عم فرح وتوطين العلاج
د. عثمان أبوزيد
13 November, 2011
13 November, 2011
في طريقي إلى دنقلا منذ أيام، توقف الباص عند الملتقى ، وصعد رجل في الثمانين من العمر ليجلس إلى جانبي. كان الرجل يرتدي ملابس بسيطة لكنها نظيفة وينتعل شبشباً بلاستكياً ويحمل (بُقجة) وعصا. ولما أخذ الرجل مكانه التفت نحوي وخاطبني متردداً: الله يقدّم أيامك بركة الله، إت خابر البلد، نزلني عند السوق الشعبي ... وظل بين الحين والآخر يذكّرني بالتوقف عند السوق الشعبي مردداً ذلك الدعاء الأثير ، مكرراً السؤال عن الساعة، لأشير عليه مداعباً أن ينظر في الساعة أمامنا داخل الباص ... إنت يا عم ما بتعرف تقرا؟
- ماني قاري ، ما بكضب عليك، وما عندي ساعة ، ولما عيوني كانت بعافية كنت أعرف الوكت بالشمش.
حفزني ذلك إلى السؤال عن حاله.
الاسم فرح، يقول إنه من العفاض، استوطنها منذ نزوح عام 88 ، قدم إليها مع زوجته من ديار الكبابيش. لم ير دنقلا في حياته ... يقول لي: " ما مشيت تبّ ، إلا لاحق الغابة"!
هنالك أغنية في تراثنا باللغة النوبية على لسان فتاة عدّدت أسباب رفضها شاباً تقدم لخطبتها تقول كلماتها: ليست له قجة تتموّج، ولا يركب شيئاً غير حمار، ولا يربط في يسراه ساعة اليد ، وإنه لن يذهب إلى حلفا...
قلت للرجل: وماذا تفعل في دنقلا؟ فأخرج ورقة مكتوب عليها: "مجمع أنصار السنة"، ثم أردف قائلاً " أدور حكيم شاف لي عيني دي ".
- في الدبة ما في حكيم؟
- حكيم كلو ما حكيم!
- والحكيم لو قال تدفع كتير، معاك قروش؟
- قروش؟ كم قروش الحكيم ...أكتر من خمسة جنيه؟ بتاع المركب شال جنيه، والبوكسي وصّلني الصينية وشال جنيه، والباص خمستاشر ... والله كريم ... الله بابه فاتح.
عم فرح ادخر ثلاثين جنيهاً بالتمام والكمال ليعالج عينه التي تمنعه النوم من الألم. لو كان على "الشوف" لما همّه ذلك. وما رأت عيناه في هذه الدنيا ليس بالشيء القليل، لكن هذا الألم ماذا يصنع معه؟ لا بد من دنقلا، والله كريم ، وباب الله فاتح. لقد صرف قبل أن يصل إلى هناك أكثر من نصف المصاريف. سمع أن سيد "الركشا" لن يرضى بأقل من جنيهين، لكنه سيساومه حتى يحمله إلى الحكيم بجنيه واحد. سيبقى على لحم بطنه بقية النهار، ولن يحتار في العثور على مأوى بالليل إذا تأخّر عند الحكيم ... "الجامع مو في"، وأكيد لن يعدم العشاء... دنقلا التي يعرفها الناس لا تترك أحداً يبيت طاوي البطن وإن صار صحن الفول بخمسة جنيهات، وطلب اللحم لمن يطلبه اثنا عشر... ما الذي يجري في هذه الدنيا؟
أسأل عم فرح: أولادك وين؟
- ما عندي أولاد. عندي تلات بنيات صغار. مرتي الأولى ما جابت، فكيتها وأخدت تانية جابت البنيات ديل، وهي ذاتها ماتت عامن أول. البنيات إيتينين بِقرن (اثنتان في الدراسة) ، إلا الكبيرة عندها نعيجات بتلقط لهن. الضواين مبروكة ، إلا الحمل البيجي ما بنصبر نربيه ، بنتشّه سريع... العيشة صعبة.
- طيب بيوزعوا زكاة عندكم؟
- الزكاة بيجي إلا شي بسيط ما بيعيش.
- آخر مرّة متين أدوك زكاة؟
- في رمضان أدونا ربعين عيش.
قبل يومين فقط من هذا الحوار كنت أحضر مؤتمراً عن الزكاة بدعوة من المعهد العالي لعلوم الزكاة، قدمت فيه ورقة عن خطاب الزكاة. كم شعرت بالحاجة إلى مراجعة ما كتبت وأنا أستمع إلى عم فرح. أحد المعلقين على الورقة اختصر الموضوع كله في القول إن أفضل خطاب للزكاة هو أن تصرف الزكاة لمستحقيها في وقتها. هكذا دونما حاجة إلى قومة وقعدة!
استند عم فرح على ساعدي وهو ينزل من البص في السوق الشعبي. وكانت أحدث وأجمل عربة في دنقلا تحمله من محطة البصات فوراً إلى عيادة الحكيم مع كفالة بعلاج عينه.
ألم يقل عم فرح إن الله بابه فاتح؟!
osman abuzaid [osman.abuzaid@gmail.com]