمال وساعدت على إنهاء القطيعة والتوتر بين الدولتين. بدون ذلك ستظل الملفات عالقة وحتى إذا طويت موقتا فإن التوتر مرشح للعودة في كل حين. القضايا المعقدة بحاجة لقيادات جسورة وحلول جريئة وقادة بحجم طموحات وآمال شعوبهم في الاستقرار والأمن والنماء.

 

آراء